فيروز.. الزمان الفيروزى
عزيزتى فيروز
بحبك كتير
بس هالسيارة مش عم تمشى
لانو ما ضل معنا حق بنزين
والقهوة اللى ع المفرق سكرت وصرفت الشغيلة
واديش كان فى ناس ع المفرق تنطر ناس؟
أجت قذيفة وجابت أجلهن
ووقت سألت حبيبى لوين رايحين؟؟
قالتلى تروح روحك وين بدنا نروح بزخ الرصاص والدج؟
وجوزها لأم سليمان ما طلع عم ياكل رمان بالحقلة
طلع مخطوف
وأم سليمان باعت اللى فوقها واللى تحتها
لحتى تطالعو وتدفع المعلوم
وبعد ما ضاع شادى استشهد أحمد وعلى وميشال
لذلك انا قررت آخذ الناى وغنى
بلكى هالعالم
تصحى بقى وتتذكر إنو سوا ربينا
زياد الرحبانى لوالدته..
سنة ١٩٣٥، ولدت فيروز العظيمة، كانت شتى البلاد العربية، ومنها لبنان تخضع للاحتلال الأجنبى، الإنجليز فى مصر والعراق والخليج، والفرنسيون فى الشام، سوريا ولبنان والمغرب العربى والإيطاليون فى ليبيا، ومثل الخلاص من المحتل الأجنبى وإبطال حجته فى حماية هذه الطائفة أو تلك أو أصحاب هذا الدين أو ذاك، هدفًا أسمى للناس جميعًا على اختلاف طوائفهم، فحل بينهم الوئام والسلام والتسامح والتعاضد وتجلت قيم الشهامة والمروءة بين الناس، فى هذا الوقت ولدت فيروز، لمطبعجى كاثوليكى فقير وأم مارونية، وتفتح وعيها على الجارة التى تحممها وتمشط شعرها هى وإخوتها تعاطفًا مع أسرتها الفقيرة، والجيران الذين يتناولون طعامهم معًا، ويتقاسمون الألم والسرور، وكأنهم عائلة واحدة، البيوت المفتوحة على بعضها، وكل طائفة تبرز أجمل ما عندها، ويتعاضد الناس لمواجهة الفقر ومواجهة المحتل الفرنسى، وكل طائفة تسعى لكى تدلى بدلوها، وتسهم فى نصيب وافر فى الحركة الوطنية، وتقدم شبابها ليرفعوا لواء الوطن الغالى.
وبعد الاستقلال أسفرت سياسة المحاصصة الطائفية عن وجهها البغيض ودعم هذا فكرة توزيع الوظائف الكبرى على أسس طائفية، منصب رئيس الجمهورية مسيحى مارونى، ورئيس البرلمان، مسلم شيعى، ورئيس الوزراء مسلم سنى، وتمثيل أعضاء البرلمان أنفسهم مراعاة للتمثيل النسبى للطوائف، وليست على أسس سياسية وأيديولوجية، ولا على برامج اجتماعية ووطنية وإنسانية، وهكذا راحت كل طائفة تصطنع لنفسها أبطالًا ورموزًا ومثلًا عليا، وراحت كل منها تتمترس حول ثقافتها وطقوسها ومناسباتها الخاصة، بل وخلف مصالحها، وتحدد توجهاتها وأهدافها، ومع معركة ١٩٥٦ التى شنت فيها إنجلترا وفرنسا وإسرائيل الحرب على مصر، اختلفت توجهات الطوائف المختلفة حول الموقف من دول العدوان الثلاثى؛ ما أدى إلى أن تتمترس كل طائفة حول توجهاتها، ما هدد بقيام حرب طائفية طاحنة سنة ١٩٥٨، وفى سنة ١٩٧٥ اشتعلت فى لبنان واحدة من أبشع الحروب الأهلية فى العصر الحديث، التى راح ضحيتها نحو ١٢٠ ألف مواطن، وراح الجيران الذين كانت بيوتهم مفتوحة على بعضها يحتازون الأسلحة ويوجهونها إلى صدور بعضهم بعضًا، وراح القناصة يقتلون على الهوية، وراح سنى يقتل شيعيًا، وشيعى يقتل مارونيًا، ومارونى يقتل درزيًا، ولم تعد تلك لبنان الحب والمودة والجمال.
من هنا راحت فيروز تحن وتشتاق إلى الزمن الجميل: زمن الحب والبراءة والطيبين الذين كانت ضحكاتهم الصافية الرنانة من كل قلوبهم تملأ أسماع الدنيا، ومن هنا راح ذلك الزمن يمثل البطل الرومانتيكى فى أغلب أغانيها، فتناثرت فى أغانيها الكلمات التى تشير للزمن مثل: كان وكنا وكانوا، وصار وبعدك وأول وآخر، ونهار وليل، وشمس وقمر، وعشية ويوم ويومان وأيام وصبحية ومسا والعتيق والعيد والعمر وصيف وصيفية وشتا وشتوية والخريف والربيع وسنة وسنون وزمان واتذكر ونطرتك «انتظرتك» وفايق «فاكر».
فتسعد فيروز وهى تغنى: «رجعت ليالى زمان رجعوا أهالينا.. رجعوا حبايب زمان يتحكموا فينا»، وتتمنى الرجوع لزمن اللهو «طيرى يا طيارة طيرى يا ورق وخيطان.. بدى أرجع بنت صغيرة على سطح الجيران»، وتتذكر «فايق ياهو يوم كنا سوا.. فايق لما راحو أهالينا مشوار تركونا وراحو وقالوا ولاد صغار.. ودارت بينا الدار نحنا ولاد الصغار»، وترسل لحبيب سلام: «سلملى عليه قولوا إنى بسلم عليه.. قولو عيونو مش فجأة بنتسو.. ضحكات عيونو ثابتين ما بينقصو»، وتتمنى أن تظل صغيرة وتختبئ من الزمن: «يا دراه دورى فينا/ تعاتا نتخبى من درب الأعمار.. وإذا هنى كبروا نحنا بقينا صغار/ سألونا وين كنتوا وليش ما كبرتوا إنتو، منقلن نسينا، واللى نادى الناس تيكبروا الناس/ راح ونسى ينادينا»، وتتمنى أن ينساها الزمان: «راجعين يا هوى راجعين يا زهرة المساكين.. بتودع زمان بنروح لزمان.. ينسانا على أرض النسيان»، أما تحفتها «شادى» التى تسمى باسمه مئات الآلاف من المصريين: فهى فيها تظل تعيش مع شادى، وهو يلعب على الثلج منذ عشرين عامًا، وتشعر بحنين جارف لحبيب بعيد فى الزمان: «أنا عندى حنين ما بعرف لمين... ليلى بيخطفنى من بين السهرانين.. بيصير يمشينى لبعيد يودينى... تا اعرف لمين وما بعرف لمين، وتخاف فعل الزمن القاسى: «فتحت الرسالة حروفها ضايعين ومرقت أيام وغربتنا سنين.. وحروف الرسالة محاها الشتى»، وتذكر الحبيب الناسى: «كتبنا وماكتبنا ويا خسارة ما كتبنا كتبنا ميت مكتوب ولهلق ما جاوبنا، وفى موالها الرائع: «يا مالكين القلب لما النوى مالكن.. قلنا حباب لنا مين يا ترى مالكن.. عودا قبل ما الجفا يغمر ليلى العمر.. غير الأحبة القدامى ع الوفا مالكن»، وتكتب للحبيب الناسى قصة عمرها على منديلها بخيطان السنارة يا مرسال المراسيل ع الضيعة القريبة، خدلى بدربكها المنديل واعطيه لحبيبى / وغنانى الصبيان السمر كتبتلو قصة عمر بدموعى الكتيبى خدلى بدربك ها المنديل واعطيه لحبيبى.
وتغنى: «آه يا سهر الليالى.. يا حلو على بالى غنى على الطرقات وراحت الأيام وشوى شوى.. سكت الطاحون ع كتف المى وجدى صار طاحون ذكريات... يطحن شمس وفى». وتغنى: «يا سنينى اللى رحتى ارجعيلى شى مرة ارجعيلى وانسينى على باب الطفولة تا اركض بشمس الطرقات يا سنينى اللى رحتى ارجعيلى ورديلى ضحكات اللى راحو اللى بعدها بزوايا الساحات».
وعن الذين غابوا فى الزمن، ولكن عطرهم باق: «دقيت طل الوردع الشباك... وينها تلبك ما عاد يحكى.. ماتت لشو تخبر أنا وياك.. وحدنا يا ورد راح نبكى... ودقيت ع الشباك بعد سنين.. قال علمتنى حلوة الحلوين إن فليت اترك عطرك بهالكون». هذه نسمة عابرة من عطر فيروز الذى سيبقى ما بقى الزمان.
من كتاب «الغناء وعبقرية الثقافة المصرية»