الأربعاء 23 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مهزلة.. كتاب وأدباء أسرى الذكاء الاصطناعى

حرف

- بعد 12 عامًا من الترقب.. الذكاء الاصطناعى يتحدى «لعبة العروش» وجورج مارتن

- كتب الذكاء الاصطناعى تغزو «أمازون» وتضع مصداقية النشر الإلكترونى على المحك 

- كاتب ينشر 120 كتابًا خلال عامين.. ويعتبر استخدام الذكاء الاصطناعى جزءًا من التجربة السردية

فى عام 2024 يكون قد مر 12 عامًا منذ أن بدأ المؤلف جورج أر. مارتن العمل على عمله المنتظر «رياح الشتاء»، وهو الجزء السادس من سلسلة الروايات، التى أخذ عنها المسلسل الشهير «لعبة العروش». ومع عدم تحديد موعد لإصداره حتى الآن، قرر أحد المعجبين المُتقنين للتكنولوجيا أن يكتب القصة بنفسه، فطلب من «شات جى بى تى» أن يكتبها له. باستخدام الذكاء الاصطناعى، طلب منه تطوير الخطوط الأساسية لكل فصل، ثم تحويلها إلى نص أدبى، ليسفر ذلك عن عمل ضخم فاجأت جودته الكثيرون.

كانت المفاجأة فى أن هذا الإصدار الذى صنعه القارئ لم يصل إلى مستوى إبداعات مارتن، لكنه اشتمل على الحبكات غير المتوقعة التى شكّلت عاملًا أساسيًا فى نجاح ملحمته الفانتازية. وكان من بين القراء المذهولين مارتن نفسه، الذى بعد اكتشافه لهذا العمل، لم يتخذ فقط إجراءات قانونية ضد القارئ المعجب، بل أيضًا ضد مطورى شات جى بى تى؛ شركة «أوبن إى آى». 

لم يكن جورج مارتن هو الوحيد الغاضب والقلق مما وصلت إليه قدرات الذكاء الاصطناعى فى المحاكاة، فكتّاب آخرون مثل جون جريشام وجوناثان فرانزن، عبّروا عن غضبهم من نماذج الذكاء الاصطناعى التى تدرّبت على كتاباتهم، وهو ما يجدد السؤال حول القدرات الإبداعية لتلك الآلات. هل يمكن لهذه النماذج أن تنتج نوع الكتابة الذى يحرك مشاعرنا، أم أنها ستظل مقصورة عن تحقيق ذلك؟

جورج مارتن

بيانات التدريب

فى التحقيق الذى أعدّه موقع «BIG THINK» حول القضية، رأت الصحفية فوهينى فارا أن الذكاء الاصطناعى صار بمقدوره تطوير كتابة مُعبّرة عن المشاعر، لا سيما مع تطوُر تدريبه. فى مقال لها بعنوان «اعترافات كاتبة تستخدم الذكاء الاصطناعى»، سردت كيف منحتها شركة «أوبن إى آى» وصولًا مبكرًا إلى نموذج GPT-3 عام ٢٠٢٠. ولأنها ترى الكتابة الإبداعية عملية انتظار للكلمة المناسبة، كانت تظن أن الذكاء الاصطناعى، الذى يمتلك وصولًا فوريًا إلى ملايين الكلمات، يمكن أن يكون أداة مفيدة، خاصة فى الموضوعات التى كانت تجد صعوبة فى الكتابة عنها. من بين تلك الموضوعات كانت وفاة أختها الكبرى بعد صراعها مع السرطان. فى البداية، كانت محاولات GPT-3 غير مُرضية، إذ كان يقدم قصصًا تتضمن تعافيات غير واقعية أو أحداثًا لا تتماشى مع الواقع. لكن بعد أن قامت بتوجيه الذكاء الاصطناعى وحسّنت من مدخلاته، تمكن GPT-3 من إنتاج جملة رأت أنها مؤثرة بعمق.

أما الكاتب شون مايكلز، فيرى أن الذكاء الاصطناعى يثير تساؤلات حول مدى تفرد الإبداع البشرى، متوقعًا أن يؤدى الاستخدام المتزايد للنماذج اللغوية إلى تراجع تنوع الأساليب الأدبية وتوحيدها، وإن كان البعض يرى أن الذكاء الاصطناعى قد يدفع الكتّاب إلى الابتكار وتجاوز الحدود التقليدية، ومن ثم فمن الممكن أن نشهد مستقبلًا إبداعيًا تتغير فيه الكتابة كما تغيرت الفنون الأخرى مع ظهور التقنيات الجديدة، ليصبح الذكاء الاصطناعى مصدرًا للإلهام والتغيير بدلاً من تهديد الكتابة الإبداعية.

قدرات التكنولوجيا

فى تقرير نشر فى موقع the national أشارت كولفيندر بانيسار، أستاذة الذكاء الاصطناعى فى جامعة برادفورد، إلى أن الذكاء الاصطناعى بمقدوره إنتاج روايات بأسلوب مشابه للأعمال المنشورة، وأن التقنيات المستخدمة تعزز نماذج اللغة بمعلومات إضافية لتساعدها فى إنتاج محتوى محدد. وفى هذا الإطار، أوضح جيمس روبرت كارسن، أستاذ مساعد فى جامعة إيست أنجليا، أن الذكاء الاصطناعى قد لا يكون قادرًا على تجسيد الفروق الدقيقة فى شخصية الإنسان مثلما يفعل الكاتب البشرى، لكن القراء قد لا يلاحظون فى بعض أنواع الكتابة أى اختلاف بين ما يُكتب بواسطة إنسان أو آلة. فيما أشار الدكتور كيفان مانوارينج، أستاذ الكتابة الإبداعية، إلى أن الذكاء الاصطناعى قد لا يستطيع استبدال الإبداع البشرى، واصفًا إياه بأنه «ذكاء تجميعى» لأنه يُعيد تكوين ما هو موجود بالفعل على الإنترنت.

كان استخدام الذكاء الاصطناعى فى الكتابة الإبداعية سببًا رئيسيًا فى إضراب كتّاب هوليوود العام الماضى، والذى انتهى باتفاق بين نقابة كتّاب أمريكا واتحاد منتجى الأفلام والتليفزيون. وفى رسالة بوقت سابق إلى شركات التكنولوجيا، حذر عدد من الكتّاب المعروفين، مثل مارجريت أتوود ودان براون، من الاستخدام غير المصرح به لأعمالهم فى تدريب برامج الذكاء الاصطناعى. 

الاعتماد على الذكاء الاصطناعى

جدل مماثل، سلّط عليه الضوء موقع «business insider»، بحديثه عن كاتب يدعى تيم بوتشر كان قد أعلن مؤخرًا عن استخدامه للذكاء الاصطناعى فى إنتاج ١٢٠ كتابًا، خلال عامين فقط، يعتمد فى معظمها على صور ونصوص مولّدة بالذكاء الاصطناعى.

رأى بوتشر أن فى هذه التقنية وسيلة لاستكشاف أسلوب سردى جديد، وأن الأخطاء والتناقضات التى تنتجها النماذج التوليدية يمكن اعتبارها جزءًا من العملية الإبداعية، تستخدم لتقديم تجربة قصصية فريدة، مشابهة لمفهوم الراوى غير الموثوق. 

تيم بوتشر

ولكن ما صرّح به بوتشر كان محل انتقادات لكتاب آخرين، ومنهم الكاتب الحائز على جائزة بوليتزر مايكل شابون، الذى رأى أن استخدام الذكاء الاصطناعى بهذا الشكل يعد سرقة للأعمال الإبداعية. 

يعترف بوتشر بمشروعية بعض الانتقادات، ومع ذلك، فهو يعتقد أن الكثير من الهجوم عليه نابع من سوء فهم دوره الإبداعى، ويرى بوتشر أن مستقبل الذكاء الاصطناعى سيُحسم فى المحاكم، وأن التكنولوجيا ستتحسن مع الوقت، لكنه يُفضِّل أن يكون من أوائل من يختبرون إمكانياتها بدلاً من انتظار اكتمالها، مؤكدًا على رغبته فى استكشاف هذه «الفرصة المثيرة» فى عالم الذكاء الاصطناعى.

أمازون وفوضى النشر

ربما تتجسد حالة الفوضى بشكل واضح على منصة «أمازون»، إذ تشهد سوق النشر الإلكترونية على أمازون زيادة ملحوظة فى عدد الكتب التى يُشتبه بأنها مولّدة بالذكاء الاصطناعى أو تضم محتوى منتحلًا من أعمال مؤلفين حقيقيين. 

اكتشف المؤلف مات أورين أن عدة كتب على المنصة سرقت محتوى كتابه «الساحرة الروحية» لعام ٢٠٢٠ مع تعديلات طفيفة، وغالبًا ما تبدو هذه التعديلات كأنها ناتجة عن برمجيات الذكاء الاصطناعى التى تعيد صياغة النصوص دون فهم المعنى. بدأ أورين ملاحظة هذه المشكلة عندما ظهر له فى توصيات أمازون كتاب بعنوان «إيقاظ حدسك السحرى وقدراتك النفسية»، لمؤلفة تدعى جليندا بورتر. وبدافع الفضول، اشترى نسخة رقمية من الكتاب، ولاحظ أنه عبارة عن نسخة معدّلة من كتابه. بعد تحقيقات إضافية، وجد أورين أن بورتر ليس لها أى وجود فعلى على الإنترنت باستثناء سيرة ذاتية قصيرة، فى حين أن ناشر الكتاب لم يقدم دليلاً واضحًا على أنها شخص حقيقى، وادعى أن الكتاب لم يُسرق عن عمد.

ومنذ ذلك الحين، اكتشف أورين ما لا يقل عن ثلاثة كتب أخرى نسخت محتوى كتابه بنفس الطريقة. وبدراسة عينات من هذه الكتب، حددت شركة مختصة بكشف المحتوى المولّد بالذكاء الاصطناعى أن اثنين من هذه الكتب على الأقل أُنتج باستخدام برمجيات الذكاء الاصطناعى، وهى ظاهرة تزداد انتشارًا وتقلل من قيمة الأعمال الأصلية للمؤلفين.

أثارت هذه الظاهرة قلق مؤلفين آخرين من قبل، مثل جين فريدمان، التى اكتشفت كتبًا تحمل اسمها على أمازون لكنها لم تكتبها، وعندما حاولت التواصل مع أمازون لحذف هذه الكتب، لم تلق استجابة فورية حتى تصاعد الضغط الإعلامى وتدخّلت مجموعات حقوق المؤلفين مثل اتحاد المؤلفين. وعلى الرغم من أن أمازون تطلب من المؤلفين الذين يستخدمون الذكاء الاصطناعى فى كتبهم الإفصاح عن ذلك مسبقًا، فإنها لا تُلزمهم بالإعلان عن هذه المعلومات، مما أدى إلى انتشار كتب مزورة تسىء استخدام الذكاء الاصطناعى لتوليد محتوى سريع، وهو ما يهدد مصداقية الكتب الأصلية ويضع المؤلفين البشريين فى منافسة غير عادلة.

وبسبب ذلك، ما زالت المنصة الشهيرة تواجه انتقادات شديدة بسبب عدم قدرتها على التعامل مع هذه المشكلة بشكل فعال. فبينما تُزال بعض الكتب المخالفة بعد تقديم الشكاوى، تعود هذه الكتب أو تظهر أخرى مشابهة بسرعة، كما يتعذر على المؤلفين المتضررين الوصول إلى الأشخاص الذين يقفون وراء هذه الكتب المزورة، لأن أمازون تحافظ على سرية معلومات الناشرين.

محاولات لإيجاد حلول

فى سعيها للحد من الجوانب السلبية للذكاء الاصطناعى على حقوق الكتاب والمؤلفين، بدأت عدة شركات ومؤسسات اتخاذ خطوات جادة. وقد أشار تقرير نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» إلى بعض هذه الجهود، فقد أعلنت شركة «Created by Humans»، وهى شركة ناشئة، عن شراكة مع رابطة المؤلفين الأمريكية، لمساعدة الكُتاب فى ترخيص استخدام شركات الذكاء الاصطناعى لأعمالهم. وبهذه الشراكة، تعترف رابطة المؤلفين بأن الذكاء الاصطناعى قد أحدث اضطرابًا فى صناعة الكتب، وأنها ستساعد الشركة الناشئة فى تطوير ندوات تعريفية عبر الإنترنت للمؤلفين، توضح لهم كيفية عمل عملية الترخيص وما هى الخيارات المتاحة أمامهم. 

قالت مارى راسنبرجر، المديرة التنفيذية لرابطة المؤلفين، إن الترخيص يمنح المؤلفين والناشرين التعويض المالى، كما يتيح لهم القدرة على رفض مشاركة أعمالهم مع نماذج الذكاء الاصطناعى، فمن المقرر أن تتيح المنصة للمؤلفين إمكانية إنشاء ملفات تعريف وتحديد الكتب التى يرغبون فى ترخيصها، بالإضافة إلى تحديد نوع الاستخدام المسموح به، كما ستتضمن حقوق الترخيص عدة فئات، منها تلك التى تمنح الشركات حق استخدام الكتب لتدريب نماذج اللغة، وأخرى تسمح لهم بالرجوع إلى الأعمال لتقديم اقتباسات أو ملخصات.

لاقت هذه الجهود استحسان مؤلفين، ومنهم الكاتب والتر إيزاكسون، المعروف بأعماله الشهيرة حول شخصيات مثل ستيف جوبز وإيلون ماسك، فقد عبّر عن استعداده لترخيص كتبه لشركات الذكاء الاصطناعى، مما يعكس توجهًا جديدًا فى عالم الأدب، وكذلك الكاتب دوجلاس بريستون، الكاتب الأكثر مبيعًا، الذى أشار إلى أنها تهدف إلى دعم مكانة المؤلفين البشريين فى وجه تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى.

والتر إيزاكسون

هذه الجهود تعد امتدادًا لما شهده العام الماضى من محاولات لإيجاد حلول، إذ سبق وقدمت الرابطة دعوى قضائية جماعية ضد شركتى أوبن إيه آى ومايكروسوفت، متهمة إياهما بانتهاك حقوق النشر باستخدام الكتب لتدريب الروبوتات دون الحصول على تراخيص. وقد أطلقت صحيفة «نيويورك تايمز» أيضًا دعوى قضائية مماثلة ضد الشركتين، موجهة لهما نفس التهمة.

ومع ذلك، قد تؤثر هذه التطورات على صناعة النشر؛ فإذا قرر المؤلفون المشهورون السماح باستخدام أعمالهم، قد تفيض السوق بسرعة بالكتب المقلدة، مما يجعل من الصعب على المؤلفين البشريين الآخرين العثور على جمهور. 

تتجه الكتابة الأدبية نحو مستقبل غير محدد المعالم، تتخلله تحديات جديدة وابتكارات مستمرة. وربما قد يصل الصراع بين الذكاء الاصطناعى والإبداع الأدبى إلى آفاق غير مسبوقة، ومن المحتمل أن تبقى هذه القضايا محور اهتمام النقاشات الأدبية لعقود مقبلة، تلك التى تثير أسئلة حول جوهر الكتابة ودور التكنولوجيا فى تشكيل الأدب