عبقرية القصة القصيرة.. كيف تكتب بلا حواجز على الخيال؟
- لا بد أن تكتب بثقة متخطيًا كل الحدود بين الفكرة وتنفيذها
فى العِقدين الأخيرين من القرن الماضى أخرجت المطابع المصرية عشرات العناوين التى تناولت فن القصة القصيرة. ماهيتها، خصائصها وطرائقها، ما تمتاز به، ما يميزها عن الرواية، روادها عالميًا وعربيًا. من هذه المؤلفات عالميًا كتاب «القصة» لـ روبرت ميكى، ترجمة حسين عيد، إصدار المجلس الأعلى للثقافة (ط١/٢٠٠٦).
«كيف تعلمت الكتابة» لـ ماكسيم جوركى، ترجمة مالك صقور، دار الحصاد، دمشق ١٩٩٠. فى مصر نجد «فن القصة القصيرة» د. رشاد رشدى، مكتبة الأنجلو، (ط١/١٩٥٩). «القصة القصيرة فى الأدب المعاصر» د. على الراعى، كتاب الهلال يوليو ١٩٩٩. القصة القصيرة فى الستينيات، د.عبدالحميد إبراهيم، دار المعارف ١٩٨٨. «فن كتابة القصة» د. فؤاد قنديل، الدار المصرية اللبنانية، ط٢/٢٠١٠).
لكن الكتاب الأهم- من وجهة نظرى- الذى يجب ألا يكون بعيدًا عن كل كاتب قصة، هو «كتابة القصة القصيرة» تأليف هالى بيرنت، ترجمة أحمد عمر شاهين، كتاب الهلال، يوليو ١٩٩٦، الغلاف من تصميم الفنان الراحل «حلمى التونى».
«هالى بيرنت» (١٩٠٨-١٩٩١) قاصة وروائية أمريكية، أشرفت مع زوجها «وايت بيرنت» (١٨٩٩-١٩٧٣) على إصدار مجلة «القصة» الأمريكية لما يقارب الأربعين عامًا، لها عدة روايات منها «ساعة على الحائط»، «امرأة ممسوسة» ومجموعة قصصية بعنوان «هذا القلب.. هذا الصياد». خلال عملها كمحررة ومسئولة عن مجلة «القصة» قامت بنشر أكثر من ألفى قصة لمعظم الكتاب المعاصرين، وأسهمت فى اكتشاف عدد من أشهر كتاب القرن العشرين مثل «ترومان كابوت»، «نورمان ميللر»، «جوزيف هيللر»، «تنيسى وليانز»، «وليام سارويان» وغيرهم.
يتكون الكتاب من تسعة فصول، تناقش كل ما يهم القصة القصيرة، بداية من التعريف بها، كيف تكون قاصًا، عناصر القصة القصيرة، بداية من البحث عن قصة وأثر الذاكرة فى خلق عوالم قصة.
الحبكة، الشخصيات، الأسلوب، الكاتب والكتابة، ثم تنتقل المؤلفة إلى مراحل القصة القصيرة، أهمية البداية فى نجاح القصة وجذب القارئ لها، قلب القصة أو ما سمته المواصلة والنهاية ثم المرحلة النهائية للقصة، فى الفصل الأخير تمنح المؤلفة لكاتب القصة عدة ملاحظات مهمة، ونصائح بالغة القيمة هى روشتة نجاح قيمة. تختار بعدها «هالى بيرنت» من بين أوراقها ست قصص أمريكية ناجحة تمثل القصة القصيرة الجيدة بناء على رؤيتها وخبراتها المتراكمة على مدار أربعين عامًا، لأنها ترى أن قراءة القصة أكثر أهمية من التنظير حولها.
لكن المترجم يقول فى مقدمته: «سمحت لنفسى أن أستبدل أربعة من هذه القصص. قصصًا موازية مماثلة من بلدان أخرى، معتمدًا فى ذلك على مجموعة من النقاد، لأفضل القصص التى نُشِرت فى بلد ما، من السلسلة التى أصدرتها دار «بنجوين» للنشر بعنوان كتابات جديدة من..». مختتمًا مقدمته بعبارة: «وأرجو ألا أكون قد تجاوزت».
الحقيقة؛ إن المترجم تجاوز! إذ ليس من حقه التغيير بالحذف أو الإضافة، وتحريف الأمانة التى بين يديه. تخيل! لقد سمح المترجم لنفسه بحذف أربع قصص اختارتها بعناية فائقة كاتبة لها باع طويل فى فن القصة القصيرة، تشرف على مجلة عظيمة ذائعة الصيت، لديها القدرة والمكانة العلمية والأدبية وتجارب عميقة مع كبار كتاب القصة القصيرة فى العالم!
تستمد «هالى بيرنت» تعريف القصة من الروائى الأمريكى إرسكين كالدويل (١٩٠٣-١٩٨٧) بأنها «حكاية خيالية لها معنى. ممتعة بحيث تجذب انتباه القارئ، عميقة بحيث تعبر عن الطبيعة البشرية.» وتضيف هالى قائلة: «لا يهم الإتجاه الذى تقود إليه القصة انتباه قارئها ما دامت ممتعة وجذابة.» تستدل على ذلك برأى تشخوف أعظم من كتب القصة القصيرة فى العالم إذ يقول: «هل تشده القصة وتصدمه وتمتعه؟ هل تبعث فيه شعورًا بأنه قد خاض تجربة أكثر عمقًا من تجاربه الخاصة؟».
تذكر هالى أن كل شخص لديه-على الأقل- قصة واحدة يرويها، قصته هو، بينما الكاتب لديه أكثر من قصته الخاصة، قصص عن أصدقائه وأقاربه، كل مَن قابله من الأطفال والكبار، الغرباء، من خلال التنوع الساحر يمكن للكاتب أن يتحقق. من هنا فإن نقطة البداية فى البحث عن مادته القصصية تكمن فى تجاربه الخاصة، علاقاته، لكن تبقى الموهبة وحدها فقط هى التى تصوغ عملًا فنيًا من اللحظات المأساوية أو الفكاهية، المملة أو التنبؤية التى لاحظها أو شعر بها الكاتب فيما حوله من حيوات. وعلى الكاتب أن يؤمن بما يقوده إليه خياله وبما يكتبه، عليه أن يتدرب بشدة حتى يوقف الشك والارتياب وعدم الإيمان بما يفعل. عليه ألا يهتم بما يكتب فقط، بل يؤمن بلا جدال أنه يعيد خلق الحقيقة، أن الحقيقة الخيالية فى قصته هى الحقيقة ذاتها، ولا يدع مجالًا لأحد فى أن يشك فى ذلك.
تقول هالى: «إذا كتب المرء قصته بأقصى ما لديه من إيمان، فإن القصة ستصل إلى القارئ بالإيمان نفسه الذى كتبها به،...، إذا كان الانغماس ناقصًا فى عملك، فإن قصتك ستترك فى القارئ أثرًا فاترًا، وربما يشعر بالزيف والتصنع فى كل ما تقول،...، أنت لديك الرغبة، تملك الموهبة، على استعداد للتمرين والتدريب، إذن أضف إلى ذلك الإصرار والعناد فى مواجهة الرفض، وتمتع بعادة النقد الذاتى، والثقة بالنفس، كل ذلك بشكل متوازن بالطبع، وتذكر دائمًا أن الكاتب إذا كبح ذاته الحيوية وتجاهل شيطان إبداعه الفريد، فإنه لن ينجح ولن يقرأه أو يذكره أحد».
من هنا تبدأ «هالى بيرنت» فى السير نحو خلق قصة قصيرة من الخيال. البحث عن القصة، بالتفتيش فى الذاكرة وصناعة الحبكة، فعين الكاتب الموهوب لها القدرة على التسجيل القوى للأحداث، فتستشعر مقولة كاتبة القصة الإيرلندية «إليزابيث بووين» (١٨٩٩-١٩٧٣): «عين الكاتب طوافة، ترى كل شىء بحالة اندهاش وتساؤل دائم، لذا فليس ضروريًا أن يبحث الكاتب عن موضوعه، فهو كالطفل، دائمًا فى حالة من الحساسية سريعة التأثير بأى شىء، بل أكثر من ذلك، فإن الموضوع هو الذى يجد الكاتب. فأى شىء تقريبًا قد يجذب انتباه الكاتب، يمسك بخياله، يثير فيض سرده، مثل عبارة سمعها صدفة، صدى حادثة وقعت فى شارع، وجع أو شىء يلح عليه، رد فعل ذاتى ضئيل لحادثة عالمية قريبة».
حين تبدأ الكتابة تدهشك ذاكرتك بنزواتها، فى تخزين الصور والعبارات فى الذهن، لا شىء يمر عبر وعى الكاتب دون فحص أو انعكاس على هذا الوعى، كل الأشياء تحضر! لا شىء سبق أن صدمك، أدهشك، آلمك أو سرَّك يمكن أن تنساه ببساطة.
يومًا ما ستستعيد كل هذا، حتى لو لم تكن تقصد، وقد تكون نسيته تمامًا، لأن ذهن الكاتب «مخزن ووسيلة» من خلالهما تتجدد الحياة كل يوم، ومن خلال الربط بين المخزن والوسيلة يبدع الأدب. تقول هالى: «لم أعرف كم يمكن أن تكون الذاكرة ثمينة-حتى المتقلبة- إلا بعد أن بعت قصتى الأولى «الصيف الثامن عشر» كانت القصة تعتمد على حادثة وقعت لى فى سن المراهقة، لكن فى الواقع كل الشخصيات التى أبدعتها لم تكن حاضرة فى الحادثة الأساسية، لكنى سحبتها من الذاكرة لوجوه أخرى لاحظتها فى سنوات لاحقة!».
من هنا نقول: «إذا كانت الرواية تتعلق بنمو الشخصيات أو المواقف، فإن القصة القصيرة هى لقطة درامية من نمو الشخصية، أو شريحة من الحياة مقتطعة من سياق كامل ومع هذا يمكننا القول بأن كل شكل له حبكته، التى قد تكون عن أشياء كثيرة، الشخصية أو الخيال، السخرية أو المنطق وغالبًا عن غير المتوقع، والحبكة لا تدهش القارئ فقط، بل المؤلف أيضًا. يقول تولستوى: «إن الكاتب الجيد هو الذى يستطيع أن يكتب قصة كاملة من شجار عابر رآه فى الشارع!».
الشخص المتأمل فقط لن يكون كاتبًا، لأن لحظات التأمل لا بد لها من مخرج، ومداومة ملاحظة حيوات الآخرين والاستغراق فى مراقبة الرجال والنساء، حبهم وآلامهم، أفراحهم وأحزانهم، لن تتركه وحده وستشغل وقته، فلا بد للكاتب أن يجلس لنفسه ويتمعن فى نشاطات خياله الخاص «ليلعب اللعبة حسب قواعد الخيال، حينئذ سيجلس إلى مكتبه ليكتب ما يستحق ويجد متعة فى ذلك».
يقول «وت بيرنت» لتلاميذه: «ابدأ بملء خزان خيالك بكل ما يمكنك جمعه من شخصيات فى حياتك لتستخدمها فى المستقبل، وحين يمتلئ الخزان افتح البوابات ودع الفيضان يسيل لما أنت على استعداد له، وحين تفعل ذلك افعله بجرأة»، بينما يقول ڤولتير: «على الكاتب أن يكون مختفيًا فى كل عمله، كالإله فى السماوات، عليه أن يرى ويهتم أكثر من الإنسان العادى بحيوات الآخرين، بحيث يمكنه أن يرى التشابه فى الشخصيات المختلفة، التى لا يبدو عليها ذلك فى الظاهر».
تنظر «هالى» إلى القصة بأنها يمكن أن تعالج كل شىء، الإنسان رجلًا وامرأة، الحيوان، الطير، وكلما بحثت بصبر وشحذت انتباهك بحب ستكون كتاباتك أفضل، نحن نمضى مع شخصياتنا حيث تقودنا، وبما أن الزمن يترك بصماته علينا، فلا بد أيضًا أن يترك بصماته عليهم. يمكنك أيضًا إضافة الحيوية والصدق والشرعية على شخصياتك بأن تدع شخصيات أخرى تتحدث عنها بشكل جيد أو ردىء، بتعاطف أو نفور قبل أن تظهر فى المشهد أو بعده.
فى القراءة والكتابة تعمل الأذن والعين معًا، فنحن لا نضع الكلمات على الورق فقط، بل نسمعها بالمعنى والإيقاع، بإشعاعها العاطفى، ولا بد أن تتحرك حواسنا بالكلمات الفريدة الخلاقة الحساسة التى كتبناها. لقد كتب عمالقة القصة قصصًا لا تنسى عن العواطف، العلاقات بين الجنسين، الحياة والموت. لم يكن الأمر لديهم تسجيلًا للأحداث. انظر د. هـ. لورانس وقصصه المركبة، هيمنجواى وقدريته وقصصه المصقولة، صدق هنرى ميللر وصراحته، حيل التداعى الحر عند جيمس جويس، كل هذا يعبر عن التفرد الأسلوبى لهؤلاء الأدباء بين أقرانهم. يبهرنا أوسكار وايلد حين يقول: «كنت أصحح بروفة لإحدى قصائدى طوال فترة الصباح؛ حذفت فاصلة، وبعد الظهر أعدتها ثانية!».
مع الوضع فى الاعتبار أن الأسلوب النثرى ليس شعرًا؛ يقول القاص والروائى «مانويل كومروف»:
«حين أجد نثرى أخذ بشكل ما إيقاع الشعر أتوقف فورًا. فليس مهمة النثر أن يكون شعرًا».
تنصح هالى بيرنت الكاتب بأن ليس الأسلوب الجيد هو استخدام الألفاظ غير الشائعة، بل استخدام الكلمات العادية بطريقة غير شائعة، البساطة فى الكتابة، أن يفكر فى الكلمة، يزنها، لتؤدى معناها الحقيقى، تأثيرها، مدلولها، لونها. ولكى يتحسن الأسلوب يجب على الكاتب أن يقرأ أفضل ما كتبه السابقون والمعاصرون، يمعن فى القراءة ويتلذذ، كأنه يتناول وجبة شهية.
عن الكتابة والكاتب تطرح «هالى بيرنت» سؤالًا: «هل على الكاتب انتظار الوحى والإلهام؟»
ثم تُجيب: «حين تلمع الفكرة فى الذهن، بكل إمكاناتها، طبقات تفسيرها، فإن الخيال يضفى عليها من صوره، وعندما يحين وقت الكتابة، فليس على الكاتب إلا الانصياع لما يمليه عليه خياله.» تمامًا كما قال تشيخوف: «حين ترفرف أجنحة العقل والخيال، فما علىَّ إلا الانطلاق!».
تخبرنا «هالى» أن خصمك الرئيس فى لعبة الكتابة ليس النقاد الذين ستواجههم، ولا الأصدقاء أو الناشر، وليس الوقت الذى تستغرقه فى الكتابة، بل الخصم-لسوء حظك- هو أنت، مقاومة خيالك، تساؤلك عن جدوى الوقت الذى تنفقه فى الكتابة، عدم ثقتك فى قدرتك على توصيل ما فى ذهنك إلى القارئ.
كل هذا يقف عقبة أمامك؛ لا بد أن تكتب بثقة، متخطيًا كل الحدود بين الفكرة وتنفيذها، لا تسمح لعقبة أن تعترضك. احلم؛ لا تهتم بأن تكون أفضل من معاصريك أو السابقين، فقط كن أفضل من نفسك.