عصام السيد.. مذكرات ملك «ديزنى» المصرى
- تقديم عمل للأطفال كان أمرًا مخيفًا بالنسبة لى وكثيرًا ما اعتذرت عن عدم الإخراج لمسرح الطفل
- لم يكن الدوبلاج يستهوينى وأراه عملًا يستهان به بسبب سوء مستوى الأعمال التى رأيتها فى هذا المجال
- طالبت «ديزنى« بأن نسجل دور كل ممثل على تراك منفصل
- طلبت من «سمير حبيب» العثور على شاب يدعى «محمد هنيدى» وفى سرعة شديدة استطعنا الوصول إليه
فى بدايات العام 2024 صدر عن دار «أرجوحة» كتاب مهم، للمخرج المسرحى الكبير عصام السيد.
المفاجأة أن الكتاب لم يكن عن تجربته العظيمة فى المسرح، ولكن عن تجربة أخرى مهمة فى حياته، وهى قيامه بإدارة أعمال الإخراج لأفلام «ديزنى» وإدارة أعمال «الدوبلاج».
الكتاب الذى عنوانه «تجربتى مع ديزنى» ليس مجرد حكاية عن تجربة، لكنها مذكرات مهمة، نعتقد فى «حرف» أنه من المهم أن يطلع عليها الجميع، ففى تفاصيلها تظهر العبقرية المصرية، وهى عبقرية إذا ما أتيح لها أن تعمل فى سياق منضبط واحترافى، فإنها يمكن أن تأتى بالمعجزات.
لن نتطفل كثيرًا على هذه المذكرات، ولا على صاحبها، ولكننا سنترك أمامكم فصولًا منها، ونحن على ثقة أنها قادرة على إحياء الأمل فى نفوسنا، والتأكيد على أننا نستطيع أن ننجز الأعمال الكبرى، فقط عندما نريد.
لمدة ساعة تقريبًا جلس أمامى صديقى الملحن والموزع الموسيقى «سمير حبيب» يحاول أن يلتقط أنفاسه بعد أن صعد إلى شقتى بالدور الخامس ليهنئنى بميلاد ابنى أحمد، لم يكن بالعمارة التى أسكن بها أسانسير ولم يتخيل أننى بالدور الخامس.
وصل إلى شقتى وهو فى حالة يرثى لها، وعندما فتحت له الباب دخل بلا كلمة ليرتمى على أقرب مقعد، وبرغم شتاء يناير القارس جلس يتصبب عرقًا ولا يستطيع أن يتكلم.
وبعد معاناة شديدة وأكواب من الماء قال: يالا عشان هنبتدى.
سألته مندهشًا: هنبتدى إيه؟
قال: دوبلاج فيلم لـ«والت ديزنى».
لم يكن لدىّ أى فكرة عن المشروع، فمضى يشرح لى كيف أقتنص فرصة تقديم أفلام «والت ديزنى» باللغة العربية، فى سابقة لم تحدث منذ الستينيات، فهناك فيلم وحيد لديزنى تمت دبلجته لينطق بالعربية هو«الأقزام السبعة» وأخرجه الراحل «أحمد كامل مرسى»، لكن المشروع توقف بعد هذا الفيلم الوحيد برغم دقته وجمال الأصوات المشاركة فيه.
وعندما وجد «سمير» أنى لم أتحمس للمشروع قال إن المشروع برمته كان فى طريقه إلى التنفيذ فى بيروت، وإن بين يدى الآن سمعة القاهرة فنيًا، فلو فشل الفيلم ستصبح سبة فى جبين الفنانين المصريين، إلى جانب أن المشروع سيفتح مجالًا فنيًا جديدًا يستفيد منه مئات الفنانين والفنيين
ومضى يتحدث.
لمس سمير أوتارًا كثيرة فى نفسى خاصة حين قال: اعتبر المشروع هديتك لأحمد ابنك، مش إنت شايف إن الأعمال اللى بتتقدم للأطفال مش كويسة، إدى نفسك فرصة تعمل له حاجة كويسة، فيه إيه أحسن من ديزنى فى شغل الأطفال.
فى الحقيقة كانت لى أسبابى فى عدم اهتمامى بالمشروع، فلم يكن الدوبلاج يستهوينى، وأراه عملًا يستهان به بسبب سوء مستوى الأعمال التى رأيتها فى هذا المجال، كانت هناك حلقات يذيعها التليفزيون المصرى مدبلجة، ورغم نجاحها وانتشارها كنت أراها ضعيفة فنيًا، يكفى أن تحس أن كل الشخصيات يؤديها ممثل واحد أو اثنان ويحاولان تغيير صوتيهما.
كما أن تقديم عمل للأطفال كان أمرًا مخيفًا بالنسبة لى، وكثيرًا ما اعتذرت عن عدم الإخراج لمسرح الطفل الذى كان- وما زال- يعامل فى مصر على أنه «درجة ثانية»، فأجور العمل للأطفال فى المسرح والتليفزيون «نصف أجر» والميزانيات «نصف ميزانية» فتكون النتيجة أعمالًا أغلبها هزيلة.
استطاع سمير بذكائه أن يجعل فى داخلى كفتين، ولكن برغم تلك الكفة الأخرى، فكرت أن أعتذر، خاصة أننى لا أملك الوقت، ولا يمكننى أن أقدم عملًا يسىء إلى اسمى الذى صنعته بكد وتعب حتى احتل فى ذلك الوقت «نصف إعلانات المسرح فى مصر»، على رأى أحد الحاسدين.
ولكن كيف أعتذر وأنا لا أحب أن أرفض طلبًا لصديقى العزيز سمير حبيب، إذن لا بد من البحث عن طريقة لبقة للاعتذار.
كانت علاقتى بـ«سمير حبيب» قد بدأت منذ سنوات قليلة، عن طريق الكاتب الكبير عبدالرحمن شوقى، فقد تعاونا معًا فى عدة أعمال ناجحة وشهيرة، منها فوازير سمير غانم «فطوطة وسمورة»، كما لحن لعبدالرحمن شوقى مجموعة مسرحياته لسمير غانم أشهرها «أخويا هايص وأنا لايص»، وكثيرًا ما حدثنى عنه «عم عبدالرحمن» بإعجاب شديد وإيمان قوى بموهبته.
وشاءت الظروف أن تأتى فرصة لنتعاون أنا وسمير فى مسرحيتى «كنت فين يا على» لنور الشريف وبوسى، فاكتشفت فيه- إلى جانب القدرة على صياغة جملة موسيقية تتسم بخفة الدم وتلتصق بالأذن فورًا- اهتمامه الشديد بعمله وانضباط مواعيده وسرعة إنجازه، وهو أمر يفتقر إليه كثير من الملحنين، ما جعلنا نخرج من التجربة بصداقة تعدت حدود العمل وتعمقت حتى صرنا لا نفترق.
فكيف بعد كل هذا أن أعتذر؟
طلبت من «سمير» إعطائى نسخة من فيلم ديزنى لأشاهده- علنى أجد فيه ما يشجعنى على الاعتذار- ولكنه أصر على أن أشاهد فيلم الكارتون فى منزله، متعللًا بأنه وقع على نفسه تعهدًا بعدم تداول النسخة المرسلة إليه، قلت له: هل لا تثق بى؟ قال: بالعكس ولكنها فرصة لأن تزورنى.
ذهبت فى الموعد وجلست أستعد لمشاهدة الفيلم فى فتور.
اسمه إيه الفيلم؟ سألت سمير بلا اهتمام.
قال: «lion king».
قلت له: الاسم وحش قوى لما يترجم عربى.. هيبقى إيه؟ ملك أسد؟
قال: ممكن يبقى الملك الأسد أو الأسد الملك.
قلت: طيب ماجتش على الاسم... نتفرج.
بدأ الفيلم، ورغم إعجابى منذ الطفولة بأعمال والت ديزنى إلا أننى وجدت مستوى أعلى بكثير من الإنتاجات التى شاهدتها فى طفولتى: وجدت رسومًا رائعة تتحرك بشكل مدروس تشريحيًا وكأنها كائنات حقيقية وليست مجرد حيوانات مرسومة، والفيلم يتسم بخيال منطلق لا يحده شىء، حتى إن الحيوانات تؤدى استعراضات مذهلة فى إطار ألحان عبقرية، أغنية البداية تحمل معانى فلسفية عميقة.
جلست مبهورًا بالفيلم، وبعد قليل وجدت دموعى تنهمر ولا أستطيع إمساكها، كيف لفيلم للأطفال أن يعرّض مشاهديه لمثل هذا الحزن والأسى؟ لكن صناع الفيلم سرعان ما استطاعوا أن يجعلوا من تلك المأساة عظة ودرسًا ودخلت شخصيات جديدة مرحة مسحت طابع الحزن عن الفيلم.
انتهى الفيلم وجلسنا صامتين أنا وسمير الذى كان متأثرًا بأحداث الفيلم أيضًا برغم أنه شاهده عدة مرات، وبعد لحظات قال لى: إيه رأيك؟
قلت فى إيجاز: هنبتدى إمتى؟
سلمنى «سمير حبيب» ملفًا كاملًا عن الفيلم أرسلته شركة «ديزنى»، يشمل ملخصًا للقصة والهدف من ورائها، ووصفًا دقيقًا للشخصيات الرئيسية فى الفيلم، ونبذة عن كل ممثل أدى دورًا، مع سيناريو كامل للفيلم يشمل أيضًا الحوار.
أدركت منذ اللحظة الأولى أن شركة ديزنى «ما بتهزرش»، وأنها تتعامل بمنتهى الدقة والاحترافية، ولهذا تُطلع من سيعمل معها على كل التفاصيل التى تعاونه فى عمله، كما لاحظت وجود فنانين كبار بين العاملين فى الفيلم، ليس على مستوى التمثيل فحسب بل لجأوا لأحد أشهر الملحنين الإنجليز «إلتون جون» لصياغة الألحان.
واجهتنى صعوبة وحيدة فى ملف ديزنى، أنه باللغة الإنجليزية، تلك اللغة التى هجرتها منذ أن تخرجت فى منتصف السبعينيات من قسم اللغة الإنجليزية بكلية التربية جامعة عين شمس، قلت لنفسى: «هربت من إنك تطلع مدرس إنجليزى؟ أهو الإنجليزى وراك وراك مش عاوز يسيبك»، واضطررت أحيانًا إلى اللجوء إلى القاموس، وبرغم هذا لا أنكر أن دراستى السابقة أفادتنى بشكل كبير لا يُقدر فى فهم المعانى، خاصة فى التلاعب بالألفاظ وإضمار معانٍ خفية لبعض الكلمات.
كانت الخطوة التالية هى ترجمة حوار الفيلم أولًا من الإنجليزية إلى اللغة العربية، ثم إعادة صياغة الحوار بالعامية المصرية، وهى مهمة فى غاية الصعوبة، فالمطلوب فى الحوار العامى أن يكون بنفس معنى الجملة الأصلية وفى نفس الوقت بنفس الطول الزمنى لها، وأن يتسم بخفة الدم، وأن يتوافق مع تقطيع الجملة الأصلية، وأبدع «عم عبدالرحمن» فى الحوار من ناحية التوافق الزمنى ومن ناحية خفة الدم وطزاجة العبارات وحلاوتها.
أما ترجمة الأغانى فكانت مشكلة المشكلات، فإلى جانب الحفاظ على المعنى كانت هناك مشكلة كتابة كلام صالح للغناء، على نفس اللحن، له نفس الجرس الموسيقى ويقبل نفس التقسيمات، أو باختصار «يسير مع اللحن فى سهولة ويسر».
لم أدرك صعوبة الأمر إلا عندما شاهدت جلسة عمل بين «عم عبدالرحمن» و«سمير حبيب» امتدت إلى ساعات طويلة وبينهما النسخة الإنجليزية ومسجل يسمعان من خلاله شطرة من أغانى الفيلم، ويقلّبان فى مئات التعبيرات حتى يصلا إلى مرادهما، ويكتب «عم عبدالرحمن» جزءًا من الأغنية بالعامية ويغنيها مع «سمير» بمصاحبة الأصل الإنجليزى ليتأكدا من التوافق، واستغرقت المهمة شهورًا، ولكن كانت النتيجة رائعة، فلا يمكن أن أنسى صياغات عبدالرحمن شوقى المبتكرة والمدهشة.
أما مهمتى أنا فكانت فى ترشيح الممثلين للأدوار الرئيسية، ولكنى فوجئت بطلب غريب من شركة «ديزنى»: أن أرشح ثلاثة ممثلين فى كل دور وأجرى لهم اختبارًا حددته الشركة على جمل معينة من الفيلم، وأن أرسل نتيجة الاختبار، وشركة «ديزنى» هى التى ستختار الممثل الذى يقوم بالدور.
أحسست بأن هذا انتقاص من قدرى كمخرج وقررت الانسحاب، وذهبت لأبلغ سمير بقرارى الذى لا رجعة فيه، تلقى سمير الخبر فى صمت وكأنه قد أصابه الإجهاد فلم يعد يقوى على المناقشة أو حتى الكلام.
اتصل بى «العم عبدالرحمن» وقال لى بصوته المميز: عاوز تعتذر ليه يا مجنون؟
قلت له: هما هيخرجوا معايا؟ طلبهم ده معناه إنهم مش واثقين فيا.
ضحك «عم عبدالرحمن» بشدة وقال: «وهما يعرفوك منين عشان يثقوا فيك» ثم أضاف: أنا فهمت من «سمير» إن دى طريقة «ديزنى» مع كل أفلامهم فى كل اللغات، مش حاجة خاصة بمصر، بكره تروح الاستديو وتشوف «سمير»، ما يصحش تعمل فى صاحبك كده وكل شوية تغضب وتعتذر.
كان شريط الاختبار «test» الذى أرسلته شركة ديزنى يتضمن جملًا مختارة بعناية لكل شخصية، ومن مواقف متعددة فى الفيلم، وكأنه اختبار لقدرة الممثل على إيصال المعنى والإحساس من خلال الصوت، وكان المطلوب تسجيل تلك المشاهد لكل شخصية بثلاثة ممثلين مختلفين، والشركة ستختار واحدًا منهم، وكان التساؤل فى داخلى: هل يفهمون اللغة العربية ليعرفوا من هو أفضل مؤدٍ للشخصية؟
أعدت قراءة ملف ديزنى لأتعرف أكثر على مواصفات الشخصيات، وشاهدت فيلم «الاختبار» عدة مرات، ووضعت عدة ترشيحات لكل دور، والتزمت بطلبات نص عليها الملف المرسل، فقد كانت ديزنى تصر على عدة طلبات.
أولها: لا تغيير فى صوت الممثل، بمعنى ألا يستخدم الممثل صوتًا مستعارًا.
وثانيها: لا ادعاء فى السن، بمعنى أنهم لا يقبلون أن يؤدى رجل أو سيدة دور طفل، فلا بد أن يؤدى أدوار الأطفال من هم فى نفس السن.
كانت المسألة واضحة أمام عينى، إن العمل يتطلب صدق المشاعر والمهارة فى إيصال إحساس الشخصية كما رسمتها «ديزنى»، ومن هنا اعتقدت أن المشكلة ستكون فى دور «سيمبا» وهو طفل، فالشخصية مليئة بالأحاسيس والمشاعر المتناقضة فى مساحة زمنية صغيرة، مما يصعب على الأطفال تأديتها، وكانت الصعوبة أيضًا فى الأدوار الغنائية، لذا كان من الأفضل اختيار مطربين أو ممثلين يستطيعون الغناء، وإلا فعلينا اختيار صوتين متطابقين لأداء نفس الشخصية، أحدهما يمثل والآخر يغنى، بحيث لا يشعر المشاهد بأى فرق بينهما، فكيف بالله نجد هذا التطابق، وكيف نجد ممثلًا مغنيًا أو العكس، ومن المعروف أن من يجيدون المهارتين قلائل؟
قررنا استدعاء مجموعة من الممثلين لإجراء الاختبار، ولكن كانت المشكلة الأكبر فى تسميته اختبارًا، فجأة لمعت تسمية فى ذهن «سمير حبيب» تحل كل المشكلة، سنقول إنها «بصمة صوت» هدفها الأول التعرف على خامة صوت كل ممثل، وحددنا موعدًا نبدأ فيه الاختبار، واتصلنا بالممثلين المرشحين، وفى اليوم الموعود فوجئت بزحام فى الاستديو غير عادى.
مضت الاختبارات فى سلاسة ويسر ولم يعكر صفوها سوى الزحام وإصرار البعض على تخطى الترتيب فى الدخول، وكانت نتيجة اليوم الأول كمًا ضخمًا من الأصوات، ولكن الملحوظة الهامة كانت أن جميع محترفى الدوبلاج المصرى السابق فشلوا فى الاختبار؛ ذلك أنهم بالغوا فى التمثيل والبعض منهم أصر على استعمال صوت مستعار برغم تنبيهه عدة مرات، بل إن أحدهم- وللأسف كان من تلاميذى سابقًا- أصر على أداء مختلف تمامًا عن المطلوب تحت دعوى أنه فنان ومن حقه الإبداع فى الدور من عندياته وأنه لن يقلد الأصل الأجنبى، وحاولت مرارًا وتكرارًا أن أفهمه أنه لن يقلد ولكنه مرتبط بالإحساس الذى يعبر عنه الرسم فى الفيلم، فإذا كانت الشخصية غاضبة فعليه أن يغضب وبنفس حجم غضبها فى الصورة لا أكثر ولا أقل، ولكنه تصور أننى أطالبه بتقليد الصوت الأصلى.
أما ما أضحكنى فكان طلب أحد هؤلاء الممثلين محترفى الدوبلاج أن يقوم بأداء عدة شخصيات فى الفيلم وأنه قادر على تغيير صوته ولن يكتشفه أحد فى مقابل أنه لن يأخذ أجرين عن الشخصيتين، ولكن أجر ونصف، وعندما قلت له إن أحد شروط ديزنى ألا يمثل أحد شخصيتين أو يغير من صوته قال بكل ثقة: ولا هيعرفوا.
وهنا أدركت سبب تردى حال الدوبلاج المصرى ولماذا يفتقر إلى الجودة، وتأكدت أننى لن أعمل مع ممثلين من محترفى الدوبلاج، وأنه مكتوب علينا أن نغامر جميعًا فى مضمار جديد علينا تمامًا، ولا نملك فيه أى خبرة.
لم تكن كل الاختبارات سيئة، بل أسعدنى الحظ بأن وجدنا اثنين من أصعب الأدوار، فمن وسط المغنين الذين اختبرهم «سمير حبيب» برز صوت «هشام نور» فى دور «سيمبا»، وعندما اختبرته فى التمثيل وجدت أنه خامة طيعة قابلة للتشكيل، وبذلك ضمنت مغنيًا قادرًا على التمثيل وهذا أفضل بالطبع، والصعوبة الثانية التى تلاشت هو عثورى على طفل رائع قادر على تنفيذ الملاحظات والإتيان بأصعب الأحاسيس فى دور «سيمبا» الصغير وهو «كريم الحسينى».
انتهى اليوم الأول للاختبارات وجمعت الحصيلة وجلست أستمع إليها، استبعدت البعض وأعدت ترتيب البعض، ووجدت أننى فى احتياج لاختبارات أخرى فى بعض الشخصيات، واتفقت مع «سمير حبيب» على حجز الاستديو لإجراء مزيد من الاختبارات، وعندما اتصلنا ببعض الممثلين فوجئت بأحدهم- وكان صديقًا- يخبرنى بأن هناك من يقول: لا تعطوا لديزنى بصمة الصوت التى يسجلونها، فالشركة ستأخذ بصمة الصوت هذه وتضعها فى أجهزتها لتقوم الأجهزة بتقليد صوتك، وعن طريق تلك الأجهزة سيتم تسجيل حوار الفيلم كاملًا، بالطبع سيتم هذا دون معرفة صاحب الصوت ودون أن يتقاضى أجرًا.
قلت لصديقى: يعنى إيه؟ ندخل بصمة صوت من هنا، يطلع من الناحية التانية تمثيل؟
ولم أدرك كيف توصل هذا العبقرى لذلك التفكير، ولكنها نظرية المؤامرة التى يؤمن بها البعض، وربما هى من تأثير أفلام الخيال العلمى، المهم أننى أكملت الاختبار وجلست أكتب تقريرًا عن كل ممثل من المرشحين الثلاثة فى كل دور- كما طلبت شركة ديزنى- ومعه أرسلنا شريط الاختبار وانتظرنا الرد، ولكنه تأخر كثيرًا.
ذهب شريط الاختبار إلى «ديزنى» ومكث طويلًا دون أن يأتى رد، وبعد أن كنت أنتوى الاعتذار أصبحت أسأل يوميًا: هل وصل شىء جديد من ديزنى؟ فلم أتعود أن أفشل فى أى عمل يوكل إلىّ، ومع مرور الوقت أصابنى اليأس، تخيلت أنهم تراجعوا عن الدوبلاج باللغة العربية، أو لم يرق لهم نتائج الاختبارات التى أرسلناها، أو ربما انتقل المشروع إلى «بيروت» كما كان «سمير حبيب» يقول.
أخيرًا اتصل بى «سمير» ليهنئنى بوصول الرد، لقد وافقوا على جميع ترشيحاتى التى أرسلتها فى التقرير المصاحب للاختبار: الفنان القدير «عبدالرحمن أبوزهرة» فى دور سكار، الدكتور «سامى صلاح»، أستاذ التمثيل والإخراج بالمعهد العالى للفنون المسرحية، فى دور بومبا، المغنى المعروف «هشام نور» فى دور سيمبا الشاب، الفنانة الكبيرة «صفاء الطوخى» فى دور سرابى «والدة سيمبا»، الفنان مؤمن البرديسى فى دور رافيكى، أما الضباع فكانوا من نصيب الدكتور «سامى عبدالحليم» الأستاذ بمعهد الفنون المسرحية، والفنانة الكبيرة «سلوى محمد على»، وفى دور زازو الفنان الكبير «عادل خلف»، وهو الوحيد من محترفى الدوبلاج الذى اتبع تعليماتى بكل دقة.
ورفض مسئولو الدوبلاج بشركة ديزنى جميع من تم إرسال أصواتهم فى دور موفاسا، الملك الأب، لكبر سنهم، ولا أدرى كيف عرفوا أعمارهم ؟ فقد كنت أتخيل «موفاسا» أبًا كبيرًا فى السن ولكنهم طالبوا بصوت شاب، يمتلئ بالقوة وأيضًا بالحنان، كما رفضوا كل من أرسلناهم فى دور «تيمون»، ولم نكن قد عثرنا على من تصلح لدور «نالا».
والحقيقة أن التقرير الذى أرسلوه أصابنى بالذهول، كانت الملاحظات فى منتهى الدقة، وكأن من كتب التعليق على الأصوات كان يقف معنا فى الاستديو، كل هذا برغم عدم فهمهم اللغة العربية.
وقرر «سمير» أن نبدأ العمل فى تسجيل الدوبلاج، وأثناء ذلك نبحث عن ممثل لدور «تيمون» وممثل آخر لدور «موفاسا»، وعندما قمت بزيارة الاستديو قبل بداية التسجيل فوجئت بكمية من التغييرات الجذرية.
تسلمت النسخة المترجمة من حوار الفيلم، فوجدت أن سمير قد طبعها بطريقة ساعدتنى كثيرًا أثناء العمل، فتحت كل سطر من الحوار باللغة العربية نفس السطر باللغة الإنجليزية، حتى إذا اضطررت لتعديل الحوار لأى سبب، كان الأصل الأجنبى مرشدى، ثم طبع أسطر كل دور على حدة حتى لا يضطر الممثل إلى حمل نسخة كاملة، وكان ذلك فى منتهى الدقة، هكذا سمير دائمًا: كل شىء مرتب ومنظم بلا تعقيدات أو صراخ.
وقبل البدء جاءت تعليمات التسجيل من ديزنى: أن يقوم كل ممثل بتسجيل دوره منفردًا، ووجدت أن هذا يضيف صعوبة وتحديًا للممثل، فعدم وجود الشريك فى المشهد يجعل الأداء باردًا، ولكن الأسهل هو طريقة «هات وخد» بين الشخصيات، ولم يكن أمامنا إلا قبول شروط الشركة واعتبرت هذا تحديًا جديدًا.
ولم يكن هذا هو التحدى الوحيد، فلقد أصرت الشركة على ألا يقوم أى ممثل بالعمل أكثر من ثلاث ساعات يوميًا حتى لا يبدو صوته مجهدًا، وكان ذلك أمرًا طيبًا، ولكن التحدى كان فى أنها قررت أن يقف الممثل على مسافة محددة من الميكروفون، وعليه فى اليوم التالى أن يقف على نفس المسافة، وأن يتأكد مهندس التسجيل من مطابقة الصوت فى جميع أيام عمل الممثل الواحد وأنه لا فروق بين الأيام المختلفة للتسجيل فى المسافة بين الممثل والميكروفون، وإلا فإن تغيير المسافة هذه يستتبعه تغيير فى طبيعة الصوت، وألا يوضع على الصوت أى مؤثر بل صوتًا طبيعيًا فقط.
وزادت التحديات بأن طالبت «ديزنى» بأن نسجل دور كل ممثل على تراك منفصل بحيث لا يتداخل حواره مع أى حوار آخر، فكيف نفعل ذلك وليس لدينا سوى «٧ تراكات» فقط والشخصيات تفوق هذا العدد بكثير؟
سألت «سمير حبيب» عن سر إصرار شركة «ديزنى» على وضع صوت كل ممثل على تراك منفصل، وكانت الإجابة بالنسبة لى مثيرة للغضب، قال: حتى يسهل عليهم وضع أى مؤثر على أى صوت فى الفيلم كله، فمثلًا لو أرادوا أن يخفّضوا عمق صوت شخصية أو يُزيدوه، فسهل عليهم وضع المؤثر على التراك كله دون أن تتأثر أصوات باقى الشخصيات.
برغم أننى لم أكن أفهم فى هذه الأمور التقنية بشكل جيد، إلا أننى اعتبرت أن هذا من باب الكسل، وأنهم فى ديزنى يريحون أنفسهم ويتعبوننا نحن، ولكن لا فائدة من الاعتراض الآن فلقد تورطت وانتهى الأمر.
وإن كان ذلك أحد الأسباب التى دفعتنى- فى وقت لاحق- لمحاولة فهم كل الأمور التقنية التى تخص التسجيل والمونتاج، فلقد تعلمت فى المسرح أن على المخرج أن يكون ملمًا بكل المهن والمهمات التى تشارك فى صناعة العرض المسرحى.
تطوعت المخرجة «عزة شعبان»- مساعدتى فى ذلك الوقت- أن تقوم بصنع خريطة لتوزيع الأصوات على التراكات السبعة، بحيث لا يلتقى صوتان على نفس التراك فى نفس المشهد، وأمضت وقتًا طويلًا فى كمية ضخمة من التباديل والتوافيق، حتى استطاعت أن تصل إلى شبكة منضبطة، والى جانب كل دور كتبت فى أى الأجزاء تقع مشاهده، فالفيلم جاء إلينا مقسمًا إلى خمسة أجزاء، وكأنها فصول فى مسرحية، وكل جزء لا يزيد عن العشرين دقيقة.
أمضيت أنا هذا الوقت فى مشاهدة الفيلم عدة مرات- بعد أن أعطانى «سمير حبيب» أخيرًا نسخة منه- ومعها كمية ضخمة من التحذيرات بعدم خروجها من منزلى أو محاولة نسخها كاملة أو أجزاء منها، وإلا تعرض هو لتنفيذ شرط جزائى مادى بالملايين، وعندما سألته كيف سيعرفون أنها نسختك، قال لى إن كل نسخة تخرج من «ديزنى» لمشروع الدوبلاج لأى مكان فى العالم تحمل كودًا سريًا خاصًا يعرفون من خلاله- فى حالة القرصنة- من أى المصادر تسربت.
وعندما شاهدت الفيلم وجدت أن النسخة ليست كاملة، فعلى فترات متباعدة تجد جزءًا من مشهد إما غير ملون، أو الصور ثابتة وليست متحركة، إلى جانب خط بلون معين يعبر الشاشة على فترات طوال الفيلم، إذن هى نسخة غير متكاملة ولا تصلح للمشاهد العادى، ولا يمكن بيعها مثلًا أو طرحها فى الأسواق، فلماذا كل هذا الحرص من جانب شركة «ديزنى»؟ ولكن من كثرة تحذيرات سمير حبيب- وأيضًا خوفًا عليه- احتفظت بالنسخة- وحتى الآن- فى خزانتى الخاصة.
فى منزلى مضيت أشاهد الفيلم على جهاز الفيديو- لم يكن السى دى قد ظهر بعد- مرة ملاحظًا سلوك كل شخصية وطريقة انفعالها «سواء فى الرسم أو الصوت» محاولًا تطبيق هذا على وصف الشخصية الذى أرسلته الشركة من قبل، ومرة ممسكًا بالترجمة لأرى مدى تطابق الترجمة مع الموقف والشخصية، ومرة من أجل قياس زمن الجمل باللغة العربية، وهل هو مساوٍ لنفس زمنها باللغة الإنجليزية، ولم تكن مشاهداتى الكثيرة هذه سوى نوع من التوتر الزائد لدخولى مجالًا جديدًا بالنسبة لى.
فى الاستديو الصغير بدأ سمير فى تسجيل أغانى الفيلم، بالتعاون مع مايسترو من أصل أرمنى يعمل بدار الأوبرا المصرية، وامتلأ الاستديو بمغنين كبار ذوى مهارات عالية معظمهم من العاملين بدار الأوبرا، وكانوا من الإتقان والحرفية العالية بحيث إن الأغانى لم تأخذ وقتًا طويلًا، وساعد على هذا أن معظمهم تسلم شريطًا عليه الأغانى ونوتة موسيقية مكتوبًا عليها الكلمات باللغة العربية، وهو ما يسهل على مغنى الأوبرا عمله، لكن المبهر وسط هؤلاء المحترفين كان الفنان القدير «عبدالرحمن أبوزهرة» الذى أصر على أن يجربه «سمير حبيب» فى أغنية «سكار» واستطاع تأديتها برغم صعوبتها أداءً رائعًا محافظًا على طابع الشخصية التى يجسدها.
واقترب موعد تسجيل الحوار، فوضعت جدولًا مبدئيًا يبدأ فى الثانية عشرة ظهرًا ويمتد حتى الثامنة مساء، مقسم إلى ثلاث مراحل، الأولى والثانية مدتهما ٣ ساعات وتخصص لتسجيل حوار إحدى الشخصيات الرئيسية، والثالثة مدتها ساعة وتخصص لأصوات المجموعات أو الأدوار الهامشية التى تؤدى أدوارًا قصيرة فى الفيلم أو تقول جملًا متناثرة داخل زحام، وبين الثلاثة مواعيد قسمت ساعة للاستراحة.
ولكنى فوجئت بإدارة الاستديو- بإيعاز من سمير حبيب بالطبع- تطالبنى بتحديد كم يومًا سيحتاج كل ممثل، واعتبرت هذا تعنتًا من إدارة الاستديو.
كانت منى عيسى مديرة الاستديو وسكرتيرة سمير حبيب التى لا يستغنى عنها، هذه الشابة برغم رقتها وهدوئها وابتسامتها المجاملة الدائمة، تملك طبيعة صارمة فى العمل، وإذا كلفها مديرها بأمر فهى على استعداد لتنفيذه مهما كلفها.
كان السؤال الذى طرحته: كم من الأيام سيحتاجها كل ممثل لتسجيل دوره؟
ولكنى لم أكن أمتلك إجابة فى ذلك الوقت، ما الكم المتوقع إنجازه فى ثلاث ساعات من التسجيل؟ وما هى عدد الصفحات التى سينجزها فى اليوم؟ كيف ستكون استجابة كل ممثل للملاحظات وقدرته على التنفيذ؟ لم تكن لدىّ أى فكرة.
لكن «منى» كانت مصرة على الحصول على إجابة شافية، ليس هذا فقط بل طالبتنى بجدول منضبط لإبلاغ الممثلين جميعًا بالمواعيد، وعدد أيام عمل كل ممثل حتى يستطيع التنسيق لو كانت لديه ارتباطات أخرى، كان التقدير المبدئى أن العمل سيستغرق ثلاثة أسابيع نعمل خلالها ستة أيام فى الأسبوع، وكل يوم ٨ ساعات، وهى مصرة على الحصول على جدول الثلاثة أسابيع وبكل دقة.
تهربت طويلًا، ولكن إصرارها وإلحاحها دفعنى للتفاوض معها، وتوصلنا إلى حل وسط: أن أعطيها جدولًا للأسبوع الأول فقط، واعتبرت هى أن هذا الجدول نهائى، وكان فى ظنى أنه جدول قابل للتعديل.
بالطبع كنت أعلم أنه من الأفضل أن يقوم الممثل بتأدية دوره فى أيام متتاليات لا يقطعها إنشغال بعمل آخر لفترة طويلة، حتى لا يفقد تواصله مع الشخصية التى يؤديها ولا ينقطع أيضًا إحساسه بالعمل، ولذا كانت مصرة على إبلاغ كل الممثلين بمواعيدهم، ليرتبوا ارتباطاتهم الأخرى، فهناك مثلًا المطربة أمانى شوقى- التى تقوم بدور نالا- مقيمة بالإسكندرية، وحضورها للقاهرة يستلزم منها ترتيبات قبل الحضور بأيام، وهناك ممثلون مرتبطون بأيام تصوير، وعليها أن تنسق معهم المواعيد.
أصابنى الاختناق من كثرة القيود التى تمثلت فى طلبات أصبحت بمثابة ضغوط، سواء من «ديزنى» أو من «سمير حبيب» أوإدارة الاستديو، وصار الشخص المتمرد فى داخلى، الذى أحاول ترويضه طوال الوقت حتى لا أعتذر عن العمل وبشكل نهائى، يقول: « أنا إيه اللى جابنى هنا؟».
ولكن فيما بعد قدرت قيمة ما فعلته «منى» وما أصرت عليه، فلقد كان العمل يسرى فى دقة ونظام قلما شاهدته فى عمل آخر، إنها تبلغ الممثلين بجداولهم، وتنسق بينهم فى حال انشغالهم، ثم تبلغهم بمواعيد التسجيل باليوم وبالساعة وبمنتهى الدقة، وعدد الأيام التى سيقضونها فى العمل، ثم تتصل بكل ممثل قبل موعده بيوم لتذكره بالموعد، وتتصل به قبل موعد حضوره بساعة أو اثنتين، وعندما ظهرت الموبايلات فى حياتنا كانت تتابع الممثل تليفونيًا حتى يصل قبل موعده.
فى نفس الوقت كانت منى تقوم بأهم دور فى أى مهنة، إنها حاملة حقيبة المال، وبمجرد أن ينتهى الممثل من تسجيل دوره بشكل نهائى، وبإقرار منى بأنى لن أحتاجه ثانيةً، تقوم بتسليم الممثل مظروفًا بداخله الأجر، مصحوبًا بعبارات الشكر والتقدير، وفى هذا التصرف تجلى «ذكاء» سمير حبيب الذى صنع له شهرة رائعة، فلم يؤجل يومًا حقًا لأحد، ولم يسوّف فى أجر، بل لم ينتظر التحويل المالى من شركة ديزنى- الذى كثيرًا ما كان يتأخر عن موعده- بل فيما بعد ساعد كثيرين ماديًا، وقدم تسهيلات لكثيرين، فهذا يحتاج لسيارة، دفع مقدمها سمير حبيب خصمًا من أعمال مقبلة، وتلك تحتاج لشقة، دفع جزءًا من ثمنها على اعتبار الخصم من الأعمال المقبلة.
سألته ذات مرة: لماذا تفعل هذا وأنت لا تضمن السداد؟، قال فى ابتسامة: أنا أستثمر فى البشر.
استطاع «سمير ومنى» خلق مناخ فى منتهى الانضباط، وتعامل فى منتهى الرقى والاحترام، وتبقى أمر واحد: أن يظهر المُنتَج الفنى على نفس المستوى.
وقبل أن نبدأ التسجيل جمعت كل الممثلين، وجلسنا معًا نشاهد الفيلم كاملًا استعدادًا لخوض المعركة.
جاء اليوم الحاسم، يوم بداية التسجيل، كانت هناك شهور قد مرت منذ اللقاء الأول حول هذا المشروع فى يناير، وحان اليوم الأول للتنفيذ ونحن فى منتصف العام، والصيف يكوينا بلهيبه، شهور من الترتيبات والاختبارات وتعديل الصياغة والتأخير فى الرد من شركة «ديزنى»، وبعد طول انتظار جاء وقت الامتحان حيث يُكرم المرء أو يُهان.
ليلتها لم أستطع النوم بشكل هادئ، ونتاجًا لطبيعة عملى تعودت النوم فى وقت متأخر من الليل أو قرب الفجر، وأن أصحو قرب الظهيرة، ولكن على حسب موعد التسجيل الذى حددته- وهو الثانية عشرة ظهرًا- كان لا بد أن أصحو فى العاشرة على الأكثر، ولكن الأرق لازمنى، وفى التاسعة صباحًا قمت من سريرى قلقًا وتوجهت إلى الاستديو.
وجدت حالة من الهدوء، والمكان يخلو من البشر إلا عامل النظافة الذى كان يمارس مهامه اليومية، وقفت خارج الاستديو أنتظر انتهاء عملية النظافة، وانتبهت بعد قليل إلى أنى أدخن بشراهة تنفيسًا عن قلق مبالغ فيه.
تقاطر بعد قليل وصول موظفى الاستديو ومهندس التسجيل ومساعدتى، ووصل أول ممثل، كان على ما أذكر الفنان عادل خلف، ومضى مهندس التسجيل يضع له الميكروفون ويجرب أفضل المسافات ووضع أوراقه على حامل النوت الموسيقية، وبدأنا فى تسجيل أول شخصية، بعد جملتين طلبت منه التوقف، فلقد لاحظت أنه يؤدى كل جملة بطريقة مختلفة- برغم أنها بنفس الصوت- وكأنها ليست صادرة عن نفس الشخصية.
أعدت له شرح الشخصية وتفاصيل تصرفاتها حتى يكون هناك خط رابط بين انفعالاتها، وتركته يشاهد الفصل الأول للفيلم كاملًا «حوالى ٢٠ دقيقة» ثم بدأنا فى التسجيل مرة أخرى.
مع كل جملة كنت أكتشف أشياء كثيرة، وكأننى كنت أدخل إلى عالم آخر، عالم مختلف له قوانينه الخاصة والمنفردة، ولكن الاكتشاف الأكبر الذى تنامى داخلى على مدار العمل، وما زلت أؤمن به حتى الآن: أن ما نقوم به أصعب بكثير من صناعة الأصل.
الممثل فى اللغة الأصلية للفيلم يسجل صوته على صور ثابتة، تشبه مجلات الكوميكس، وبعدها يقوم الرسامون بتحريك الشخصية ورسم انفعالاتها طبقًا لأداء الممثل، ويحركون فم الشخصية على حسب نطقه وفى نفس زمن نطق الكلام، ومن الممكن للممثل أن يضيف أو يحذف أويُعدّل بعض الألفاظ.
أما نحن فلا نملك تلك الرفاهية، فنحن نتعامل مع فيلم قد اكتمل، ولذا فنحن محكومون بعدة عوامل: لقد أصبحنا مقيدين بنفس الحوار ونفس الانفعالات، ولكن نقوم بأداء الشخصية بلغة مختلفة عن الأصل، وبرغم الاختلاف يجب أن يكون الحوار فى نفس الزمن وأيضًا بأقرب ما يكون لحركة فم الشخصية المرسومة، فليس من المعقول أن تغلق الشخصية فمها فى نهاية الجملة لأنها تنتهى بحرف M مثلًا وفى اللغة العربية تنتهى الجملة بحرف هاء أو ياء، وليس من المعقول أن يكون الحوار فى اللغة الأصلية مكونًا من ثلاث كلمات، ويكون النص العربى مكونًا من ٦ كلمات، ربما استطعت نطقها فى نفس الزمن ولكن فمك سيتحرك أسرع وأكثر من المرسوم والظاهر على الشاشة.
ولذا فلزامًا علينا أن يراعى الممثل إحساس الشخصية وحركة فمها سرعةً وبطئًا، انفتاحًا وانغلاقًا، وأن يبدأ معها وينتهى معها «هذه العملية تسمى التزامن أو السينك، كما يقولها أهل المهنة»، وهو ما يُصعّب العمل ويجعله مضنيًا، فكثيرًا ما توقفت لأبحث عن لفظة بديلة تنتهى بحركة فم تشبه الصورة، أو لأختصر جملة أو أُطيلها، وكثيرًا ما كنت أقترب من الشاشة وأحملق بها لدقائق طويلة وأنا أَعيد المشاهدة عدة مرات لأتأكد أن خدعتى فى تجاوز التزامن لن تُكتشف.
هل هذا من باب التزيُد؟
من وجهة نظرى: هذا ما يجعل المشاهد ينسى أن الفيلم مدبلج، فلن يحس بغربة إذا رأى الصورة تطابق الكلمات والتزامن بينهما على أعلى درجة ممكنة، بالطبع إلى جانب صدق الأداء، وليس تنغيم الصوت فقط- دون حاجة أو هدف- وهذا ما كنت أرفضه تمامًا، وهو السبب الرئيسى لكراهيتى للدوبلاج قبل العمل به، فلقد كنت أستاء أشد الاستياء من ممثلى الدوبلاج- خاصة فى اللغة العربية الفصحى- وهم يتمادون فى تلوين أصواتهم بلا سبب أو دافع أو هدف سوى ألا يصبح على وتيرة واحدة، ونسوا أو تناسوا أن تلوين الصوت يجب أن يكون نابعًا من الموقف والشخصية والمعنى الذى تريد إيصاله، وهناك مثل شهير عن عبارة: «صباح الخير»، وكيف عن طريق تلوين الصوت من الممكن أن تكسبها عدة معانٍ ما بين السؤال والاستنكار والأسى وربما حتى السب.
وأيضًا كنت أكره عدم تنغيم الصوت عند الضرورة، وأبسط مثال: عندما ينادى شخص على آخر ويكرر النداء، فمن المنطقى ألا تكون الثانية مثل الأولى وإلا ما كرر النداء، وهو ما يغيب عن بعض الممثلين فتجد النداء مكررًا بنفس الطريقة.
ومع مرور الأيام واختلاف الممثلين، بدأت مشاكل أخرى فى الظهور لم تكن فى الحسبان، فبعض البشر ينطقون بعض الحروف مضخّمة مما يسبب مشاكل فى التسجيل، مثل حرف الباء وهو حرف انفجارى ينتج عن احتجاز الهواء ثم إطلاقه من بين الشفتين، مما يسبب فى الميكروفون صوتًا وكأنه «خبطة»، وعلاجه أن يبتعد الممثل قليلًا عن الميكروفون، فكيف ومن المفترض أن يظل محافظًا على نفس المسافة يوميًا؟ الحل الآخر أن يتحكم فى كم الهواء المنفجر، ولكن هل يستطيع التحكم فى كمية الهواء الخارجة بعد أن قضى عمره ينطق الباء بنفس الطريقة؟ هل يبتعد كلما جاء هذا الحرف؟ أم من الأفضل أن نعيد ترتيب وقفته ونُعيد التسجيل من أوله؟ وإذا تغلبنا على الباء فماذا نفعل فى الخاء التى تخرج من فم البعض مشتملة على حرفى «كاف وخاء» وقليلًا من صوت الغرغرة؟
فى وسط تلك التفاصيل لا بد وأن تجد الممثل الذى تجهده الوقفة بسرعة فيطلب الجلوس، فتعيد ضبط الميكروفون وتعيد التسجيل من البداية، أو صاحب المزاج الذى يطلب أن يحتسى الشاى وهو يعمل- وهو ما يزيد اللعاب فى الفم ويسبب مشاكل فى النطق- أو من تعود على التنفس من الفم بين الكلمات فيظهر صوت الشهيق مسموعًا وربما مشفوعًا بصوت آخر بسبب اللعاب.. والأمثلة كثيرة!
ولكن الكل اجتمع على ضرورة التوقف كل فترة للخروج من جحيم الاستديو الذى اُضطررنا إلى تخفيض التكييف فيه لأن صوته كان ظاهرًا بالتسجيل.
ومع الأيام تعلمنا وازددنا خبرة، وصار وضع جدول الأسبوع التالى أسهل وأيسر، فقد ظهرت لنا معالم تحدد عدد الساعات التى تحتاجها كل شخصية للتسجيل حسب حجم عملها، ودائمًا ما كنت ألجأ إلى إعادة تسجيل اليوم الأول فى نهاية الأيام بعد أن يتمكن الممثل من الشخصية، فاليوم الأول يتضمن المشاهد الأولى للشخصية، فلا بد من براعة الاستهلال، وهو ما يتطلب إجادة تقديم الشخصية التى يحصل عليها الممثل بالخبرة على مدار أيام التسجيل، ولكن إصرارى على الإجادة هذا كان يجر علىَّ المشاكل.
كان التسجيل يمضى قدمًا، نحاول أن نستفيد من أخطائنا، ونحاول أيضًا أن نتقن الأمر، وكان التحدى أمامى ألا يقل المستوى فى شريط الصوت عن الأصل وبما يليق بفيلم نجح نجاحًا مدويًا كهذا الفيلم.
فقد كان فيلم «الأسد الملك» هو قُبلة الحياة لشركة «والت ديزنى»، فبعد بعض تعثرات أصابت الشركة جاء هذا الفيلم ليعيد لها البريق والسمعة الطيبة ويسدد ديونًا تراكمت ويرفع أسهمها ويحسن مركزها المالى، فلقد حقق لها أرباحًا خيالية، سواء من عرضه كفيلم أو من مبيعات أدوات على شكل شخصيات الفيلم- بدءًا من أقلام وكراريس ومطبوعات وملابس ولعب حتى ألعاب الكمبيوتر- ما يزيد على المليار دولار، وصار درة التاج فى أعمال «ديزنى» برغم أنه يحمل رقم ٣٢ فى سلسلة أفلام ديزنى للتحريك، ووصلت شهرة الفيلم إلى أن يعلن «بيل كلينتون»، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، تأثره بالفيلم وأنه بكى فى مشهد موت «موفاسا»، وذكر ذلك فى أحد لقاءاته، وبذلك أكد نجاح الفيلم.
والحقيقة أن شركة «ديزنى» قد حشدت فى هذا الفيلم مجموعة من أفضل ممثلى هوليوود- بعضهم يحمل جنسيات أخرى- ومعظم المشاركين فى الفيلم ممن حازوا جوائز مهمة ومتعددة أو على درجة كبيرة من الشهرة، فمن تقوم بدور أحد الضباع الممثلة السمراء الشهيرة «ووبى جولدبرج» الممثلة والإعلامية وكاتبة الأغانى التى حازت الأوسكار ورشحت لجائزة إيمى ١٣ مرة وحازت عدة جوائز أخرى، ومن يقوم بدور سكار هو الممثل «جيرمى أيرونز» وهو ممثل من طراز رفيع، حاز على جائزة الأوسكار وجائزة إيمى مرتين وجائزة الجولدون جلوب، وحتى من لم يحصل على جوائز متعددة كان مميزًا فى مجاله- كممثل دور زازو الذى اشتهر بشخصية مستر بين- وتلك أمثلة فقط ولكنها أمثلة لم تخفنى بقدر ما حفزتنى وربما جعلتنى فى تحدٍ مع نفسى.
بالإضافة إلى أن هذا أول فيلم يتم إنطاقه باللغة العربية عقب افتتاح فرع لشركة والت ديزنى فى الشرق الأوسط، بمدينة دبى بالإمارات، وبناء على مستوى هذه النسخة سيتم استكمال دبلجة بقية أفلام ديزنى فى القاهرة أو تنتقل لمكان آخر، بل سمعت فى وقتها شائعة أن فريقًا ثانيًا يقوم بدبلجة الفيلم أيضًا فى عاصمة عربية أخرى، وأنه ستجرى مقارنة بين النسختين بعد الانتهاء.
ربما كل ما سبق جعلنى متشددًا فى العمل، أحاول أن أصل إلى درجة من الإجادة ترضينى أولًا، ولا تقل عن جودة الأصل، ولهذا كنت دقيقًا فى العمل إلى أبعد مدى، مما استلزم أن أكون قاسيًا فى بعض المواقف فى مطالبتى الممثلين بتقديم أقصى ما لديهم.
أذكر أن موعد تسجيل حوار شخصية «سكار»- التى يقوم بها الأستاذ «عبدالرحمن أبوزهرة»- كان فى الثالثة ظهرًا فى عز وهج الصيف، وكانت علاقتى به- فى ذلك الوقت- لا تتعدى العمل، برغم أننا كنا قد انتهينا منذ فترة قصيرة من تقديم عرض «منمنمات تاريخية» للمؤلف المسرحى السورى العظيم «سعد الله ونوس» على «المسرح القومى المصرى»، إلا أن العلاقة بيننا لم تتوثق، ذلك أن العرض كان يشمل عدة خطوط أو حكايات متجاورة، وكانت مشاهد الأستاذ «أبوزهرة» لها مواعيد محددة خلال الأسبوع بسبب ارتباطه بتصوير مسلسل، لذا لم نحتك طويلًا فى البروفات وانتهت المسرحية والعلاقة بيننا فى حدود العمل فقط.
وعندما بدأت التحضير للفيلم كان الترشيح الأول لدور «سكار» من نصيبه، وهى شخصية مركبة، حيث كان الأداء فى الجزء الأول من الفيلم يتسم بسخرية مبطنة وتواضع مصطنع مغلف بغضب مكتوم وحقد مُتوارٍ، عكس الجزء الثانى- بداية من اتفاقه مع الضباع على المؤامرة- فينطلق حقده المكتوم إلى شر مطلق وصوت آمر ممتلئ بالقوة والجبروت.
ولا أنكر أن الأستاذ «أبوزهرة» كان قادرًا على أداء الشخصية بروعة شديدة، ولكننى كنت دائمًا ما أطلب منه الأفضل، وأدفعه لمزيد من الإجادة، حتى انفجر ذات مرة وأعلن عن أنه لن يكمل العمل، خاصة فى وسط هذا الجو الحار داخل الاستديو، فما أسهل على المخرج أن يطلب الإعادة مرارًا وتكرارًا وهو جالس فى التكييف، بينما الممثل يعانى وينصهر فى الحر.
قلت له: طيب اقعد ارتاح شوية وهنشغل التكييف.
استمر الأستاذ فى انفعاله مُعلنا عن سخطه فى مونولوج طويل، ولم أعرف كيف أرد عليه أو أوقف تدفقه، وفى وسط ثورته وجدتنى أقول له بعفوية شديدة: اهدأ بس يا عبده.
فجأة ضحك الأستاذ وقال فى اندهاش: عبده؟ جبتها منين دى؟ ماحدش بيقولى يا عبده إلا مراتى فى البيت.
قلت له: خلاص اعتبر نفسك فى البيت، ارتاح شوية واشرب حاجة ساقعة ولو تعبان مش هنكمل النهارده.
خرجت حائرًا من الاستديو، لقد كنت متأكدًا أنه لا أحد سواه من الممكن أن يؤدى تلك الشخصية بإجادة، فكيف إذا أصر على عدم استكمال التسجيل؟ هل ندخل مرة أخرى فى دوامة الاختبارات واختيار أصوات؟
خطر لى أن أستعين بالأستاذ «عبدالرحمن شوقى»، فهما صديقان ومن نفس الجيل ولديهما تاريخ من العمل المشترك، لذا اتجهت إلى مكتب «سمير حبيب» حيث كان يجلس معه الأستاذ «عبدالرحمن»، وقلت له: تعالى شوف صاحبك «أبوزهرة»، متعصب ومش عاوز يكمل.
فقال: طب ادخل وأنا جايلك.
دخلت إلى الاستديو متوقعًا من الأستاذ «أبوزهرة» الإصرار على الانسحاب، أوعلى الأقل تأجيل التسجيل ليوم آخر، إلا أننى فوجئت به وقد خلع قميصه ووقف داخل الاستديو بالفانلة الداخلية وهو يراجع الحوار مع نفسه بصوت خفيض، ثم نظر لى فى تحدٍ وقال: حاضر.. هاعملك اللى إنت عاوزه.. اطفى التكييف ويَالا نِكمل.
قلت له: طب ارتاح شوية.
قال: لا.. يَالا وأنا سُخن كده.
وكأن ماحدث أعطى له شحنة هائلة، فمضى يسجل الدور فى قدرة فائقة وسلاسة، بعدها بما يقرب من الساعة وجدت الأستاذ «عبدالرحمن شوقى» يدخل إلى الاستديو ويجلس قليلًا ليستمع للتسجيل ثم يحيى «أبوزهرة» ويثنى عليه ويخرج من الاستديو.
عقب انتهاء اليوم قلت لأبوزهرة: معلش أنا باضغط عليك بس أنا عارف إنك ممكن تطلع شغل أفضل.
قال فى ابتسامة عريضة: ما أنا عارف، ماتزعلش من انفعالى أنا كده فى الشغل! وإذا لقيت حاجة مش مظبوطة خلينى أعيد.
ومنذ ذلك اليوم صرنا أصدقاء، وأصبحت أسعى لوجوده فى كل عمل لى سواء كنت مخرجًا أو مديرًا لمسرح، فقد أصبحت «مفاتيح» الأستاذ أبوزهرة عندى- كما يقولون- وعندما يبدأ فى الانفعال فإن كلمة السر أملكها لإنهاء أى مشكلة: «اهدأ يا عبده».
أصبحت أيام التسجيل مشحونة بالمواعيد، كل شخصية لها موعدها المحدد الذى تأتى فيه لتستمر فى العمل لمدة ٣ ساعات، وتخرج لتحل محلها أخرى لمدة ٣ ساعات أيضًا، وبينهم نصف الساعة فقط من أجل الراحة وتناول الطعام- إن استطعنا- وفى نهاية اليوم ساعة إضافية للمجاميع والأدوار الهامشية.
كم كانت العملية مرهقة وتحتاج إلى تركيز كبير فى حاستى السمع والإبصار، حتى إننى فى بعض الأيام كان التسجيل ينتهى وأنا أعانى من صداع فظيع وألم أفظع فى عينىّ، وأخرج من الاستديو وأنا لا أطيق سماع أى صوت أو أرى أى شىء إلى اليوم التالى، ولكن كل هذا انقضى فى منتصف الأسبوع الثانى عندما اكتملت بعض المشاهد واستطعنا سماعها مصاحبة للفيلم، كان إحساسًا بالمتعة أن المهمة تسير بشكل جيد ونتائجها مبشرة، وكثيرًا ما طلبت من عم «عبدالرحمن شوقى وسمير حبيب» أن يستمعا لما تم إنجازه، ولكنهما كانا يقولان لى إنهما يفضلان أن يستمعا بعد انتهاء المهمة كاملة.
وبرغم التقدم الملموس كانت الأدوار الناقصة تؤرقنا جميعًا، فمازلنا نبحث عمّن يقوم بأدوار: موفاسا وتيمون ونالا، وتقدم هشام نور باقتراح اسم مطربة شابة تعيش بالإسكندرية، وبالفعل جاءت المطربة أمانى شوقى من الإسكندرية خصيصًا وأجرت اختبارًا للشخصية تمثيلًا وغناءً وتم قبولها، وبرغم أنها كانت تمثل لأول مرة فى حياتها فإنها- وبكثير من التدريب- استطاعت تقديم الشخصية بشكل جيد.
ربما فى خضم العمل انشغلت عن التفكير فى ترشيحات جديدة لدورى موفاسا وتيمون، إلى أن دخل إلى الاستديو شاب مكتنز، أميل إلى القصر، يرتدى نظارة طبية ولكنها داكنة كنظارات الشمس، وبرغم حجمها الكبير الذى يغطى جزءًا كبيرًا من وجهه لا تخفى أنه صغير السن، وفى خجل شديد قال: الأستاذ سمير باعتنى أعمل اختبار لصوت موفاسا.
أصبت بصدمة، لم أتخيل موفاسا بهذا الشكل أبدًا، دائمًا ما أتخيله رجلًا ضخمًا، تخطى سن الشباب، يمتلئ بالقوة والحكمة والحنان- هذا ما كان يوحى به الصوت والصورة فى الفيلم- فكيف يؤديه ذلك الشاب الذى يقطر طيبة وتواضعًا ويكاد يذوب خجلًا؟! حددت له موعدًا لإجراء الاختبار وبعدما انصرف سألت «سمير حبيب» عنه فقال لى: ده «عصام سيف»، مغنى فى الأوبرا المصرية ومن الأصوات العريضة القوية النادرة ومُغنٍ شاطر قوى.
فقلت له: هيعرف يمثل؟
قال: دى مهمتك بقى، ابذل معاه مجهود، الصوت اللى فى تسجيل «ديزنى» من نفس الطبقة.
فى الموعد المحدد جاء ذلك الشاب وجلس فى هدوء وسمات الخجل تبدو واضحة عليه، ولكن بمجرد أن دخل إلى الاستديو تحول إلى شخص آخر: زال عنه الخجل وأصبح يتعامل مع المكان وكأنه الحوت الذى عاد إلى مياهه الطبيعية، وعندما بدأنا الاختبار وجدت صوتًا فريدًا وإحساسًا متدفقًا، وجهت إليه بعضًا من الملاحظات وأعدنا التسجيل مرة أخرى، بعدها بت متأكدًا من أن «ديزنى» ستقبله، الشىء الوحيد الذى أدهشنى أنه دائمًا فى فترات الصمت نسمعه يغنى لنفسه فى صوت خفيض وكثيرًا ما كنا نطيل فترات الصمت لنسمع غناءه.
قد يتساءل البعض أين هو الآن؟ إنه الصوت فى معظم الإعلانات التى تسمعها أو تشاهدها حاليًا، ربما كثيرون لا يعرفون شكله ولكن الكل يعرف صوته فلقد أصبح نجمًا كبيرًا فى مهنة التعليق الصوتى على الإعلانات تتهافت عليه الشركات، أما هو فمازال الشخص الخجول الذى يقطر طيبة وتواضعًا.
ولم نصل إلى ممثل يقوم بشخصية تيمون برغم الترشيحات الكثيرة، وجاءت ملاحظة من «ديزنى» ساعدتنا كثيرًا، فالمشرف على الدوبلاج هناك- وله قصة طويلة- نصحنا بالبحث عن ممثل يشبه تيمون فى الشكل وأن يكون كوميديانًا.
هذه الملحوظة جعلتنى أفكر فورًا فى شاب لفت نظرى منذ سنوات قريبة عندما شاهدته فى مسلسل «البخيل وأنا» مع العظيم «فريد شوقى»، كما ظهر حديثًا فى عدة أفلام مع الزعيم عادل إمام وقدم عدة أدوار مسرحية ناجحة، كما أننا التقينا عدة مرات فى الإسكندرية وهو يمثل فى مسرحية «العسكرى الأخضر» مع النجم «سيد زيان»، بينما كنت أقدم مسرحية «حلو الكلام» مع النجم «سعيد صالح»، إنه شاب ممتلئ بالموهبة، سريع البديهة ويمتاز بخفة دم طبيعية تجعله كوميديانًا بالفطرة دون بذل أى مجهود، لذا طلبت من «سمير حبيب» العثور على شاب يدعى «محمد هنيدى»، وفى سرعة شديدة استطعنا الوصول إليه.
وقف «هنيدى» أمام الميكروفون ليؤدى الاختبار، وبعد انتهائه تأكدت أنه بالفعل تيمون.
كيف استطاع هذا الرجل من «ديزنى» أن يحل مشكلة الاختيار بهذه البساطة؟ شغلنى السؤال طويلًا، وبعدها علمت أن تلك إحدى وسائلهم لاختيار الممثلين: أن يكون هناك تواؤم بين شكل الشخصية المرسومة وحجم الممثل الذى يؤديها، المهم أنهم وافقوا على «هنيدى» بمجرد إرسال الاختبار، وصارت شخصية «تيمون» هى الأخيرة فى ترتيب تسجيل الشخصيات.
وعندما بدأنا تسجيل شخصية تيمون كانت لهنيدى اقتراحات ببعض إضافات ولكن للأسف لم يكن فى استطاعتى تنفيذها، أولًا لأن شركاءه فى المشاهد سجلوا أدوارهم وانتهى الأمر، وثانيًا لأن هذه الاقتراحات تعتبر خروجًا عن النص الأصل، وربما اعتقد «هنيدى»- وقتها- أننى أتعسف ضد اقتراحاته، يضاف إلى ذلك إصرارى على التجويد وإعادة تسجيل اليوم الأول مما أصاب هنيدى بالضجر، ولأنه شخص مهذب فقد أعلن عن ضيقه بطريقة فى غاية التهذيب ولا تخلو من طرافة، فأثناء العمل قال لى: يا أستاذ لو سمحت لما يبقى فيه شغل من النوعية دى ما تبقاش تبعت لى تانى، فقلت له فى بساطة: حاضر يا محمد.
وكأن أبواب السماء كانت مفتوحة فلم نلتق بعدها معًا فى أى عمل آخر- باستثناء مشروعين لم يتما للأسف الشديد- وحتى عندما قام بنفس الدور فى مسلسل يحمل اسم «تيمون وبومبا» لم يكن المسلسل من إخراجى، ولكن يظل «هنيدى» من العلامات المضيئة فى فيلم «الأسد الملك» ويظل دور تيمون من العلامات المضيئة فى مسيرة هنيدى الفنية.