طريقــــة «إنفيديا».. رحلة تصميم عملاق الذكاء الاصطناعى
- اسم الشركة مزيج من الكلمة اللاتينية التى تعنى «الحسد» واسم أول رقاقة صنعوها
- رئيس إنفيديا للمؤلف عن تحقيق النجاح: أتمنى لك جرعات وفيرة من الألم والمعاناة
- «لا أحد يخسر بمفرده» مقولة شهيرة بإنفيديا وتطبيقها يتم عن طريق ثقافة البريد الإلكترونى
- «المهمة هى الرئيس والعمل بسرعة الضوء».. أسرار تفوق إنفيديا على شركات التكنولوجيا الكبيرة
شركة بدون مصنع وبدون معدات تصنيع، وظيفتها الأساسية هى تصميم الرقائق والشرائح المستخدمة فى الأجهزة التى تعمل على تشغيل الذكاء الاصطناعى، حتى أصبحت تهيمن عليها تمامًا، محققة نموًا فلكيًا مؤخرًا مع الدور الحاسم فى الصناعة المتنامية فى العالم، والذى وضعها فى مكانة استثنائية.
فثورة الذكاء الاصطناعى بدونها تكون أمرًا مستحيلًا، فشرائحها هى اللبنات الأساسية لبنية الذكاء الاصطناعى التى تطورها شركات التكنولوجيا العملاقة الراسخة، والشركات الجديدة التى تتمتع بتمويل جيد.
لكن ليس لهذا السبب وحده أصبحت «إنفيديا» الأمريكية، الشركة الأكثر قيمة فى العالم، بحوالى 3.6 تريليون دولار، فهناك العديد من العوامل وراء نجاحها، على رأسها هو ثقافة الشركة والأشخاص الذين يقفون وراءها، خاصة الرئيس التنفيذى «جينسن هوانج».
فى كتابه «طريقة إنفيديا: جينسن هوانج وصناعة عملاق التكنولوجيا»، والذى صدر فى ١٠ ديسمبر الماضى، يؤكد الكاتب والصحفى التقنى الأمريكى «تاى كيم»، أن السمة المميزة للشركة لم تكن التكنولوجيا أو الابتكار، بل كانت ثقافة العمل الفريدة التى بناها «جينسن هوانج» وشركاؤه المؤسسون.
أو بمعنى أصح طريقة وأسلوب العمل داخل الشركة، وهو الأمر الذى تكون دائمًا نتيجته أن يجد الأشخاص غالبًا وقتًا عصيبًا فى العمل فى مكان آخر، بعد العمل فى إنفيديا.
فالشركة التى تضم أكثر من ٣٢ ألف موظف، يتم الاعتراف بها باستمرار كواحدة من أفضل الأماكن للعمل، وواحدة من أفضل ١٠٠ شركة للعمل بها، ومن أكثر ١٠٠ شركة مؤثرة، وأكثر شركة مبتكرة لعام ٢٠٢٤.
الكتاب الذى يأتى فى ٢٧٢ صفحة، صادر عن دار نشر «دبليو دبليو نورتون أند كومبانى» الأمريكية، ويرصد تاريخ الأعمال المفصل للشركة من تأسيسها عام ١٩٩٣ إلى نجاحها المذهل مؤخرًا، ويعتبر هو الثانى فى الكتب الأكثر مبيعًا فى صناعة الحاسبات والتكنولوجيا، وأيضًا كتب الشركات.
الألعاب الطويلة
بدأ مشروع الكتاب مع «كيم» منذ التسعينيات، فهو مهووس بألعاب الكمبيوتر، وكان يقوم ببناء أجهزة الكمبيوتر الخاصة به للألعاب، وإضافة أفضل بطاقات الرسومات «الجرافيكس» ثلاثية الأبعاد.
وفى أحد الأيام فى مايو ٢٠٢٣، تلقى بريدًا إلكترونيًا من ناشر يسأله عما إذا كان بإمكانه الكتابة عن تاريخ إنفيديا، وقد صدم، لأنه لم يقم أحد بتأليف كتاب كامل عن الشركة، لذلك اغتنم الفرصة.
ويروى الكاتب أنه قام بالبحث على «أمازون»، للتأكد من أنه لا يوجد كتاب عن الشركة، فهى أكبر شركة لتصميم الرقائق من حيث القيمة السوقية فى التاريخ، لكن لم يكن هناك كتاب، وهو ما لم يصدقه، خاصة أنه كان يشترى بطاقات الرسوميات الخاصة بهم لمدة ٣٠ عامًا.
فالشركة ليست من عصرنا، وهى شركة ناشئة تأسست قبل أكثر من ثلاثة عقود فى أحد مطاعم «دينيز» فى شرق «سان خوسيه» بولاية كاليفورنيا الأمريكية، وكانت معروفة لسنوات فى المقام الأول فى عالم ألعاب الكمبيوتر المتخصص آنذاك.
وبالفعل بدأ المشروع الذى أجرى فيه أكثر من ١٠٠ مقابلة مع مؤسسى شركة إنفيديا الثلاثة، وهم: «هوانج»، الذى كانت خلفيته فى الهندسة الكهربائية؛ وكيرتس بريم، المتخصص فى هندسة الشرائح؛ وكريس مالاخوفسكى، خبير التصنيع.
بالإضافة إلى فريق الإدارة العليا بأكمله فى السنوات الأولى للشركة، والرؤساء التنفيذيين، والمنافسين، والشركاء، والموردين، والمستثمرين الأصليين فى رأس المال الاستثمارى، والموظفين السابقين، بجانب كبار المديرين التنفيذيين الحاليين.
ويظهر المؤلف فى كتابه، كيف لعبت إنفيديا أطول الألعاب الطويلة، فنجحت مرارًا وتكرارًا فى خلق أسواق جديدة والتفوق على المنافسين، بما فى ذلك عملاق أشباه الموصلات الأصلى، «إنتل»، التى تجد نفسها الآن متأخرة كثيرًا عن الشركة الناشئة.
ويقدم «كيم» كشفًا فى كل خطوة، من بينها: كيف تمكنت إنفيديا من التغلب على الأخطاء المبكرة التى كانت تقضى على معظم الشركات الناشئة، وفوائد الهيكل التنظيمى المسطح للشركة، والذى يسمح لأصغر الموظفين بالمساهمة فى اتجاه الشركة.
رحلة التحول
رغم أن إنفيديا هى الشركة المفضلة فى عصر الذكاء الاصطناعى، والطلب على رقائقها لا يشبع، حيث تعمل على دعم ثورة الذكاء الاصطناعى التوليدى، إلا أنها لم تكن كذلك فى بدايتها، بل مرت برحلة من التحولات، من التعثر إلى الشركة الأكثر قيمة فى العالم، خلال الثلاثين عامًا الماضية.
وذلك كله يرجع إلى شخصية وقيادة هوانج، وهو الرئيس التنفيذى الأطول خدمة فى صناعة التكنولوجيا التى تتسم بالاضطرابات والفشل المستمرين، فهو رائد أعمال أمريكى من أصل تايوانى، يبلغ من العمر ٦١ عامًا، وتصل ثروته إلى ١١٨ مليار دولار.
وهذه الرحلة يمكنك أن ترى أثرها بوضوح خلال السنوات الأربع الماضية، ففى يناير ٢٠٢٠، فى الأشهر الأولى من جائحة كورونا، كان سعر السهم الواحد من أسهم إنفيديا، يزيد قليلًا على ٦ دولارات، أما فى هذه الأيام يصل إلى ما يقرب من ١٤٠ دولارًا.
حسب الكاتب، مرت الشركة بتجارب عديدة كادت أن تودى بحياتها، وكان ذكاء هوانج مفتاحًا لبقائها، ففى عام ١٩٩٨، كانت الشركة على بُعد أسابيع من نفاد أموالها.
لكن بحلول هذه النقطة كان هوانج قد توصل إلى طريقة معينة لبناء وإدارة شركته، وكان المبدأ الأساسى هو العمل الشاق الشديد، وقيل للموظفين الجدد إن ثقافة الشركة «عدوانية للغاية»، وطالبهم هوانج بالعمل بسرعة الضوء، مقيدين بقوانين الفيزياء فقط وليس بالسياسة الداخلية أو المخاوف المالية.
وذلك بعد أن سارت الأمور فى رقائق الشركة المبكرة على ما لا يرام، وفشلت لدرجة أنهم كادوا أن يعلنوا إفلاسهم، فقاموا بتسريح أكثر من نصف موظفيهم وتعلموا التركيز على الأشياء التى سيدفع العملاء ثمنها- والتخلى عن الحيل التقنية التى تكلف الشركة أموالًا، لن تتمكن أبدًا من تعويضها.
وكان الإنجاز الذى حققوه هو رقائق ثلاثية الأبعاد لأجهزة الكمبيوتر الشخصية، والتى أحبها عشاق الألعاب، لدرجة أن هوانج يقول لمؤلف الكتاب: «لقد نجونا بأنفسنا. كنا أسوأ عدو لأنفسنا».
ولذا يعتبر «كيم» أن هوانج هو السبب وراء بقاء إنفيديا فى هذه الصناعة الوحشية، وليس فقط بقائها، بل أن تكون هى الناجى الوحيد، بعد أن أفلست كل الشركات الأخرى تقريبًا أو تم الاستحواذ عليها، من بين ٨٠ و١٠٠ شركة تصنع شرائح الرسوميات.
تجربة صعبة
وفقًا للكاتب، فهذا القائد الأسطورى مر بتجربة صعبة، أعدته لدور الرئيس التنفيذى لشركة تكنولوجيا عملاقة ومهمة، فالبداية كانت حين أرسله والداه إلى الولايات المتحدة من تايوان عندما كان لا يزال صغيرًا، ثم التحق بمدرسة داخلية فى ولاية كنتاكى الأمريكية، حيث اعتقد والداه أنه سيحصل على تعليم أمريكى جيد.
ولم يكن والداه يعلمان أنها مدرسة إصلاحية، حتى أن زميله فى السكن كان أكبر منه بثمانى سنوات، وكان مغطى بالوشوم والجروح الناجمة عن الطعنات، وعندما وصل والداه إلى الولايات المتحدة، وضعاه فى مدرسة عامة عادية فى ولاية أوريجون.
وفى شبابه، كان هوانج لاعب تنس طاولة محترفًا، وكان يكسب المال من خلال تنظيف الطاولات والحمامات فى أحد المطاعم المحلية بأمريكا، وهى التجربة الصعبة التى أعدته للحياة.
وهو ما يقول عنه هوانج للمؤلف: «إن العمل ببساطة هى المثابرة فى مواجهة التحديات الصعبة، وأن الشخصية هى مصدر العظمة»، وعندما سُئل عن كيفية تحقيق النجاح، أجاب: «أتمنى لك جرعات وفيرة من الألم والمعاناة».
وبالفعل بعد التنقل بين الرتب الدنيا فى وادى السيليكون «منطقة بولاية كاليفورنيا الأمريكية توجد بها مجموعات كبيرة جدًا من كبرى شركات التقنية» لسنوات، كانت اجتماعات هوانج ومؤسسوه المشاركون لوضع خطة لتصميم رقائق عالية الأداء، لتعظيم إمكانات الرسومات فى أحدث برامج «ويندوز» من «مايكروسوفت».
واختاروا اسم «إنفيديا» وهو مزيج من الكلمة اللاتينية التى تعنى «الحسد»، واسم أول رقاقة يصنعونها، الإصدار التالى ١، أو NV١.
الشغف والرؤية
حسب «كيم» فإن طريقة إنفيديا تنقسم إلى ثلاثة من أهم العناصر، هى أخلاقيات العمل المذهلة، وتنمية المواهب، والتركيز على السرعة والوتيرة، لكن هذا كله يسير بقيادة مهمة من جانب الرؤية والشغف التى يتمتع بها هوانج.
فالشركة تحت قيادته لا تبتكر فقط بل تهيمن أيضًا على الأسواق التى تخلقها، وهو الأمر الذى فعلته مع الذكاء الاصطناعى، قبل حتى أن تأتى موجته الحالية، وذلك قبل أى شركة أخرى، وراهنت بمستقبلها على تقنية لم تصل بعد.
كان ذلك كله بفضل تطلع رئيسها التنفيذى دائمًا إلى المستقبل بخمسة أو ١٠ أو ١٥ عامًا، فهو لديه إحساس بديهى بالمكان الذى ستذهب إليه السوق، ويستعد له بوضع أفضل تكنولوجيا ونظام بيئى وأصول، لاغتنام الفرصة عندما تنشأ.
وعندما حدثت الثورة الحالية للذكاء الاصطناعى، كانت إنفيديا فى وضع مثالى للاستفادة منها، ففى كل مرة كانت توجد ورقة بحثية كبيرة عن الذكاء الاصطناعى، يقرأها هوانج ويشاركها مع كبار مهندسيه، ويمرر المقالات معهم ذهابًا وإيابًا، ويناقشون أحدث الاتجاهات، ثم يقومون ببناء الأجهزة والبرامج، حتى إنهم كانوا منذ عام ٢٠١٩ يتحدثون عن الأشياء التى انتشرت فى العامين الماضيين.
كانوا دائمًا ينظرون إلى هذا المجال ويقولون: «ستكون هذه منطقة كبيرة. سنستثمر لسنوات فى صنع أفضل الأجهزة والبرامج والشبكات المحسنة لهذا المجال». لقد كانوا هناك تمامًا. كان لديهم جميع مكتبات البرامج، والآن يدعمون موجة الذكاء الاصطناعى التى انطلقت مثل الصاروخ.
ولذا عندما تم إطلاق «تشات جى بى تى» منذ نهاية عام ٢٠٢٢، كان نمو إنفيديا مذهلًا. ربعًا «كل ٣ أشهر» بعد ربع، حطمت تقديرات المحللين، وفى هذا العام تجاوزت لفترة وجيزة «مايكروسوفت» و«آبل» لتصبح الشركة الأكثر قيمة فى العالم.
لكن ذلك ليس كل شىء، فنجاح الشركة المذهل يقف خلفه أيضًا، حسب الكاتب، أن هوانج خائف جدًا من أن يصبح واثقًا من نفسه وراضيًا عنها، لدرجة أنه لا يحب السنوات الأولى للشركة ويشعر بالحرج من الأخطاء وسوء الإدارة، ويقول لنفسه أحيانًا: «أنت فاشل. أنت فظيع. أنت لست جيدًا بما فيه الكفاية».
هذه التنافسية الشديدة تؤكدها مقولة لهوانج هى: «المركز الثانى هو الخاسر الأول»، فهو لا يريد أن يكون فى المركز الثانى أبدًا، ويريد العمل بجد والفوز دائمًا.
وهنا قصة يرويها الكاتب من مدير تسويق فى إنفيديا، ففى مجلات ألعاب الكمبيوتر، يقومون بتصنيف بطاقات الرسوميات بناء على معايير- تسمية الأول، والثانى، وما إلى ذلك.
وقامت إحدى المجلات بتصنيف إنفيديا فى المرتبة الثانية، وعندما عرض المدير الأمر على هوانج، لم يعجبه، وقال: «لا، يجب أن نفوز. يجب أن نكون فى المرتبة الأولى. المركز الثانى هو الخاسر الأول».
أما النقطة الأخيرة التى تخص شخصية هوانج، فهى أنه يلعب دور طبيبه النفسى الشخصى، فدائمًا ما يجد التوازن عندما تكون الأمور صعبة ويشعر بالقلق بشأن التعامل مع شىء ما، ويستخدم هذه الحيل العقلية مع الآخرين أيضًا، بتجنب الثقة المفرطة واليأس.
العمل بجنون
يأتى على رأس العناصر التى تشكل «طريقة «إنفيديا»» أخلاقيات العمل المجنونة أى يعمل الناس فيها بجنون، ويتمكن «هوانج» من معرفة كيفية حشد موظفيه لتقديم أداء أفضل، وهو ما فعله طوال تاريخ الشركة.
ويروى «المؤلف» أنه عندما تم تعيين «جيف ريبار» فى ديسمبر ١٩٩٧ للعمل كمدير مالى فى «إنفيديا»، وجد أن «هوانج» يتمتع بصفتين مثيرتين للإعجاب: كان مقنعًا للغاية ومجتهدًا للغاية.
قال «هوانج» ذات مرة لموظفيه التنفيذيين: «قد يكون هناك أشخاص أذكى منى، لكن لن يعمل أحد أكثر منى أبدًا». كان غالبًا فى المكتب من الساعة التاسعة صباحًا حتى منتصف الليل، وكان مهندسوه يشعرون عادة بأنه يجب الالتزام بالحفاظ على ساعات عمل مماثلة.
يقول «ريبار»: «لقد اعتدت أن أخبر الناس فى (إنتل) أو أى مكان آخر بأنهم إذا أرادوا معرفة أداء إنفيديا، فعليهم زيارة موقف السيارات الخاص بالشركة فى عطلات نهاية الأسبوع. كان الموقف مزدحمًا دائمًا».
وحتى بالنسبة لقسم التسويق، كان العمل من ٦٠ إلى ٨٠ ساعة فى الأسبوع، بما فى ذلك كل يوم سبت. ويتذكر «أندرو لوجان»، مدير التسويق المؤسسى فى «إنفيديا»، أنه غادر المكتب ليصطحب زوجته إلى عرض فيلم «تايتانيك» فى الساعة التاسعة والنصف مساء. وفى طريقه للخروج، صاح به زميله فى العمل: «أوه، نصف يوم، أندى؟».
ويتذكر «هنرى ليفين»، أحد العاملين، أنه عندما كان يعمل لساعات متأخرة من الليل، لم يكن وحيدًا هناك أبدًا. حتى عندما كان يبقى حتى الساعة العاشرة مساء أو بعد ذلك، كان مهندسو الرسوميات فى «إنفيديا»، لا يزالون يجلسون أمام السبورة البيضاء، ويناقشون بشغف تحسين الرقائق وتقنيات العرض.
وقد طبع فى ذاكرة، مدير المواد المعاصر له «إيان سييو»، صورة الزملاء الذين يقضون الليل فى المكتب، حتى فى عطلات نهاية الأسبوع. وكان الموظفون يحضرون أطفالهم أيضًا إلى المكتب، حتى يتمكنوا من قضاء الوقت مع عائلاتهم، دون مغادرة مكان عملهم.
ويحكى «كيم» أنه نادرًا ما كان «ريبار» يعمل حتى منتصف الليل، لكنه كان يصل غالبًا فى الصباح الباكر. وسرعان ما تعلم أن أحد العيوب الكبيرة للجلوس بالقرب من الرئيس التنفيذى فى المكتب هو أنه كان غالبًا أول شخص يراه «هوانج» فى الصباح.
وكان «هوانج» معروفًا بأنه يفرغ طاقته على أول شخص يقابله، أيًا كان. ويقول «ريبار»: «كان هوانج غالبًا ما يثور فى أفكاره حول شىء ما يتعلق بالمنتجات أو التسويق بين ليلة وضحاها. لم تكن المشكلة مالية أبدًا تقريبًا، والأمر لم يكن مهمًا. لكن إذا رأيته أولًا، كنت أول من يوجه إليه انتقادات لاذعة».
مع مرور اليوم، لم يكن أى مكان فى مقر «إنفيديا» آمنًا من الاستجواب المتواصل من «هوانج». كان «كينيث هيرلى»، مهندس التسويق الفنى، فى المرحاض عندما اقترب «هوانج» من المرحاض المجاور له.
لإنقاذ ماء وجهه، بدأ «هيرلى» فى سرد عشرين شيئًا كان يعمل عليها، من إقناع المطورين بشراء أحدث بطاقة رسوميات من «إنفيديا» إلى تعليم هؤلاء المطورين كيفية برمجة ميزات جديدة عليها.
وكان الخوف والقلق أداتى التحفيز المفضلة لدى «هوانج»، ففى كل اجتماع شهرى للشركة، كان يقول، «نحن على بُعد ثلاثين يومًا من الخروج من العمل».
لم يكن «هوانج» يريد السماح لأى رضا عن الذات بالتسلل، حتى فى الفترات الناجحة. وكان يريد مواجهة الموظفين الجدد بنوع الضغوط التى سيواجهونها فى المستقبل واختيار الخروج عاجلًا وليس آجلًا.
يقول الكاتب إن هذا الهوس بلغ ذروته فى أواخر عام ١٩٩٧، حيث كانت «إنتل» دائمًا شريكًا مهمًا لشركة «إنفيديا» وتهديدًا تنافسيًا محتملًا، وكان لزامًا على جميع شرائح الرسوميات التى تنتجها «إنفيديا» أن تكون متوافقة مع معالجات «إنتل»، لأن إنتل كانت الشركة الرئيسية المصنعة لوحدات المعالجة المركزية لسوق أجهزة الكمبيوتر الشخصية.
ولكن فى ذلك الخريف، بدأت «إنتل» فى إخبار شركاء الصناعة بأنها ستطرح شريحة رسوميات خاصة بها، وهو ما هدد بسحب الأعمال من «إنفيديا» وكان بمثابة تحدٍ مباشر للشركة ووجودها ذاته، والشركات الأخرى فى هذا المجال.
وبعد هذا الإعلان بدأ خط أنابيب مبيعات «إنفيديا» ينضب، كما قال أحد المسئولين التنفيذيين فى «إنفيديا» للمؤلف، وفى هذه الأثناء وخلال اجتماع للشركة قال «هوانج»:
«لا تخطئوا. إن شركة إنتل تريد أن تطردنا من العمل، مهمتنا هى أن نقتلهم قبل أن يطردونا من العمل. نحن بحاجة إلى أن نقتل إنتل».
وهنا عملت «كارولين لاندرى» وبقية فريق الشركة بجدية أكبر لمحاربة المنافس الجديد، وهى الشركة التى كانت فى ذلك الوقت أكبر بنحو ٨٦٠ مرة من «إنفيديا» من حيث الإيرادات، حيث كانت تعمل غالبًا بعد منتصف الليل، وتعود إلى المنزل لتنام لبضع ساعات، قبل أن تستيقظ مرة أخرى للقيام بذلك مرة أخرى.
قالت لنفسها: «أنا متعبة للغاية. أحتاج إلى النهوض. إنه أمر صعب. لكننا بحاجة إلى قتل إنتل. يجب أن نقتل إنتل».
المواهب الخام
أما العنصر الثانى فهو كما يوضح «كيم»، توظيف وتنمية المواهب الخام، فالشركة لها نهج فريد تجاه المواهب، لعقود من الزمان، تعطى الأولوية دائمًا لتوظيف أفضل الأشخاص، بغض النظر عن مكان إقامتهم، وكم تكلفهم، وكيف يحبون العمل.
وكما لخص الكاتب الأمر، «ستخبرك كل شركة بأن الأمر نفسه ينطبق عليها. لكن «إنفيديا» تفعل بعض الأشياء بشكل مختلف فى خدمة هذا الشعار»، وهو ما يعود إلى أن «هوانج» لا يلين، خاصة فى التوظيف.
فعندما يقول الناس له لا مرارًا وتكرارًا، يواصل ملاحقتهم حتى يوافقوا، فهو يتعلم باستمرار، يجمع المعرفة باستمرار ويستخدمها لاحقًا، على سبيل المثال عندما تمت تصفية إحدى شركات أشباه الموصلات، أخبرت «إنفيديا» أفضل موظفيها المغادرين بأنهم مرحب بهم للبقاء حيث هم.
ولجعل الأمر أسهل، أصدر «هوانج» تعليمات لفريقه بإنشاء مكتب تابع جديد فى «ألاباما»، خصيصًا للموظفين الجدد.
وبالنسبة لتحفيز الموظفين فى «إنفيديا»، فالشركة تبحث باستمرار عن سبل لإضافة المزيد من الحوافز للأداء، وتسعى الشركة إلى اغتنام الفرص للقيام بذلك، فهى لا تنتظر مراجعات الأداء لمكافأة الأداء الجيد، ويمنح الرئيس التنفيذى الموظفين بشكل روتينى أسهمًا جديدة على الفور، عندما يقدمون أداءً ملحوظًا.
وتحفز مثل هذه المنح الناس على البحث عن فرص للتفوق وعلى البقاء فى الشركة لسنوات عديدة أخرى، لكن على الجانب الآخر، لا تنتظر «إنفيديا» طويلًا قبل الاستغناء عن أى شخص لا يناسب الشركة.
وتشجع هذه السياسة الموظفين على التوصية بأشخاص جدد للشركة، ولذلك حوالى أكثر من ثلث الموظفين الجدد فى «إنفيديا» يتم ترشيحهم من قبل الموظفين الحاليين، فهذا النظام لتحفيز الأداء يتجنب المنافسة الشرسة بين الموظفين، حتى فى قسم المبيعات، فالشركة تشجع الناس على طلب المساعدة باستمرار، وطرح المشكلات فى أقرب وقت ممكن.
ويشير المؤلف إلى أن من النقاط الأخرى فى إدارة الموظفين فى الشركة هى التركيز القوى على زيادة تدفق المعلومات، ومعرفة الأخبار سواء كانت جيدة أو سيئة، فأسوأ شىء هو إخفاء الأمور.
لدرجة أن هناك مقولة فى «إنفيديا» تقول: «لا أحد يخسر بمفرده»، فإذا كنت متخلفًا، فأنت بحاجة إلى إخبار فريقك، وسيساعدونك، وهذه الفكرة يتم تطبيقها من خلال أسلوب يعرف بثقافة البريد الإلكترونى الذى يتضمن «أهم ٥ أشياء» يراها أكثر أهمية، يرسله كل موظف فى الشركة.
ويشمل هذا ما يعمل عليه الموظف حاليًا، فضلًا عن ملاحظاته حول ما يفعله المنافسون، والاختراعات والتقنيات الجديدة التى صادفها، أو المخاوف التى تراوده بشأن الشركة أو ورقة بحثية رائعة حول الذكاء الاصطناعى.
ويعرف الجميع ما يعمل عليه فريقهم، ويرسل الموظفون هذه الرسائل الإلكترونية إلى مديريهم المباشرين، ولكنهم يرسلون أيضًا نسخة منها إلى الرئيس التنفيذى للشركة.
ويقرأ «هوانج» هذه الرسائل ويرد عليها، ويساعده هذا فى اكتشاف ما يسميه «الإشارات الضعيفة» بشأن التطورات الداخلية والخارجية، قبل وقت طويل من أن تصبح مهمة، وأيضًا التعرف على آلاف الموظفين على جميع المستويات.
حتى إنه يناديهم بأسمائهم ويذكر مشاريعهم الحالية أو الأفكار التى طرحوها فى رسائل البريد الإلكترونى، وبهذه الطريقة، يشعر كل موظف بأنه مرئى، وهو ما يمنحه نبض ما يحدث فى جميع أنحاء الشركة، وما يعمل عليه الناس، وما إذا كانت الرؤية التى وضعها يتم تنفيذها.
لكن هذا التواصل لا يكون من جانب واحد، فعندما يقرأ «هوانج» بريدًا إلكترونيًا يثير اهتمامه، يرسل ردًا سريعًا وهو ما يمكنه من إدارة الأشخاص بشكل مباشر، وهو أمر فريد من نوعه فى الشركات الأمريكية، حيث إن معظم الرؤساء التنفيذيين لديهم مجموعة صغيرة من خمسة أو ستة مسئولين تنفيذيين، يقدمون تقاريرهم إليهم مباشرة.
ويرى «كيم» أن هذا النظام كان وسيلة لـ«هوانج» لاختراق البيروقراطية التى تحدث عادة فى الشركات الكبيرة، ففى معظم الشركات، مع نموها، يقوم المديرون بإنشاء تقارير الحالة، ويتم تنظيف هذه التقارير بواسطة طبقات الإدارة، لإزالة أى شىء سلبى. وبحلول الوقت الذى يراه فيه الرئيس التنفيذى، غالبا ما يكون التقرير عديم الفائدة ولا يساعد فى توجيه الشركة.
ويوضح الكاتب أن هناك جزءًا آخر من ثقافة العمل فى «إنفيديا» هو الهيكل التنظيمى المسطح، وهو ما معناه أن جميع مستويات الشركة تتواجد فى الغرفة فى نفس الوقت، فلا يتحدث الرئيس التنفيذى إلى المدير، قبل التعامل مع الموظف.
ويحب «هوانج» التحدث إلى الموظفين المبتدئين والصغار، لأنهم غالبًا ما يكونون هم من يقومون بالعمل الفعلى على أرض الواقع، بل ويلاحقهم بالأسئلة باستمرار، بالتالى فالمديرون فى «إنفيديا» لا يرون مشكلة، إذا تحدث أى موظف مع الرئيس التنفيذى.
هذا المستوى من الشفافية يتجنب العقليات المنعزلة، ويجعل من الصعب أيضًا على المديرين الظهور والصعود داخل الشركة، لكنه يمكن الأشخاص الموهوبين بشكل لا يصدق من التخصص وإنتاج أفضل أعمالهم.
ولذلك يظل العديد من الموظفين الكبار يعملون بجنون فى «إنفيديا» لمدة ١٥ أو ٢٠ أو ٢٥ عاما، رغم كونهم أثرياء منذ فترة طويلة، فهؤلاء هم الأشخاص الذين هذه هى حياتهم، فهم يحبون تصميم وهندسة المنتجات الرائعة التى تغير العالم بعدة طرق، وخاصة الآن مع الذكاء الاصطناعى.
ويرغب دائمًا «هوانج» فى الاحتفاظ بأشخاص متحمسين للمهمة، ولا يوجد شخص يتقاعس على الإطلاق، وإذا تقاعست، فسوف يلاحقك الرئيس التنفيذى.
ويلفت المؤلف إلى أن «هوانج» يبدأ اجتماعًا للمراجعة بعد كل ربع سنوى، ويقول للموظفين: «أنتم فاشلون»، بل ويستمتع بتوبيخهم علنًا، قائلًا: «إن الإذلال ثمن زهيد مقابل التعلم الجماعى».
فهو يعتقد أنه قادر على «تعذيب» موظفيه «حتى يصبحوا عظماء». وعندما يبدأ الموظفون فى الثرثرة فى حضوره، فإنه يحذر المتحدث قائلًا: «استمع إلى السؤال. افهم السؤال. أجب على السؤال».
وتتلخص وجهة نظر «هوانج» فى أنه يعمل على تحسين مستقبل الشركة، من أجل اتخاذ قرارات أسرع، ومن النقاط الأخرى أنه يحب السبورة البيضاء ويكره برنامج «باور بوينت» والعروض التقديمية التى تتم فى معظم الشركات.
ففى «إنفيديا» يريدون منك أن تأخذ قلمًا وتذهب إلى السبورة البيضاء وتشرح كل شىء وتدافع عن كل شىء تقوله. إذا اقترحت منتجًا أو استراتيجية، فيجب عليك الدفاع عنها بالبيانات والحقائق.
السرعة والنشاط
تعتبر السرعة والنشاط هما العنصر الثالث لطريقة «إنفيديا»، فهم حسب «كيم» يعملون على المهام بسرعة الضوء، ويعتبرون المهمة هى الرئيس، وهو ما يعنى أن عليك اتخاذ القرار الصحيح للشركة والعميل- وليس ما هو جيد لرئيس رئيسك.
ففى الشركات الأمريكية، يتم إنفاق نسبة كبيرة من الوقت - نحو من ٣٠ إلى ٥٠٪ - فى القيام بأشياء لا تساعد العميل النهائى، ولكنها بدلًا من ذلك تجعل رئيسك يبدو جيدًا لرئيسه.
وتعنى سرعة الضوء، العمل بسرعة قصوى، ففى «إنفيديا» عندما تقوم بمشروع له مؤشرات أداء رئيسية، سيتم توبيخك إذا قلت لقد فعلت ١٠٪ أفضل، إنهم يهتمون بما هو ممكن فعليًا والنتيجة النهائية.
ويشير الكاتب إلى أنه إذا قمت بهذين الأمرين، فسوف تتفوق على الجميع تقريبًا، حيث إن هناك قصصًا مرعبة فى شركات التكنولوجيا الكبيرة، على سبيل المثال فى «جوجل» تحتاج إلى موافقة من ٥ أصحاب مصلحة مختلفين، وفى «إنتل» يمكن أن تقدم عرضًا لعدد من الأشخاص ولا يتحرك شيئًا.
لكن على النقيض فى «إنفيديا»، تقدم فكرتك للرئيس التنفيذى مع وجود كل الأشخاص ذات الصلة، ثم يتخذون قرارًا وتذهب للتنفيذ، فلا يوجد تأخير ولا تردد، ويقول المؤلف إن قصة الشركة تظهر أنه لا توجد اختصارات.
وأن النجاح يتطلب الألم والمعاناة، فمن خلال التجارب تتعلم وتستوعب الدروس وتتحسن، فالإنترنت ملىء بالإعلانات والمؤثرين الذين يروجون لمخططات «الثراء السريع»، لكن «إنفيديا» وتاريخها يؤكد أنه يجب عليك العمل بجد وتحمل الألم وبذل الجهد، حينها فقط تحصل على المكافأة.
هذه هى النتيجة الرئيسية: لا توجد طرق مختصرة- فقط العمل الجاد والمثابرة.