سمير الفيل: القصة تعيش نهضة غير مسبوقة لاشتباكها مع فنون أخرى
بعد فترة زمنية طويلة تم خلالها الترويج لفن الرواية، بدأ من جديد حضور قوى لأقلام شابة، ضخت الدم فى شرايين هذا الفن النبيل، فن القصة القصيرة، التى تتطلب التكثيف والتركيز، والقدرة على تناول أهم قضايا الواقع، والاشتباك مع تحولاته واستيعاب متغيراته، والشغل على فكرة التجاوز باستخدام تقنية الأصوات، وتيار الوعى، وتضافر القص مع مساحات من الفلسفة وعلم النفس.
إنه فن حى متطور قادر باستمرار على ضرب سقف النموذج، ومن ثم تحرير النص من فكرة النمط. أحسب أن القصة القصيرة تشهد حاليًا نهضة غير مسبوقة، خاصة مع تحقيقها استفادة قصوى من الاشتباك بفنون أخرى، مثل القطع والمزج فى السينما، والرؤية البصرية و«الكولاج» فى الفن التشكيلى. كما أتصور أنها قطعت شوطًا فى الاستفادة من الإيقاع فى الموسيقى. وبالرغم من الحيز الضيق لفن القصة فهى تنجز نصوصها.
هناك كُتاب عظام أخلصوا لفن القصة قبل غيرها من الفنون، ظلوا على وعى بنبل وعذوبة وجمال القصة القصيرة. هذا بدأ فى الستينيات، وتطور فى السبعينيات إلى حد ما. ما زلت أتذكر بدايات كبار كُتابنا. فجمال الغيطانى بدأ ضربته الأولى بمجموعة «أوراق شاب عاش منذ ألف عام». بهاء طاهر حقق نبوغه بمجموعته «الخطوبة». نفس الحال تحقق على يد إبراهيم أصلان فى «بحيرة المساء». ومن نفس الجيل بدأ سعيد الكفراوى من المحلة الكبرى حضوره القوى مع جار النبى الحلو.
بعد حوالى عقدين قدم لنا محمد المخزنجى مجموعته الرائدة «رشق السكين». وربما برزت أصوات على امتداد الخريطة العربية، من أهمها ما قدمه زكريا تامر فى سوريا، والطيب صالح فى السودان، الذى قرأت له «اسكتشات قصصية» باهرة فى «الهلال» العريقة.
وفى المدن المصرية قرأنا لمحمود عوض عبدالعال وحجاج أدول ومصطفى نصر. والثلاثة الذين ذكرتهم من الإسكندرية. يأتى بعدهم زمنيًا كُتاب برعوا فى فن القصة، مثل طارق إمام وحسن عبدالموجود ومنى الشيمى وجلاء الطيرى ومنير عتيبة وفكرى عمر وحسام المقدم. أيضًا محسن يونس وفكرى داود ومحمد عبدالنبى وعادل عصمت ونورا ناجى ومحمد إبراهيم طه. ومن أحدث جيل هناك هبة الله أحمد ورشا عبادة وخبيب صيام ودعاء البطراوى وهبة السويسى، هذا على سبيل المثال لا الحصر.
أما الحديث عن تأثير الذكاء الاصطناعى على القصة القصيرة، أنا لن أقف ضد التكنولوجيا وطفرات العلوم السيبرانية. فى المقابل لا أعتقد أن الذكاء الاصطناعى سيحل بسهولة محل الإنسان. قد يصح هذا فى المصانع، وعمل الأجهزة مثل السفن والطائرات وأجهزة إطفاء الحرائق و«الروبوتات». أما الفنون الرفيعة، ومنها فن القص والشعر والموسيقى والفنون التشكيلية، فستظل رهينة اجتهاد الإنسان ورؤيته، ووعيه بضرورات العمل الفنى، التى تجمع بين الذوق والرشاقة والجمال.
وبالنسبة لتأثير «السوشيال ميديا» على القصة القصيرة، سأضرب مثالًا مر بىّ شخصيًا. بدأ دخول عالم الإنترنت فى عام ٢٠٠١. وقتها بدأت العمل مع المواقع الإلكترونية. وعن طريق موقع «القصة العربية» تعرفت على كُتاب من جميع أنحاء الوطن العربى. كنت سعيدًا أن أعالج النصوص التى تُنشر يوميًا، وبدأت فى التعرف على عالم جديد أفادنى فى نشر أعمالى.
أرى أن «الميديا» أفادتنى. لكنها فى نفس الوقت قد تصدر مؤشرات غير صحيحة، خاصة فيما يتعلق بفكرة عدد القراء ونسبة المشاهدات، وهو أمر يمكن تداركه عبر وعى القراء ودور النشر.
وحسب تقديرى، يتطلب الحفاظ على القصة القصيرة تدشين جوائز قيّمة لفن القصة، وهو ما فعله طالب الرفاعى فى مسابقة «الملتقى» بالكويت، والتى خصص من خلالها جائزة رفيعة لهذا الشأن، إلى جانب مسابقات محلية لها قيمتها، أذكر من بينها مسابقة «فتحى غانم» للقصة القصيرة، عن المجلس الأعلى للثقافة، ومسابقة مبادرة «أكوا» السكندرية، ومسابقة هيئة قصور الثقافة، علمًا بأننى شاركت فى تحكيم عدة مسابقات بها. إضافة إلى ظهور مسابقات أخرى، منها مسابقة يحيى الطاهر عبدالله وغيرها.
وأطلب من دور النشر الاهتمام بنشر القصة القصيرة، بدلًا من جعلها فى المرتبة الثانية أو الثالثة. عشت عصر نهوض القصة القصيرة فى عالمنا العربى، وأذكر الكتّاب الذين نشروا فى مجلات مثل «إبداع»، و«الأقلام» و«الآداب» العراقيتين، وغيرها من نوافذ للنشر، قبل أن يأفل شمس القصة القصيرة من جديد.
وعن الدراسات النقدية التى تهتم بالرواية لا القصة، سأتحدث عن فن القصة القصيرة، الذى بدأ النهضة من جديد عن طريق مجهودات فردية، منها ورشة «صدى القصة القصيرة» التى يشرف عليها سيد الوكيل، ويشارك فى ندواتها مجموعة من النقاد النابهين، مثل الدكتور مصطفى الضبع، والدكتورة هويدا صالح، وشوقى عبدالحميد. وقد تابعت نجاح مؤتمرهم الثالث.
وأشير هنا إلى انتشار فكرة ورش العمل، وبعضها يلاقى نجاحًا فريدًا. كما تابعت فكرة «المعتزلات الأدبية» فى السعودية. وهناك تجارب عظيمة فى المغرب، منها ما يقوم به أنيس الرافعى، وهو صاحب تجارب مهمة، ومعه مجموعة من خيرة الكتّاب.
وفى تونس تعرفت على تجربة أصيل الشابى، وهو قاص فريد. وفى الأردن تعرفت على كتابات سميحة خريس وسعود قبيلات وهند أبوالشعر وصبحى فحماوى، وآخرين. وفى فلسطين أذكر كتابات خالد الجبور، وهو مثال على مساحة التجريب التى تأخذ فى الاتساع.
من جيل الشباب، أعرف إسماعيل غزالى من المغرب، ويحيى المنذرى من عمان، وعبدالهادى الجميل من الكويت، وخالد اليوسف وأحمد بوقرى ورجاء عالم وعواض العصيمى من السعودية. إنه نهر عظيم من القص الممتع البديع.
القراءة المستمرة فى فن القص مهمة لأى كاتب شاب. وهنا نتوقف أمام تشيخوف ويوسف إدريس، إلى جانب التعرف على الآداب العالمية، وقراءة وليم شكسبير بعناية، وقراءة قصص نجيب محفوظ القصيرة، ففيها متعة لا حد لها. وعلى الشباب أيضًا استيعاب تكنولوجيا العصر. سنحتاجها فى وقت قريب جدًا. سنلعب على عتبة الذكاء الاصطناعى بالذكاء البشرى الذى لا يوجد له مثيل.