سنوات خادعـة... انتصارات وانكسارات.. وتأريخ لجيل الستينيات
سنوات خادعة.. رواية الأديب صابر الجنزورى.. تحمل بين طياتها كل المشهيات الأدبية.. لغة سهلة وبسيطة.. أحداثًا مشوقة.. إيقاعًا سريعًا.. تاريخًا حيًا ما زالت وقائعه تنبض بين أيدينا.. خاصة وأن الجنزورى عمد إلى كتابة تاريخ جيله. ذلك الجيل الذى ولد منتصف الستينيات من القرن الماضى.. ولكى نحيط بهذه التجربة الإبداعية شديدة الخصوصية.. يجب أن نرتكز على بعض النقاط المهمة نجملها فيما يلى.
أولًا: الغلاف ملغز ومحير.. فالعنوان سنوات خادعة.. مع وجود بعض الأرقام وصورة الساعة.. مع صورة شبحية لرجل.. والأرقام هى ٧٠٠٠ و١٩٥٢ و٢٠١١.. فهل كل التاريخ المصرى- سبعة آلاف عام- سنوات خادعة.. أم أن ثورة يوليو ١٩٥٢.. ومن بعدها أحداث يناير ٢٠١١ هى السنوات الخادعة.. أم أن كل سنوات الزمن- الساعة- خادعة.. كما أن الصورة الشبحية على الغلاف توحى بالغموض.. ويمكن تفسيرها بأنه لا توجد شخصية حقيقية فى الرواية. فكل الأشخاص أشباح.. وكل هذا قد يكون مفيدًا للرواية.. حيث يعمل على إثارة فضول القارئ وشغفه.
ثانيًا:اختار صابر الجنزورى تقنية السيناريو؛ ليكتب من خلالها روايته.. فى مشاهد متتابعة سريعة الإيقاع.. وربما اختار ذلك تسهيلًا على من سيتصدى لتحويل هذه الرواية إلى عمل درامى.. على شاكلة «ليالى الحلمية» للمبدع العظيم أسامة أنور عكاشة.. والرواية بالفعل تحمل كل مواصفات النص الدرامى.
ثالثًا: هناك العديد من النقاط المفصلية.. التى تصلح قاعدة انطلاق.. لذلك الجيل الذى ولد فى منتصف الستينيات.. مثل ثورة الخبز ١٩٧٧.. أو معاهدة السلام مع الكيان الصهيونى ١٩٧٩.. أو اغتيال الرئيس السادات ١٩٨١.. أو أحداث الأمن المركزى ١٩٨٦.. ولكن الجنزورى اختار غزو العراق الكويت- أغسطس ١٩٩٠- ليكون نقطة انطلاق الأحداث فى روايته سنوات خادعة.. وبعد ذلك توالت الأحداث.. زلزال ١٩٩٢.. اتفاقية أوسلو ١٩٩٣.. محاولة اغتيال الرئيس مبارك فى إثيوبيا ١٩٩٥.. أحداث سبتمبر ٢٠٠١ فى أمريكا.. وصولًا إلى أحداث يناير ٢٠١١ فى تونس ومصر.. وبعض الدول العربية.. فيما أطلق عليه الربيع العربى.
رابعًا: تتشعب أحداث وأشخاص الرواية.. انطلاقًا من بطليها سمير وهاشم.. صديقا الطفولة وابنا المنطقة الواحدة.. وقصص الحب فى الجامعة بين هاشم وثريا.. سمير ونانسى.. تلك القصص التى لم تكتمل بعد التخرج.. ليسافر هاشم إلى الكويت.. ويتزوج شهيرة الحسينى الفلسطينية.. المطلقة من ابن عمها.. ويضرب سمير عن الزواج.. ويعمل فى أحد البنوك.. وينتقل منه إلى شركة بترول.. ويظل على حبه لعشقه القديم نانسى.. التى تتزوج من ابن عمها الطبيب.. وفى الصفحة الأخيرة من الرواية تحدث المفاجأة.. بطلب سمير الزواج من شهيرة.. التى تم طلاقها من صديقه هاشم.
خامسًا: قد يحدث الحب بين طرفين مختلفى الديانة.. وهذه منطقة شائكة، خاصة فى مجتمعاتنا العربية والإسلامية.. وقد توسع صابر الجنزورى فى تقديم تلك الحالات من خلال روايته.. حيث قدم ثلاث تجارب.. أهمها سمير سالم ونانسى نصيف.. محمد السعيد ووالدة نانسى قبل أن تتزوج.. عماد شكرى المسيحى مع عايدة المسلمة.. ومثل هذا الحب الشائك.. جعل نانسى تقول جملة شديدة الخطورة «كيف نؤمن بإله واحد وتفرقنا الأديان»، والخطورة لأن المنع ليس عامًا فى كل الأديان.. فالإسلام يبيح للمسلم أن يتزوج من الكتابية، مسيحية أو يهودية.
سادسًا: نجح صابر الجنزورى فى خلق مثلث ثقافى، تتصارع أضلاعه لجذب المؤيدين والمريدين.. يتكون هذا المثلث من العلمانى المثقف.. أنصار الإسلام السياسى «الإخوان، السلفية، مشايخ الطرق الصوفية».. وقد يصل الشطط ببعض العلمانيين.. إلى إنكار وجود الله.. لكنهم يجتهدون فى القراءة.. وكثير منهم انتقل من العلمانية إلى اليسار المستنير.. ثم إلى الإيمان الوسطى الجميل. ويمثل سمير سالم فى رواية سنوات خادعة ذلك النموذج.. الذى غاص فى الفلسفات المادية.. مثل وجودية سارتر.. والقوة عند نيتشة.. وكتابه «هكذا تحدث زرادشت».. واستعرض الجنزورى كثيرًا من تلك الأفكار الفلسفية.. بشكل روائى بسيط.. وإن عابه بعض الإسهاب.. وانتهى الأمر بسمير إلى كتاب المثنوى لمولانا جلال الدين الرومى.. الذى كان جسرًا عبر عليه من المادية البغيضة إلى التدين الوسطى الجميل.. وفى مقابل سمير سالم.. هناك أنصار الإسلام السياسى منير عبدالحميد ومحمد عفان.. وتحمل تلك الأسماء إسقاطات على أسماء معروفة.. سواء فى جماعة الإخوان أو فى التيار السلفى.. وقد كان المؤلف واضحًا فى رفضه ذلك التيار وتشدده.. وتجارته بالدين.. ولكن خانه التوفيق.. عندما اختار الشيخ الشعراوى؛ ليكون منصة التنشين، كنموذج للتشدد والغلو.. من خلال إظهار خلافاته مع كبار الأدباء والمفكرين.. مثل توفيق الحكيم.. يوسف إدريس.. زكى نجيب محمود.. فالشيخ الشعراوى رغم بعض هفواته.. إلا أنه فى مجمل مسيرته وتفسيراته.. نموذج للفكر الوسطى المعتدل.. وكان الأولى بالأديب صابر الجنزورى أن يختار أحد دعاة التشدد وما أكثرهم.. وقد أعطت رواية «سنوات خادعة» مساحة كبيرة لدراويش الصوفية.. ومنحتهم بعض المنح المجانية.. مثل معرفة المستقبل.. والغريب أن الجنزورى قدم ما يمكن أن نطلق عليه «الدروشة المسببة».. فالشيخ عبدالإله فقد زوجته وأبناءه فى حادث أليم.. فاتجه إلى الصوفية والدروشة.. وشقيقه محمد سعيد القيادة البنكية الكبيرة.. لم يتزوج حبيبته المسيحية فاتجه إلى الدروشة.. وأستاذ التاريخ كمال والد هاشم.. أنهى رسالته كمدرس للتاريخ فاتجه إلى الدروشة.. وعلى أى حال يحسب للأديب صابر الجنزورى أنه استطاع تقديم التيارات الفكرية الثلاثة الأبرز فى مجتمعنا. والحقيقة أنه لم يتجن على أى منها.
سابعًا: قدم الجنزورى كل هذا التأريخ لجيله.. حتى يصل إلى أحداث يناير ٢٠١١.. عندما خرج عدة آلاف من الشباب رافضين ممارسات وزارة الداخلية.. ومطالبين بإقالة الوزير.. ولكن تبلد النظام الذى استهان بأحداث تونس.. دفعت هذا الاحتجاج الشبابى.. لكى يتحول إلى ثورة عارمة.. اقتلعت النظام بكامله.. وقد انخرط أبطال الرواية كل بطريقته فى أحداث تلك الثورة.. لكن القارئ سيصدم من ذلك التحول الدراماتيكى فى شخصية هاشم.. ذلك الشخص الشهوانى الغارق فى ملذاته.. يتحول فجأة إلى إخوانى.. ويخسر عشرة عمره سمير بسبب ذلك.. هذا التحول غير المبرر.. وكان من الممكن أن يكون مطلوبًا وملحًا.. لو استثمر المؤلف عدم قدرة هاشم على الإنجاب.. واستحالة ذلك طبيًا.. وجعله يذهب إلى مساجد الكويت حيث يعمل.. ليصطاده الإخوان لوجودهم القوى هناك.. ليتم إقناعه بهذا الفكر المنحرف.. وفى هذا السياق يأتى أيضا التحول الدراماتيكى فى شخصية ثريا حبيبة هاشم فى الجامعة.. وكانت هى الأخرى شهوانية.. وتزوجت من طبيب صوفى.. ودخلت عالم البيزنس والسياسة.. ثم تحولت إلى شيخة.. وكان يجب أن تظل الشهوانية وحب الظهور فى تلك الشخصية.. حتى ولو من خلال ارتداء العباءات اللامعة المزركشة التى تتاجر فيها.
ثامنًا: «سنوات خادعة» رواية شديدة التماسك أدبيًا.. لكنها تعانى من بعض- الارتباك السياسى- الذى نتج عن غياب الكثير من المعلومات.. عن القضايا السياسية الشائكة.. التى جاءت ضمن سياق الأحداث.. فمثلًا فى قضية غزو العراق الكويت.. كان المؤلف متحاملًا ورافضًا موقف العراق.. فرغم خطيئة صدام حسين.. ووقوعه داخل الفخ الأمريكى.. إلا أن الكويت لم تكن بريئة على طول الخط.. وعند تناول الجنزورى أحداث عام ١٩٦٢.. عندما أراد عبدالكريم قاسم غزو الكويت.. ذكر أدوارًا لبعض الدول العربية.. والحقيقة أن الدور الأهم كان لمصر ولزعيمها جمال عبدالناصر، وعندما تناول أحداث اتفاقية أوسلو ١٩٩٣.. بين الفلسطينيين والكيان الصهيونى.. جاء بوالد شهيرة زوجة هاشم واسمه مصطفى الحسينى.. الذى ينتمى إلى عائلة مقاومة طوال تاريخها.. ليدافع عن كامب ديفيد.. واتفاقية الصلح المنفرد بين مصر والكيان المحتل.. والحقيقة أن أوسلو هى الابنة الشرعية لكامب ديفيد.. اتفاقات منفردة مع هذا الكيان.. وقد رفضت مصر بعد عدوان يونيو ١٩٦٧ مثل ذلك الاتفاق.. وأصرت على حل كامل لقضية الصراع العربى الصهيونى.. وعندما تناول الجنزورى أحداث يناير ٢٠١١.. والمعطيات التى أدت إليها.. انحاز إلى نظام مبارك- وهذا حقه- ولكن هذا الحق لا ينفى وجود حراك شعبى حقيقى.. ضد كثير من التجاوزات.. وخاصة الزواج الحرام بين السلطة والثروة.. ذلك الحراك الذى عبرت عنه الجمعية الوطنية للتغيير وحركة كفاية.. والغريب أن الرواية تتخذ موقفًا سلبيًا من تلك التنظيمات.. التى رفضت ممارسات الحكم فى ذلك الوقت.. ومن ثم هناك موقف رافض لمجمل أحداث يناير ٢٠١١ تلك الأحداث التى استطاع تيار الإسلام السياسى أن يقطف ثمارها.. ولكن الشعب المصرى خرج فى الثلاثين من يونيو ٢٠١٣.. ليحافظ على هويته.. وليرفض هذا التيار برمته.
تاسعًا: من الواضح أن الأديب صابر الجنزورى.. قد بذل جهدًا أدبيًا وماديًا لإخراج روايته «سنوات خادعة».. الصادرة عن دار سنيورز للنشر والتوزيع فى أحسن صورة.. لذلك فإن وجود بعض الأخطاء اللغوية يسىء إلى هذا الجهد.. ورغم هذا فإن هذه الرواية التى لابد وأن يكون لها جزء ثان وربما ثالث.. تستحق القراءة والتناول النقدى.