القديسة.. سر سناء جميل
- سناء جميل قدمت ما يقرب من مائتى عمل على المسرح
- طردها أهلها من البيت فسكنت بيوت المغتربات بمساعدة زكى طليمات
كم كنت أحب الكتابة عن هذه السيدة؛ لكن لعنة الله على التردد. إنه الخوف ألا تقدم جديدًا.
مَن ذا يضيف إلى الشمس تعريفًا وتقديمًا، مَن ذا الذى يمنح الماء جلالًا وقيمة؟
«سناء جميل» أو «ثريا يوسف عطالله»، مواليد ملوى فى «٢٧ أبريل ١٩٣٠- ٢٢ ديسمبر ٢٠٠٢».
هى الملكة، الإمبراطورة، سلطانة المسرح، قديسة الفن العربى، زهرة الصبار، السيدة الجريئة، الصريحة حد الصدام، العنيفة، العصبية، المرتبة، المنظمة، الرقيقة، ابنة الأصول والغنى، الفقيرة، القنوعة، الشابعة المتشبعة، المثقفة، الحكيمة.
منذ نفيسة فى فيلم «بداية ونهاية» «١٩٦٠»؛ كانت البدايات، لكنه لم يكن أبدًا نهايتها. «سناء جميل» المطرودة من بيت أهلها، المغضوب عليها، والتى سكنت أحد بيوت المغتربات، بفضل مساعدة العظيم زكى طليمات، عاشقة الفن، تقر بأن لا مصير لها إلا ما عشقت، ولا حياة إلا فى ظل ما أحبت.
إنه «الفن» يوم كان ذا جلال وقدر؛ قدمت أحد أعظم أدوارها على الإطلاق، وهى الفتاة التى تحبو فى دنيا السينما.
«سناء» تخرج كل ما تحمله من فزع ورهبة داخل غرفة الحجز؛ تصبح نفيسة، لا شىء إلا نفيسة، تسمع المشبوهات وأرباب السوابق يتغنين باستهزاء:
«يا حلوة يا بلحة يا مقمعة.. شرفتى إخواتك الأربعة».
نفيسة على نيل منطقة الزمالك؛ تقف على حافة الجسر، تضرب وجوهنا قبل أن تنتحر، نظراتها سياط تلهب ظهورنا، نحن «المشاهدون، المجتمع، النظام الفاسد» دقات قلبها طلقات رصاص تخترق ضمائرنا قبل عقولنا، بصائرنا، كل حواسنا كمشاهدين! نشعر جميعًا بلا استثناء بأننا «المنتحرة» نقف على شفا الجحيم رغم الماء! ليس من مخلوق يصرخ «قف». الأخ؛ يدفعها لتنهى حياتها، إنقاذًا لحياته، مستقبله، شرفه الهش. هذا الأخ «حسانين» حين وقف وقفتها بعد صحوة ضميره، لم نعره انتباهًا، لم نتأثر بنهايته، فقط نفيسة «أخته» تؤلمنا، تشعرنا بوخز ضمائرنا!
أبكت نفيسة المجتمع، ونالت منه. «حسانين»- عمر الشريف- يرجوها أن ترفض صفعته قبل انتحارها:
- يا سناء بلاش القلم، أنا إيدى طارشة!
- أنا مش سناء؛ أنا نفيسة أختك. القلم لازم يكون قلم، اتفضل يا أستاذ.
ويتوقف التصوير أسبوعًا؛ الأستاذة سناء خدها متورم!
يقول الأستاذ «نجيب محفوظ»: «لقد قالت سناء جميل فى (نفيسة) بكل ما لم أستطع كتابته أو التعبير عنه بالقلم».
«نفيسة» غير «حفيظة» زوجة العمدة فى «الزوجة الثانية». العمدة «صلاح منصور» يصارع، يتحدى، يقف أمام سيدة جاءت إليه من أساطير مصر القديمة، فلاحة من ريف مصر، تعشق الحياة، وتتآلف مع الخلود والنماء، إيزيس جديدة بروح ستينيات القرن العشرين. الصراع بينهما يبدو فى خلود أعظم عبارة لها فى السينما المصرية:
- الليلة يا عمدة. فيرد لها الصاع صاعين قائلًا:
- هى حبكت!
فى فيلم «المجهول» إخراج أشرف فهمى- ١٩٨٤؛ الجبار عادل أدهم، يتنازل عن كل ما للفنان من إمكانات، يطرح المعطيات أرضًا، فلا يرتكز إلا على تعبيرات وجهه، لغة عينيه، انطباعاته!
أبكم أصم، أمام عملاقة التمثيل والتعبير بالوجه ولغة العيون، فوق كل هذا، هى أم تلهث وراء ابنها- ضحيتها- فلا تعيدها الصرخات، أنينها، الهرولة خلف شخص، اختارته تحديدًا، كى لا يتسمع أسرارها، ولا ينطق بما شهده!
نشعر بالعداء تجاهها؛ لكن فى غمضة عين، تسلب من الإرادة، تجعلنا مع أم بينها وبين فقد ابنها لحظات!
أسمع رسول الله حين يقول: «صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة»؛ سمية عندما تتمزق أوصالها فى الرسالة، تقطع قلبى، تمزق جسدى معها، إلى حد يجعل زوجها الأستاذ «لويس جريس» يتساءل هل سناء أسلمت، فأتحول إلى الإسلام كى يصح زواجنا؟
«فضة المعداوى»؛ امرأة هى نتاج التشوهات، تجسيد لعصر الانفتاح، الانقلابات المضطربة، الهوس المادى، هزائم القيم والأخلاق وكل صادق سليم!
«ولا يا حمو.. التمساحة يلا..» يصمت الدكتور «أبوالغار» رغم دفاعاته، يصيبنا الفيروس، نصمت معه، بل إن المجتمع يضربه الخرس المركب، منذ سمع عبارتها تلك، فلا يتمرد، يكتفى فقط بالألم والحسرة دون أن يتمرد!
تسأل الأستاذ أسامة أنور عكاشة: «الست دى مسترجلة؟» لكى تفهم طبيعة شخصية «فضة المعداوى»، ثم تستنكر كلمة «شمس» فتقول: «مفروض فضة تقول (سمس) فهى امرأة جاهلة». وأسامة أنور عكاشة يستمع إليها منبهرًا، مذهولًا، كأنه يستمع إلى سيناريو وحوار لم يستمع إليه من قبل، وهو الذى كتبه!
فى «اضحك الصورة تطلع حلوة» يسلك العملاق «أحمد زكى» الطريق نفسه الذى سلكه «عادل أدهم» قبله ومعه فى سواق الهانم. فيصمد أمام هذا الطوفان الهادر والبركان المتفجر! تقول زهرة الصبار «سناء جميل» فى أحد أعظم أدوارها، مستنكرة الوضع الذى آلت إليه مصر:
- فى إيه يا سيد؟ دانا شيلت النكسة فوق دماغى سنين طويلة، ولفيت بيها البلاد، لحد ما وقعت وانكسرت تحت رجليه. لكن مكنتش عارفة إن فيه نكسة تانية، مستخبية! سيد طمنى على بنتنا (تقصد مصر) فيرد ابنها سيد قائلًا: «اطمنى يامه، البنت بخير، أنا عارف إنها بخير!».
وفى حوار بين سيد وأمه من أجمل ما رأيت فى السينما المصرية، تقول العملاقة سناء جميل:
- «دا إحنا صغيرين قوى يا سيد..
- لا يامه؛ محناش صغيرين، إحنا كبار قوى، بس مش عارفين نفسنا!
تقول العظيمة سناء جميل عن العبقرى «أحمد زكى»: «أنا أنحنى لهذا الفنان.. أنحنى له، لأنه فنان عظيم!»، ويجب أن أسجل هنا أن السيدة «سناء جميل» قبل أن يقف أمامها أحمد زكى فى سواق الهانم. قالت له عبر الهاتف: «نفسى أمثل قدامك يا أحمد قبل ما أموت».
فى مسرحية «الحصان» جملة، كلما جاء موعدها على المسرح، تجهش العملاقة سناء جميل بالبكاء:
«الإنسان المصرى العظيم، عازف الهارب والناى، أول فيلسوف ومفكر، صانع أول حضارة، هذا الإنسان العظيم.. إزاى يتحول من مظلوم لظالم لنفسه؟ إزاى.. إزاى؟».
قالت سناء جميل:
«فى حاجة اسمها عيب للمسرح.. المسرح مش كباريه، المسرح مسرح يُحترم. المسرح ياما داست على خشبته ناس عظماء.. لهذا يجب أن نحترم المسرح».
«أكتر حاجة تسعدنى هى ضحكة لويس زوجى، لما بيضحك بحس إن قلبى بيرفرف كده!».
«بعد أن طردنى أخى من البيت لأنى قررت أن أصبح ممثلة؛ لم أجد غير بيت الأستاذ سعيد أبوبكر وزوجته، فتح لى بيته ثلاثة أشهر، وبعدها فى بيت المغتربات، ثم فى شقة لا عفش فيها. نمت على هدومى لأنى لا أملك مرتبة! هدومى اللى نمت عليها هى اللى عملت سناء جميل، إذا ما كان هناك شىء اسمه سناء جميل».
«أنا أرفض المستحيل؛ لكنى لا أنكره، فهو موجود. قصة حياتى شىء من المستحيلات! لقد أثبت لنفسى ولأهلى الذين طردونى من بيتى أن البنت الصعيدية دى ممكن تكون ممثلة محترمة. أهلى قالوا: هو إحنا علمناكِ عشان تكونى مشخصاتية؟ فأثبت لهم مع الزمن- وهم عايشين وشايفين- إن أنا سفيرة محترمة لبلدى فى كل مكان».
«عمرى ما بخلت فى أى موقف إنى أعطيه كل ما عندى من إحساس وحب واحترام، أنا أحترم العمل جدًا، أحترم المسرح والسينما، أحترم العمل الفنى عمومًا، أحترم كل عمل يؤديه الإنسان بإخلاص وصدق وإتقان».
«المسرح هو الموجه الأول؛ هو المؤثر الأول فى الجمهور، ومن خلاله تستطيع أن تقود فكر الناس، إذن المهم أن تسأل نفسك ماذا أقول، وماذا أقدم للمجتمع؟».
«لم أدخر شيئًا لشيخوختى؛ إلا جمهورى، اسمى، وربنا يخلى لى لويس.. ده كل اللى أمتلكه فى الحياة».
«لما يقابلنى إنسان فى الشارع ويقول لى: (روحى يا شيخة ربنا يخليكى لمصر.. دا بكنوز الدنيا كلها)».
هى سيدة مصرية، فنانة عظيمة، وربة منزل، قبل أن تكون ممثلة مسرح عملاقة أو سينما جبارة، فهى تطبخ وتمسح وتكنس وتكوى الهدوم بنفسها، دون الاعتماد على أى شخص أبدًا.
ناقشها الأستاذ «لويس جريس» الزوج فى موضوع الإنجاب، قالت: «أنا مش ممكن أخلف وغيرى يربى» إشارة إلى الدادة. ولانشغالها وانشغاله، قررا عدم الإنجاب، لكنها قبل وفاتها قالت له «أنا كنت غلطانة قوى يا لويس!».
«سناء جميل» قدمت ما يقرب من مائتى عمل؛ على المسرح قدمت «طبيب رغم أنفه، ماكبث، الحجاج بن يوسف، زواج الحلاق، ابن جلا، الدخان، سقوط فرعون، الحصان، قاتل الزوجات، رجل الأقدار، شهرزاد، مريض بالوهم، جيفارا، شمس النهار». كذلك عشرات من العروض المسرحية الفذة التى لا يمكن نكرانها أو نسيانها.
فى السينما قدمت «بداية ونهاية، فجر يوم جديد، بلال مؤذن الرسول، عندما يأتى المساء، المستحيل، الزوجة الثانية، البعض يعيش مرتين، الشوارع الخلفية، حكمتك يا رب، توحيدة، الشك يا حبيبى، المجهول، السيد كاف، سواق الهانم، اضحك الصورة تطلع حلوة، الرسالة».
لأنها ابنة العائلة الأرستقراطية؛ بعد وفاة والدها ووالدتها وهى فى سن العاشرة، أرسلها أخوها الأكبر إلى مدرسة «الميردى ديو» الفرنسية الداخلية، ودفع لها مصاريف التعلم حتى تصل إلى الثانوية «دفعة واحدة» ليتخلص من أعبائها! لم تتقن العربية، وبعد اختبار الأستاذ زكى طليمات لها، تبناها، ووضع لها منهجًا لتعلم اللغة العربية، وأحضر لها أستاذًا يعلمها اللغة العربية، كما طلب منها قراءة القرآن الكريم، وقراءة كتاب «كليلة ودمنة» بصوت مسموع.