الجمعة 27 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

أنيس الرافعى: القصة تحتاج إلى «بنك ومجلة ولوبى عربى»

أنيس الرافعى
أنيس الرافعى

ثمة نزوح جماعى صوب أراضى الرواية الشاسعة المعطاء، سواء من ناحية الذيوع والشهرة، أو الحظوة الاعتبارية والريع المادى. لذلك تلوح القصة القصيرة- ظاهريًا- فى مأزق، ويتموقع إنتاجها الأدبى- نسبيًا- ضمن شروط تاريخية مجحفة.

تغيب فى مشهدنا العربى المقومات الأساسية لتأصيل مؤسسة القصة القصيرة ومجتمعها الحاضن، القادرين على جلب الدعم الحيوى لها، والاهتمام الواسع بها. من هنا فممارسة القصة القصيرة تقتصر على نخبة متصوفة، وعلى أرواح مساعدة، تؤمن بعقيدتها الجمالية، وتعكف على استمرارية هالتها الروحية.

فى تقديرى الشخصى، لعل هذه العزلة القسرية التى تعيشها القصة القصيرة جعلتها تتمتع بمساحة تنحية رحبة، وخولت لها تطوير أدواتها الفنية وعوالمها التخييلية على نار هادئة، فى مناطق الظل الخافتة، الخالية من صخب الخارج، ومعمعة الحياة الأدبية.

نكوص القصة القصيرة وارتدادات السرد الوجيز لا يعودان بالأساس إلى سطوة جوائز الرواية. الأمر- حسب ظنى المتواضع- أعمق من هذا التخريج، ويحتاج إلى أبحاث فى سوسيولوجيا الأدب والتلقى، لمعرفة الأسباب الموضوعية والتاريخية الكامنة خلف هذا الضمور.

ما أنا واثق منه بنسبة مئوية عالية أن هذا الفن المتبصر، نافد البصيرة، سيحافظ على وجوده ضمن صيرورة مملكة الأجناس الأدبية، ولن يضمحل مثل الملحمة أو المسرح الشعرى أو الأساطير. القصة القصيرة ستقاوم وستصمد بفعل مقومات مناعتها الداخلية، وفقهها الفلسفى، ومكابدات المؤمنين بسردها الحاذق الذى عَقَدَ عليه القلب والضمير والذائقة. بل يُرتقب أن تُقدم فى نماذجها العربية المشرقة، على صعيد التقنيات والحبكات والخطط السردية والموضوعات الحكائيّة، إضافات وازنة للقصة الكونية.

وبالنسبة لتأثير الذكاء الاصطناعى على القصة القصيرة مستقبلًا، أرى أنه فى عالم يُعَادُ فيه اختراع كل شىء، من الجسد إلى الأمكنة، وصولًا إلى العواطف والأحلام والأخيلة والحكايات، يمكن أن يتحول الذكاء الاصطناعى إلى ماكينة لإنتاج سرديات من صنف معين.

لكن الأسئلة المُلِحة التى تطرح نفسها ضمن هذا السياق: هل ستكون هذه السرديات الطارئة قصصًا ناضجة مكتملة، فى شروطها الفنية المنتمية إلى تاريخانية هذا الجنس؟ أَذَكِيَّةٌ فعلًا على منوال القصص التى ينتجها الإنسان، بكل تعقيداته واشتباكاته النفسية والوجودية والحياتية؟ هل ستحمل بصمة ووجدان وروح خالقها الآدمى، أم أنها حصيلة آلة تِقَانِيَّةٍ صماء، شيمتها التكرار والمطابقة والنَسْخُ السِيمُولاَكْرِى؟

الذكاء الاصطناعى قد يفضى، على الأرجح، إلى انبجاس براديغمات أدبية جديدة، وخواريزميات مرقمنة مستحدثة، وكذلك إلى ابتكار طروس سيبرانية لا عَهْدَ لنا بها. بيد أنه من المستحيل أن يضاهى عبقرية الإنشاء والخلق الإنسانيين.

أما وسائل التواصل الاجتماعى فهى مجرد حامل مختلف، ووسيط غير تقليدى، وليست خطرًا داهمًا يلزم مجابهته، كما لو كان عدوًا مستطيرًا. بل بالعكس، أحسبُ أنها أسهمت فى توسيع أمداء التلقى، ونسفت أوهام بعض السلط الثقافية الدوغمائية والحزبية، التى كانت تقصى المواهب الأدبية أو تحاصر منجزها لاعتبارات غير أدبية.

تبين من خلال تأسيس الأديب الكويتى المرموق الدكتور طالب الرفاعى لجائزة «الملتقى»، المُخصَصة للقصة القصيرة فى المنطقة العربية، وجود إنتاج قصصى سنوى كبير ووازن، على امتداد رقعتنا الجغرافية المتسعة، فضلًا عن موشور جهنمى من التقنيات والأساليب والإبدالات والحدوس التجريبية القادرة على الذهاب بهذا الفن البلورى المراوغ إلى تخوم قصية.

وضمان مستقبل وجود هذا الفن وامتداداته يحتاج إلى جوائز أخرى معضدة مشفوعة بقرارات سياسية مدروسة، إلى جانب دعم دور النشر العربية الكبرى، وتواطؤ الإعلام الثقافى لتسليط الضوء على رموز هذا الجنس وفاعليه المؤثرين، علاوة على مجهودات الصناعات الثقافية، وتحسين جاذبية النوع القصصى بالنسبة لأجيال القراء القادمين.

يحتاج ضمان مستقبل القصة القصيرة كذلك إلى ذكاء البرمجة الثقافية للمعارض العربية، ووجود بنك عربى للإنتاج القصصى، وتأسيس لوبى قصصى عربى ينافح عن حصة وشرعية هذا الفن ضمن الفضاء الثقافى العام، ومجلة عربية كبرى متخصصة فى القصة القصيرة، ومؤتمرات نقدية وأكاديمية ضخمة، وعودة الجامعة للانفتاح مجددًا على البحث فى أسرار هذا الفن، واستراتيجية مُحكَمة للترجمة ونقل النماذج المشرقة إلى لغات العالم.... أترانى أحلم أم أن خيالى جنح بىّ بعيدًا جدًا؟. بكل صدق، لا أدرى، بيد أنى أترجى.

وبالنسبة لضعف اهتمام الدراسات النقدية بالقصة مقابل الرواية، حسب ظنى، يرجع هذا إلى غياب ترسانة نقدية خاصة بفن القصة القصيرة، مقابل توافر تضخم نقدى هائل فى مجال الرواية. ناهيك عن صعوبة تطبيق التحليلات والمقاربات والمنظورات على جنس ذى كيان مشترك بين السرد وتفاعلات أخرى قادمة من أسانيد أخرى، قد تكون غير أدبية بالمرة. فالفن القصصى مخلوق ينتمى إلى صنف «الثيريونثروب» اليونانى، نصفه الأول بشرى، ونصفه الثانى من حيوان متوحش. ليس من فنون السطح، وإنما من فنون الجوف، التى تستلزم آليات نقدية خاصة للحفر والاستغوار. نمطٌ هندسى ينتظم وفق رؤى حلزونية، وليس نمطًا مستويًا يتنضَّدُ تبعًا لرؤى متراصصة. وبالتالى، مشقَّةُ وتَوَعُّر النفاذِ نقديًا إلى عوالمه ومجاهله. 

سبق لى أن قدمت فى عدة محافل عربية ودولية شهادة شخصية بعنوان: «تسعةُ لوامس مبتورة من جسم قنديل البحر»، وهى خلاصة تأملاتى النظرية ومقترحاتى الذاتية لرصد تحولات الجنس القصصى وتطوير بنياته، على صعيد المعمار الفنى والفكر القصصى والتخييل السردى.

دعوت إلى الانتقال من مفهوم المجموعة إلى الكتاب القصصى، واعتماد موسيقى المتوالية بدلًا عن حركة السرد الفطرية، وقران المتن والهامش فى كتلة واحدة تُشيّدُ «القصصية»، والارتقاء من تداخل الأنواع إلى حوارية الفنون التعبيرية والأدائية، والارتكاز على فقه خاص بالصنعة القصصية، وابتكار خريطة جيو- قصصية كونية، والكتابة فى فُرجات الفراغ عوض المملوء، ومطاردة اللا مرئى، ثم أخيرًا نهج سبيل التخييل الذاتى ودراما الأقنعة.