سردية الصراع بين القصة والرواية
فى ربيع عام ٢٠٠٤، وعلى هامش مؤتمر «القصة القصيرة والتجليات الثقافية» الذى أقيم بضاحية القناطر الخيرية، أقيمت حلقة نقاش فى شكل مائدة مستديرة، جمعت عددًا من كتاب القصة والرواية البارزين فى مصر، دار النقاش كإجابة عن سؤال طرحه منسق الحلقة «لماذا تراجعت مكانة القصة القصيرة بين فنون السرد الأخرى؟».
هذه الصيغة وضعتنا مباشرة فى قلب قضية قديمة طالما استهلكنا فيها أطنانًا من الورق، فحين نضع القصة القصيرة كنوع متفرد فى مواجهة الرواية كنوع آخر، فمن المرجح أن يدور الحوار حول قضية النوع الأدبى، ويصبح من حقنا أن نطرح سؤالًا.. إلى أى مدى تتفرد القصة القصيرة كنوع مختلف تمامًا عن الرواية؟.
من المفترض أن نسلم بداية بهذا الفصل بين فنين سرديين، وبهذا الفصل الحاسم يكون نقاشنا حول ما إذا كانت القصة القصيرة تعيش أزمة وجود؟ ومع هذا التسليم المبدئى يصبح من الممكن إثارة عدد من الأسئلة الفرعية لتفكيك السؤال الأول.
فإذا كانت القصة القصيرة قد تراجعت حقًا فهل هو تراجع كمى أم كيفى؟
وهل هذا التراجع يعنى أن المبدعين ما عادوا يرون القصة نوعًا قادرًا على إشباع طموحاتهم وأسئلتهم الجديدة، فى حين تمنحهم الرواية هذه المساحة الأنسب للتعبير؟
وهل يرتبط الأمر بالخصائص الفنية للنوعين؟ وهل يعنى هذا أن القصة القصيرة كأحدث فنون الأدب استنفدت طاقتها سريعًا، بما يعنى أنها كانت تحمل فى جينات تكوينها عوامل موتها؟
الأسئلة تتجه بنا إلى الكلام عن النشأة، لكن النشأة كثيرًا محفوفة بالغموض، وعلينا بدايةً، مراعاة أن نشأة القصة فى الأدب العربى تختلف فى ملابساتها عنها فى الأدب العالمى. فمن المعروف أن الرواية فى أوروبا سبقت القصة فى الظهور إلى الحياة بأكثر من قرن، فى حين يذهب مؤرخو الأدب إلى أن ظهور القصة كان مع بدايات القرن التاسع عشر. يعنى هذا أن الرواية كانت قد استقرت كشكل أدبى، ونضجت فى بنائها وعناصرها على نحو يمنحها حق الوجود المكتمل والسابق على القصة، وهو الأمر الذى وضع القصة فى مواجهة غير عادلة مع الرواية، ودفعها طوال الوقت للسعى إلى تحديد ملامحها الخاصة ورسم هويتها على نحو مستقل تمامًا عن الرواية. وحتى لا يظن البعض أن القصة ليست سوى روايات قصيرة، أو على نحو ما نقول إن هذه القطعة من الخشب هى جزء من الشجرة، كانت القصة بوصفها فنًا جديدًا تحاول أن تدفع عن نفسها وصاية الرواية.
وفيما بعد كانت الرواية تسعى إلى تجديد نفسها، تتخلص من أثقالها وأثمالها، تستبدل أثوابها القديمة بأخرى جديدة، لتكون جديرة بمواجهة هذا الفن القصى الطموح الشره.
وعلى هذا النحو الدرامى، يبدو الأمر كما لو أن الأنواع الأدبية تعيش فيما بينها صراعًا، كذلك الذى تعرفه الثقافات الكبرى. الأمر هذه المرة يحدث داخل الثقافة الواحدة، وفى سياق آخر فإن القصة القصيرة فى شكلها الأوروبى عاشت صراعًا مماثلًا مع فنون السرد الأخرى كالمسرح، والرواية أيضًا، فالرواية فى الواقع ولدت من رحم المسرح، والمسرح نفسه ولد من رحم الأساطير والملاحم. لكن هذا الصراع لا يعنى نفى أحدهما للآخر على نحو ما فعلنا فى مطلع زمن الرواية، بقدر ما هو فرصة لكل فن من هذه الفنون أن يطور نفسه ليؤكد هويته الفنية الخاصة، وهو نفس ما فعلته السينما فى أوان مولدها. نعرف أنها أفادت من الروايات الكبرى أمثال «آنا كارنينا، ذهب مع الريح، أحدب نوتردام، أوليفر تويست... إلخ».
لكى تنهض السينما استعانت بالأدب، أما الآن فنحن نرى الأدب يستعين بالسينما، فلا يستوقفنا أن كثيرًا من الروايات المطروحة، والتى حازت على جوائز، هو إعادة إنتاج لأفلام سينمائية شهيرة، فضلًا عن هوس الأجيال الشابة بأفلام الرعب، والمستقبل، والخيال العلمى الذى بدأته السينما مع «مارى شيلى» فى روايتها الشهيرة «فرنكنشتاين»..
كل ما سبق يحيلنا إلى معنى واحد، أن ما نقصده بالصراع بين الأنواع الفنية، هو معادل فنى لمقولة «تداخل الأنواع» التى تغذى بعضها البعض.
يجب أن نفكر فى سياق سردية تاريخية تطمح أن تفسر العلاقة بين الأنواع بعيدًا عن دواعى نشأتها وميكانيكية الأداء النقدى عند الشكلانيين. وظنى أنه صراع لا ولم يتوقف لحظة حتى الآن، ومن ثم فإن النتائج والاحتمالات هى مثلها فى كل صراع، إزاحات ومعارك صغرى تنتهى بانتصارات وهزائم هنا أو هناك، لكنها فى النهاية عمليات دمج وتغير وتطور، لكن لا شىء يموت. ثمة جديد يولد فى كل لحظة، فحتى الرواية فى بدايتها الأوروبية عانت أزمة واضحة فى مواجهة مولد القصة القصيرة، التى أفادت من تقنيات جديدة منها التكثيف الذى لم تعرفه الرواية وقتها. وبهذا استطاعت القصة أن تواكب متطلبات المجتمع الصناعى الذى وصف بعصر النهضة، فيما كانت الرواية فى أغلب حضورها ما زالت عالقة فيما يعرف بروايات المدفأة، حيث التزامها بالأساطير والملاحم والحكايات الشعبية كتلك التى عرفت بحكايات كانتربرى التى تشكلت من «٢٤» حكاية، والتى تستهدف التسلية فحسب. وهذا ما دعا «مالكوم برادبرى» أن يقول فى كتابه «الرواية اليوم» إن «الرواية قد وصلت إلى وعى ذاتها متأخرة»، مؤكدًا أنها أفادت من القصة، التى ولدت فى عصر النهضة الصناعية، فأحالت إلى بنيات وتقنيات جديدة لم تعرفها الرواية من قبل.
وعلى الرغم من أن القصة العربية بدأت متأثرة بالقصة الأوروبية فى نشأتها الأولى، إلا أنها وصلت إلى وعى ذاتها سريعًا عند محمد تيمور، وحققت نقلة نوعية مع مدرسة الفن الحديث التى دعا إليها يحيى حقى.
هذا يفسر لنا، أن الرواية المصرية لم تحتج وقتًا لتصل إلى هويتها الخاصة، على الرغم من البدايات الأولية البسيطة لها فى «زينب» لهيكل عام ١٩١٣م، إلا أن «عبث الأقدار- ١٩٣٩» لمحفوظ كانت بداية واعية بطبيعة البناء الروائى. وفى كل الأحوال فالرواية المصرية خاضت تجربتها الخاصة فى سبيلها إلى مستويات عليا من النضج تأكدت بجائزة نوبل.
إن مسيرة كل من القصة والرواية شهدت تآزرًا وتراسلًا فيما بينهما، ولم تعرف هذه الخصومة المفتعلة إلا بعد مقولة زمن الرواية، التى تحولت إلى واقع، سلمنا به دونما محاولة للتفكير والنظر فيه ومراجعته، وكأنه قرار من سلطة عليا.