ســرد الصمت.. قراءة فى رواية «الشاميرا» لـ«هشام الفخرانى»
- سميائيات الموت فى هذه الرواية تسمح للحدث بلا نهائية الدلالة
- تجربة النص والقارئ فى رواية «الشاميرا» نوع من المقاربة البلاغية التى حدثنا عنها موريس بلانشو
«الطريق إلى الله بين اثنين، وليس مع الله أحد» الحلاج.
«وقال لى: القرب الذى تعرفه مسافة، والبعد الذى تعرفه مسافة، وأنا القريب البعيد بلا مسافة» النفرى.
الشاميرا حقل خصب من الحياة الروحية الإنسانية مطمور عند من يحاول أن يحجبه ويمنعه من الظهور، عارم وطاغ عند الباحث عن الحقيقة، ويرى الفعل الإلهى فى كل حركة كونية من حبة الرمل فى الصحراء، والزهرة فى البستان، إلى السماء المرصعة بالنجوم.
نص سردى يضع القارئ فى زمن الأسئلة الوجودية المتواترة فى صمت دون سلام.
تبدأ الرحلة السردية للشاميرا بحضور يتجاوز الأنماط المألوفة بثقل نصى مقدس ينوء بالسردية عن جفافها ووجودها الأحادى، ومن ثم تخرج كينونة الأشياء فى سميائية علاقات جديدة تربط بين الحدث السردى من جهة وقابلية التأويل لخلق عالم مواز من جهة أخرى.
كل عتبة من عتبات الفصول زمن مطلق تحدث فيه الأحداث الكبرى فى مقابل زمن دنيوى من الخروج، الذى يلزمه عودة إلى حياة تستقبل التجلى الأول وتكونه، فالنهاية عدة بدايات متلاحقة.
وتجلى التنوع فى تقنيات السرد عبر شخصية دلالية «نادر»، الذى ارتبط بمجموعة من الرؤى تنامت فى بنية السرد من خلال « مريم» بكل تحولاتها الكاشفة.
فظهر عبرها كون الكلمة ومعرفية الحدث فى نماذج إنسانية أخرى.
كما أن جدلية الضوء والظلام داخل الوعى خلقت أدب الصمت، فتمخضت عن أسئلة استفهامية لولادة العالم فى رؤية نادر الذى عاش بين كونين.
وتحدد الفعل وانعدام الفعل بالعطاء والتلقى، ما جعل فعل الخلق داخل السرد متكررًا ما لا نهاية عبر «الموت» بأزليته المطلقة.
الراوى العليم يحاور الزمن لا لينتصر عليه، ولكن ليخبرنا أنه كما للزمن سلاحه وهو الموت لـ«نادر» كذلك سلاحه وهى الحياة.
تلك الحياة التى تنتفض من ذاكرة الأشياء، فتلك الأريكة والسجادة التى يحاور نادر مريم المهاجرة من خلالهما، ويتقاطع السرد ببيانو يعزف «زهرة الجنوب».
ونجد على نفس الخط السردى الرائحة، رائحة المسبحة، الرائحة التى ترتبط بالزهور الجافة «سناء العطر الذى لا يغيب (٢١ يناير ١٩٥٠-٢١ أكتوبر ١٩٨٥) ص٨٤، ماذا يريد أن يخبرنا الراوى عن الزمن وعن الميلاد والموت.
لكن فى وسط كل هذه الإخفاقات من الزمن عبر الموت، ينتصر الورد الذى يوضع كل ليلة من «دكتور بهجت» أمام صورتها وهى تلوم بيت الزهور وتستحثه على الانتصار للحياة «الورد الأبيض يا بهجت».
هناك خط سردى آخر يصنع تيمات الحدث وهو «الحلم»، منذ الحلم بنهاية العالم واختلاط الجنس البشرى إلى حلم عالية، التى أوصلتها المحبة الخالصة لبيت الله.
هل الإيمان هو الفعل؟ سؤال يطرحه النص السردى عن رحيل الشيخ مجاهد، عن الصوفى الذى تحدث معه، عن كينونة الطفل الذى يحمل كسرة الخبز والتمر، عن طاهر وحياة وهما يصوران النخلة وهى تنسج البدايات غير آبهين بعذاب جهنم.
ودعاء راقصة الباليه، ذات الحمل الثقيل، لم تكن المشكلة فى بكارة الشرف، بل كل المشكلة فى بكارة الفكرة، الفكرة دائمًا هى ما تنتهك ويفض براءتها انتصار آخر عبر السؤال فى النص من صوت الخطيب فى صلاة الجمعة، وهو يتوعد المصورين بجهنم إلى حياة وهى تستعيد عذرية مريم بخلاص عيسى فى نهاية السرد. «لا تعجلوا، لكل مطر أرض ينزل بها» ص٥٣.
كيف للصمت أن يكون فلسفة للموت وللعزلة وللفضاءات الأخرى الممكنة؟
حاور الراوى الصمت وحاور الموت فى زهرة كما حاور الآخر كذلك فى وحدة التصورات اللا زمنية فى سؤال «هل كان على أن أفتح بيت الزهور صباح الأمس؟ لماذا؟ ربما كنت لن أجد سوى مشهد عبثى صامت لمجموعة من الأزهار الميتة؟» ص ٢٦.
واقع تجريبى سردى خلخل الثوابت الفكرية لسيد الظلام فى حضور مقيد وجزئى؛ ليحتفظ كل فعل بشرى بحقه فى الصمت، كما احتفظ القدر بفضاءات أخرى للغة «وجدت نفسى وحدى فى بيت صنع للصمت ثوبًا من الرهبة وفقدان الزمن» ص٥١.
فتجربة النص والقارئ فى رواية «الشاميرا» نوع من المقاربة البلاغية التى حدثنا عنها موريس بلانشو عن الكتابة ومضامينها، حيث إن العزلة التى صنعها الراوى عبر الزمن لم تكن خلوة فقط، بل كانت تجربة إنسانية كاملة، تكوّن عبرها جوهر الكلمة، فجعل السرد مشاهد رائية مقتطعة للعالم، كما سنذكر بعد قليل عن دور الأمكنة فى صمت اللغة.
ففى بعض صفحات السرد نجد الجمل بدأت «أخذنى الصمت» ص٤٣، ص٤٧ علاقة فردية للأنا خلقت فضاء خاصًا للمتعة مكن المتلقى من خلق تناقضات داخلية جعلت السرد فى توتر دائم، كأنه موسيقى كونشرتو بدأت صاخبة ثم تخفت فجأة؛ لتتحول إلى آخر «صمت للحظات كلما رأيت تواريت» ص ٥٦.
ولاستخراج جميع الدلالات الممكنة للسرد سرعان ما تتحول اللغة إلى حركة مرجعية ذاتية، وكأن فى اللغة قوى متنافرة تأتى لتقويض الرؤية فى الأزهار، وكذلك الأشياء «والأزهار الجافة مستسلمة للصمت» ص ٧٥.
«إن عالم الأزهار ربما يكون السبيل لنسيان عام من الصمت والشلل التام عن التواصل مع الحياة» ص ١٠٤.
إن سميائيات الموت فى هذه الرواية تسمح للحدث بلا نهائية الدلالة وتجاوز التفكير الذى يؤسس طوال الوقت لنفس النتائج، ليتحول بنا إلى مواجهة فيض من الانشقاقات التى لم تعد تتسع للقول «رحل مؤمن مثلما رحل الشيخ مجاهد فى صمت رحل الصديق وسافرت مريم مجاهد، كل التفاصيل مشوشة، تنفلت من ذاكرته، لا يستطيع القبض على شىء واحد مكتمل، حلم غريب بنهاية العالم بدا كفيلًا ليكفر بكل شىء، حتى الأوراق الراقدة فى سكون المنضدة» ص١٤.
نداء الموت، هذا النداء هو فعل من أفعال الخلق للراوى، الراوى الذى يؤسس مرجعية خطابه على سلطة أقوى من سلطة الواقع، هى سلطة الموت وحضوره المتعالى، ليس هذا فحسب، بل أن يكون النداء بلا صوت هو فلسفة من فلسفات العوالم الممكنة التى تتمثل فى عوالم الصمت التى تتمركز مفرادتها فى أروقة النص «كم من رسول جهل أنه يوحى إليه» ص٥٤.
ويقوم التوظيف السردى لهذه العوالم لتفعيل معرفيات جمعية تكون أكثر وعيًا وأكثر شمولية لتفرض وجودها، فالصمت «ينطوى على مفارقة ميتافيزيقية لا يقصد بها أن تدل على نسق جمالى، بل إنها تشكل تحديًا إبداعيًا» من انتظار الموت لنادر، فيستشهد أبوه فى نفس الليلة، ومن الغمر بماء البحر إلى الغمر بمسافة الحب القريبة من مريم والبعيدة عن سوسن ضرغام حتى «يرى وسط كل هذا الموت العبثى زهرة الشاميرا الزرقاء» ص٣٢.
زاوية حضور سيد الظلام والصمت وقتله أزمنة نادر، فهو حاضر معه فى كل وعى وحلم يجعله يدرك رغم ذلك أن مريم جاءت إليه بالمعرفة، فقد عادت إليه بالموت. الموت هو ما يرشده للطريق. ولهذه المعرفة بهجة لا وصف لها. صرخات الموت لا عداد لها، صرخات يقظة، تنقطع فجأة، وتتجدد، صرخات بلا اسم، بلا انتهاء للوصل والمعرفة من الحضور الدائم للأم وطريق الجير وصولًا إلى النخلة حياة وموت مريم.
وفى تمثيل الغياب والحضور داخل النص تبزغ شمس جديدة فى اللعبة السردية التى لعبها الكاتب «ميتافيزيقا الأشياء» بويطيقا مفتوحة تبرز لنا الحقيقة الممكنة للسرد، وهو يضعنا موضع السخرية والتأطير لا التنظير، فتضع الأنا المتناثرة «نادر» فى جدل مطلق للحدث السردى بين دمج العالم فى زهرة وبين قدرة غير نهائية على سد الهوة السحيقة لمحنة الوعى.
منذ أول خيط فجر للسرد تطالعنا سيمياء الأشياء «الحجر الذى يسند الزهرة» تداعيات ومونولوجات داخلية فى عتبة العنوان، فقط تجعل من الحجر كائنًا حيًا يمارس وعيه الوجودى ويشارك فى الحدث، بل يصنعه «فقط إصيص صغير من الفخار يحوى زهرة الشاميرا» ص١٤.
ظهرت الأشياء تشارك النص موسيقاها الخفية كتحرير للمخيلة وتجاوز الحدود الوهمية التى تفصل الواقع عن اللا واقع كبندول ساعة الحائط الذى لا يمل انتظام إيقاعه الرتيب بدا له مخلوقًا أسطوريًا شديد الحرص والحذر.
الراوى العليم دائمًا يشارك الزمن فى متعته بالقضاء على متعتنا عبر الأشياء فنجد «الطوب الأحمر القديم، الحجر الجيرى، صوت الحصى، لون الرمال، سر الأبواب المغلقة والمفتوحة على عالم مواز فى آن واحد، المريلة البيج، الشنطة القماش ذاكرة أخرى للزمن، صنبور الماء النحاسى وهو يقرأ العالم، الحياة داخل خلاط ضخم، سور الشرفة القديم الذى يطل منه نادر على وجوده أمه، الدولاب طواف التجلى وانتفاضة الذكرة، جرس القطار إيقاع خطوات صامتة على محطة الوعى بكيف يصبح المرء برتقالة؟ المصباح المطفأ الذى أشعل الذاكرة وأطفأها موسيقى تصدح على مرثية بيانو.
لم يتوقف السرد عن هذا الحد، بل جعل الأشياء صورة تيار لا نهائى من التخيل يمنح النص ممرًا خلفيًا، نولج من خلاله إلى الفعل الإبداعى لمواجهة الأنا، مسبحة الشيخ مجاهد الخشبية العتيقة تستوعب مستويات الدلالة التى تبرز لنا الشخصية وفاعلية حضورها.
«ترى ما علاقة الشجن بموقد القهوة النحاسى الصغير الممتلئ بالكحول وموسيقى شوبان؟» ص ٧٦.
الموسيقى مع الأشياء تمتلك العالم عند الكاتب حضورًا له القدرة على الإدلاج إلى أدغال النفس المخبوءة وصراعاتها «وقد تكررت تلك الجملة فى رواية بوليميا بعينها» يقتطع بها السرد وهو فى الحقيقة يوصله، هل ذلك لأن الموسيقى قادرة على عزف مقامات الروح كل ولادة صباح؟.
ويتضافر مع الأشياء حضور الأمكنة ذات جدلية خاصة بها، فالأماكن المفتوحة لا نجد بها سوى نادر والأماكن المغلقة تجتمع فيها شخوص الرواية فى تداع حر للذاكرة.
بيت الأم، البيوت الحجرية، فالبيت كما قال باشلار هو جزء من كياننا ووجودنا البشرى وذهب أنه من أهم العوامل التى تدمج أفكار وذكريات وأحلام إنسانية، فبدون البيت يصبح الإنسان كائنًا مفتتًا.
وهذا يطرح المكان الممكن عند الفخرانى ثالوثًا مقدسًا يمثل كقربان لذات الأم من جهة وذات مريم التى تتجاوز زمنية الأنا، فالمكان يمثل فلسفة عدمية للنداء تبعًا لقوالب السرد الحديث بتكسير جدار الزمان والمكان فى النص «كيف لم أدرك قبل اللحظة أن البيوت كالناس لا يتشابهون فى التكوين الخارجى فحسب، بل لا يتشابهون مطلقًا فى الروح؟» ص١١.
ويظل الراوى ينتقل بين الأمكنة ما بين بيت أمه، وجبل الجير، الذى أصبح ملاذًا ليس للزهرة فقط، بل لنادر كذلك، ثم بيت الزهور الذى بدوره ينتقل لا زمنيًا إلى طريق النخل، هكذا كان البناء السردى مكانًا أرضيًا، خطابًا يندمج من بنية الذات من خلوتها إلى امتزاجها بمفردات العالم ثم مكان أثيرى، فالكاتب ينتج فضاءً مكانيًا يتجاوز الواقع المادى الملموس، ويحل محله وعى مكانى وآنى يتمثل فى طرح عالم سردى يتضمن مستويات الحضور والغياب. ثم نعود مرة أخرى لمكانية الأشياء التى توظف دلاليًا سميوطيقًا الزمن المكانى البيت الذى يشبه الكنيسة، الباب المغلق، جدران الحوائط، الغرفة المغلقة، النهر المقدس، الجبل، طرقات الفجر ثم يتوقف السرد فى مركزية «الرؤى لمن أراد أن يرى» ص٥٠.
ونعود بكل هذه الرحلة إلى زمن الزهرة «مريم» التى بدأت فى أطراف السرد بحضور الموسيقى «تهادت نغمات البيانو، فرقصت مريم مجاهد فى مدخل البيض الأبيض، مريم لن تكبر أبدًا» تكررت تلك الجملة فى سياقات السرد أكثر من مرة ماذا يحاول أن يهمس فى عقولنا الراوى، أن مريم لا تكبر، أم أن الزمن ثابت عندها لا يمتثل سوى للشاميرا وهى تتجه بكل كيانها نحو الشمس بعيدًا عن الورقة التى بها ثقوب الظلام.
كيف حضرت أسماء تلك الورود والأشجار فى السرد؟ الشاميرا، النوفاليا، شجرة البورانا، لاسيتا لاروش وهى تعزف المقطوعة البيضاء كل ليلة أم زهرة اليوم الواحد فتلك الزهرة تحتوى الذاكرة، بل مفردات الوجود، هكذا يجيب السرد عن سؤال الراوى، ما الذى يمكن أن تحتويه ذاكرة زهرة تعيش ليوم واحد؟
وفى نهاية أزمان الفجر البركة تتجلى لنا أيقونات السرد، مثل «تمثال ملاك يطل من الشرفة» فى كنيسة الدومينيكان، مريم مجاهد «الوعى الصوفى» وهو يجيب بأن المصورين هم أهل حياة، التى زرعت نخلة طاهرة، مريم المهاجرة «الوعى الباطن»، سوسن «زمن السرد»، دعاء «الحدث الأكبر».
وفى نهاية الرحلة السردية لم يكن الحمل ثقيلًا بل كانت الشاميرا أثقل.