الخميس 30 يناير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الذئبات.. تاريخ كفاح النساء فى «وول ستريت»

حرف

- قصص عزيمة وتصميم وموهبة النساء فى مواجهة سيطرة الرجال فى وول ستريت

- كلية هارفارد للأعمال تبدأ قبول النساء عام 1963.. وخريجاتها عملن كباحثات ومحللات

- دراسة مهمة عن النساء المتمردات فى الحى المالى بأمريكا

فى كل مكان فى العالم، تكافح النساء للحصول على حصة من العمل والفرص الممكنة، والمجتمع الأمريكى ليس ببعيد عن ذلك، وقصة نضال المرأة فى صناعة الخدمات والأسواق المالية فى وول ستريت التى يهيمن عليها الرجال، تستحق أن تروى.

فهى مرت بتاريخ طويل بداية من السكرتيرات الذكيات من مناطق بروكلين وكوينز فى نيويورك، اللاتى أدركن أنهن قادرات على كسب كثير من المال، ثم أول خريجات كلية «هارفارد» للأعمال، اللاتى استوعبن عدم تكافؤ الفرص مع الرجال.

وذلك مرورًا بعام 1980، ودخول السوق فى حالة من السرعة، الأمر الذى فرض الاستعانة بالنساء، لمجاراة ثقافة الأسهم المرتفعة فى وول ستريت، وهو ما ترصده المؤرخة والكاتبة الأمريكية الحائزة على جوائز «بولينا برين».

فى كتابها «الذئبات: التاريخ غير المروى للنساء فى وول ستريت» تغوص برين بشكل عميق ومستنير فى قصة التصادم بين النساء وصناعة التمويل فى نيويورك، وكيفية تسلل النساء إلى وول ستريت أو الحى المالى الأمريكى منذ الستينيات حتى أحداث الحادى عشر من سبتمبر.

الكتاب صدر عن دار نشر «دبليو دبليو نورتون أند كومبانى» الأمريكية، فى منتصف شهر سبتمبر الماضى، فى 384 صفحة، وتم اختياره كأحد الكتب التى يجب قراءتها، ومن أفضل الكتب على الإطلاق التى يجب قراءتها فى خريف 2024. وتبدأ فيه المؤرخة رصد القصة من تطور الأدوار النسائية من الجيل الأول، وصولًا إلى الأجيال اللاحقة من خريجات كليات الأعمال اللاتى واصلن تأسيس شركاتهن التجارية الخاصة.

لا للسيدات

ويعتمد الكتاب على إظهار المعركة التى خاضتها النساء فى هذه الصناعة الذكورية البحتة، حيث بدأت فى وقت كانت فيه لافتات «لا للسيدات» معلقة على أبواب نوادى الغداء الخاصة بها، وبشكل أكثر تحفظًا داخل شركات السمسرة والبنوك الاستثمارية.

وكان ذئاب وول ستريت من الرجال يظهرون شراستهم، وهو ما قابلته الذئبات اللاتى دخلن هذه الصناعة بنفس الشراسة لكن بمهارة ودقة، وهو ما دفع «مورييل سيبرت» أول امرأة تشترى مقعدًا فى بورصة نيويورك فى عام ١٩٦٧، أن تهدد بتسليم مراحيض محمولة، إذا لم تقم البورصة بتوفير مرحاض خاص للسيدات بالقرب من غرفة الطعام.

وكانت «سيبرت» واحدة من الرائدات فى وول ستريت، التى ساعدت فى تمهيد الطريق لأجيال من النساء بعدها، حيث تم تعيينها فى قسم الأبحاث فى شركة «باتشى آند كو» عام ١٩٥٤، وهو ما لم يكن مسموحًا للسيدات وقتها.

ثم تطور الأمر إلى الحد الذى جعل النساء يرفعن دعوى قضائية جماعية فى عام ١٩٩٦، أدت إلى كشف الستار عن ثقافة قاعدتها تقوم على النزعة الجنسية والعنصرية ضد المرأة فى مجال الأسواق والخدمات المالية.

الأبواب الخلفية

تبدأ الكاتبة روايتها من الخمسينيات من القرن العشرين، حين وجدت محللة أوراق مالية نفسها تتسلق سلم الطوارئ فى أحد النوادى الخاصة، لحضور عرض تقديمى خاص بها عن الأسهم؛ وكان النادى الذى دعاها يمنع النساء من الدخول. 

وبعد عقد من الزمان، دخلت موظفة فى بنك «كيميكال» فى نيويورك مبنى مكتبها من الباب الخلفى، برفقة اثنين من رجال الشرطة بملابس مدنية لصد جحافل المتفرجين الذين كانوا يسيل لعابهم على شكلها الذى يشبه شكل مارلين مونرو. 

تشير المؤلفة إلى أنه طوال تلك الحقبة ــ وقبلها أيضًا ــ تقدم عدد لا يحصى من النساء لشغل وظائف فى شركات مالية عن طريق إخفاء أسمائهن وإدراج الحرف الأول فقط من اسمهن. وهذه ليست سوى عدد قليل من الأساليب التى استخدمتها النساء لدخول غرف السلطة فى وول ستريت المصممة لمنعهن.

شابات جريئات

وتروى المؤرخة قصص النساء الجريئات فى الستينيات مثل الشابات «أليس جارشو» و«بيث ديتر» اللتين بحثتا عن موطئ قدم كموظفات استقبال وسكرتيرات وموظفات للصعود فى هذه الصناعة، واستقبلهما السماسرة والمصرفيون بفكرة قديمة مفادها أن «البيع والتجارة، حيث يتم توليد الربح، كان للرجال فقط».

ولم تكن جارشو مهتمة بالمضاربات على الصعود والهبوط أو خيارات البيع والشراء ـ ولم تكن لديها أى معرفة بها أيضًا ـ عندما بدأت فى أواخر الستينيات العمل كموظفة استقبال فى شركة «هيرش آند كو»، وهى شركة سمسرة صغيرة فى وول ستريت. 

كانت جارشو، التى تركت دراستها الجامعية فى التاسعة عشرة من عمرها، لا تملك سوى هدف واحد: كسب ما يكفى لتغطية إيجار مسكنها. وعندما تولت مسئولية عمليات المكتب، بدأت العمل مع العملاء، وفى نهاية المطاف طلبت من الشركة مساعدتها فى أن تصبح وسيطة. لكنهم رفضوا دفع ٣٠٠ دولار للامتحان التأهيلى للسمسرة. وكان سببهم بسيطًا: السيدة جارشو امرأة.

وهو ما دفعها لأن تترك الشركة، ثم دفع صاحب عملها التالى فى «أوبنهايمر» بنيويورك تكاليف الامتحان، ومهد الطريق لها للتداول فى بورصة نيويورك.

وحسب برين، فإن مثيلات جارشو اللاتى تمكنّ من اختراق الحواجز الموضوعة لهن تعرضن لمعاملة قاسية على نحو شبه موحد، فعلى سبيل المثال كانت جارشو تجد بانتظام واقيات ذكرية مملوءة بالمايونيز على مكتبها!

ووفقًا للكاتبة، فى أوائل الستينيات، عرضت على «روبرتا لاسلى» وظيفة فى بنك الاستثمار «سميث بارنى»، وعبرت عن حيرتها من أن زميلًا لها من كلية هارفارد للأعمال، بمتوسط درجات أقل، قد تم تعيينه براتب أعلى فى اليوم السابق. وهو ما علق عليه الموظف المسئول عن التوظيف: «أنت لا تفهمين... أنت امرأة».

وتشرح المؤلفة كيف قاومت الشركات المالية فى نيويورك فى الستينيات بشدة توظيف النساء، حين قال أحد المديرين لإحدى المتقدمات للوظيفة: «لماذا أنت هنا؟ لن نوظف امرأة على الإطلاق»!

وفى عام ١٩٧٢، تقدمت «هيلين أوبانون»، خريجة امتياز من جامعة «ويليسلى» وحاصلة على درجة الماجستير فى الاقتصاد من جامعة «ستانفورد» ولديها خبرة عمل فى وزارة الخزانة، بطلب للالتحاق ببرنامج المتدربين على السمسرة فى «ميريل لينش» (شركة خدمات تمويلية عالمية)، لكنها رُفضت فى الامتحان التأهيلى.

وكان الامتحان يتضمن الأسئلة التالية: «عندما تتشاجر مع زوجتك، من منكما يفوز عادة؟» و«عندما تقابل امرأة، ما الذى يثير اهتمامك أكثر فيها؟».

اختراق الحواجز

رغم الصعوبة الشديدة التى واجهتها النساء والتحديات المختلفة لاختراق الحواجز كون وول ستريت أسس كنادٍ للرجال النخبة، إلا أن عملية صعود المرأة لسلم هذه الصناعة، اتخذت عدة خطوات متتالية.

وفقًا للمؤرخة، كانت البداية بأن هناك نساء عملن كوسطاء منذ أوائل ستينيات القرن التاسع عشر. وقد وصفن أنفسهن بأنهن من العرافات، وهو ما كان حلًا ذكيًا للالتفاف على هذا الوضع.

ومن ضمن القصص المثيرة للاهتمام فى القرن التاسع عشر، قصة «تينيسى كلافلين» و«فيكتوريا وودهول» واللتين بدأتا أعمال السمسرة فى شارع برود بنيويورك. 

وتؤكد برين أن تأثيرهما على التاريخ المالى سيظل فى الأذهان لأن إنجازهما كان رائدًا فى تلك الحقبة.

وفى عشرينيات القرن العشرين، افتتحت بعض شركات الوساطة «أقسامًا نسائية»، لتلبية الزيادة الكبيرة فى الاستثمار النسائى، على الرغم من أن هذه الأقسام انحلت مع انهيار سوق الأوراق المالية فى عام ١٩٢٩.

وترصد الكاتبة أنه فى عام ١٩٤٧، أطلقت «ويلما بورتر سوس» على نفسها لقب «المناصرة الاقتصادية لحقوق المرأة فى التصويت»، وأنشأت اتحاد المساهمين من النساء فى الأعمال التجارية الأمريكية. وفى هذا الوقت شجعت الاستثمارات النسائية بشكل أكبر مع إنشاء جمعية النساء الماليات فى منتصف الخمسينيات.

وبحلول عام ١٩٨١، بدأت المدارس النخبوية المخصصة للذكور فقط تقبل النساء، وكانت الأندية المخصصة للذكور فقط تسمح للنساء بالدخول من الباب الأمامى، وكانت وول ستريت، معقل السلطة الذكورية، تشهد المزيد من النساء فى أدوار غير السكرتارية والأعمال الادارية، وبعضهن حاصلات على ماجستير إدارة الأعمال من كلية هارفارد للأعمال.

وذلك بعد أن فتحت كلية هارفارد للأعمال فصولها الدراسية للنساء فى خريف عام ١٩٦٣، ومن ثم عملت خريجاتها بعد ذلك كباحثات ومحللات، لكنهن تعلمن بسرعة أن الحصول على درجة علمية متساوية مع الرجال، لا يعنى تكافؤ الفرص.

وتشير المؤلفة إلى أن عددًا قليلًا من النساء سمح لهن بالعمل فى وظائف بحثية كانت تتم خلف الكواليس، لكنهن كن محرومات من وظائف المبيعات والتجارة المربحة، التى كانت مخصصة للرجال.

وفى المقابل، إذا كانت هناك امرأة محظوظة بالنجاح، فهى واجهت معاملة قاسية وتحرشًا جنسيًا صارخًا، أما بالنسبة للنساء الأمريكيات من أصل إفريقى فكان الحصول على وظائف كمحللات، بل وحتى كوسطاء، أمرًا صعبًا للغاية.

وواجهت النساء الرائدات الأوائل الاستهزاء اليومى والتحرش الجنسى، إلى الضغوط المفروضة عليهن ليكنّ مثل الرجال ويخترن بين الأمومة والعمل.

شوط طويل

وتلفت المؤرخة إلى أنه طوال فترة السبعينيات والثمانينيات، اكتسبت النساء المزيد من الحرية للانضمام إلى عالم التمويل الأمريكى، لكن فى الوقت نفسه زادت حالات التمييز والتحرش.

ومع حلول السبعينيات، بدأت قوى الحركة النسائية فى إحراز تقدم وتم توظيف النساء فى الشركات المالية كمحكمات، وتمت استضافتهن فى برامج تليفزيونية مثل «وول ستريت ويك». وكان صوت المرأة مسموعًا على جبهات متعددة، وكانت تقدم التوجيه المالى للمستثمرين غير المبتدئين والمتمرسين.

ولكن النساء اخترعن استراتيجيات ماكرة للتقدم. على سبيل المثال، نجحت «باربرا موكلر»، التى انضمت إلى بنك «ليمان براذرز» فى أوائل الثمانينيات، فى إقناع زملائها المتعصبين بأن لديها صديقًا فى «جولدمان ساكس» (مؤسسة خدمات مالية واستثمارية عالمية) حتى يعاملها زملاؤها باحترام، على أمل التعامل معه.

ورغم قصص التمييز الجنسى التى رصدتها برين، إلا أنها فى المقابل كانت تؤكد براعة وصمود النساء، على سبيل المثال عندما عجزت «دورين موجافيرو» عن العثور على وظيفة تدفع لها راتبًا عادلًا فى أواخر الثمانينيات، أسست شركة وساطة، أصبحت «أول شركة تديرها امرأة عضو فى بورصة نيويورك».

وتقول الكاتبة إنه رغم وجود قوانين تعزز المساواة، إلا أن الأمور كانت أكثر قسوة على أرض الواقع، فقد واجهت النساء مشاكل فى تأمين وظائف تجارية عالية الأجر وفى الوصول إلى مناصب عليا. 

وفى هذا العصر، كانوا يستبعدون النساء من الأنشطة الاجتماعية مثل لقاءات الشرب وزيارات النوادى الخاص ة، وكان على النساء أن يعملن بجدية أكبر للحصول على نصف التقدير.

وفى فترة التسعينيات، قبل أحداث ١١ سبتمبر، ازدهرت الصناعة فى وول ستريت وتوحشت مع انتعاش صناديق التحوط وزادت سلطة الرجال، وهو ما قاومته النساء من خلال توحيد قواهن للرد، خاصة بعد أن رفعت ٢٣ امرأة من بنك الاستثمار «سميث بارنى» دعوى قضائية جماعية. وتبعتهن أخريات.

وترى المؤلفة أنه رغم الشوط الطويل الذى قطعته النساء فى وول ستريت منذ ١١ سبتمبر، وأصبحن لاعبات جادات اليوم، إلا أنهن ما زلن غالبًا «مهملات» و«مفقودات فى القرارات التى لها آثار طويلة الأجل علينا جميعًا». وأنه لا تزال الأمور ملكًا للرجال، ولا يزال أمام النساء الكثير للقيام به.

حيث لا تزيد نسبة النساء اللواتى يجلسن فى لجان الاستثمار التى تتخذ قرارات الاستثمار فى الأسهم الخاصة عن واحدة من كل عشرة. وتقول المؤرخة فى أسف: «لقد بنيت وول ستريت من أجل الرجال، وهى فى الأساس لا تزال ناديًا للرجال».