الكاكاو البرى.. البحث عن الجذور المقدسة للشوكولاتة
- كتاب يقدم خمس أفكار لذيذة حول سحر الشوكولاتة على طول سلسلة التوريد
- رحلة بحث عن حبة الكاكاو المثالية لإنتاج أفضل قطعة شوكولاتة فى العالم
- مغامرة عبر الغابات وإلى أعماق التاريخ لاكتشاف جمال وثقافة الكاكاو
- كاتب أمريكى يكشف لماذا الشوكولاتة لذيذة لكنها ليست بسيطة..وكيف أنشأ الإسبان صناعة الشوكولاتة فى القرن الـ16؟
- الشوكولاتة الحديثة عبارة عن كاكاو وسكر وفانيليا وحشو وإنتاجها اليوم يمزج بين كاكاو كوت ديفوار وغانا وساحل العاج
الشوكولاتة هى الحلوى المفضلة لدينا جميعًا، نلجأ إليها عندما نحتفل أو نحتاج إلى تحسين مزاجنا، أصبحت جزءًا من حياتنا اليومية، ولها دائمًا طعم خاص فى فصل الشتاء.
هذه الحلوى التى تدللنا، تعتمد صناعتها على فاكهة مذهلة لونها أصفر، هى نبات الكاكاو البرى، الذى يزرع فى عديد من الدول ذات المناخ الاستوائى، منذ أكثر من 5 آلاف عام.
لكن المفاجأة أن الشوكولاتة التى نأكلها اليوم، ليست مصنوعة من هذا الكاكاو الأصلى القديم، حيث تفضل شركات الشوكولاتة الكبرى أصناف الكاكاو عالية الغلة منخفضة النكهة.
وهو ما يكشفه الكاتب والصحفى الأمريكى «روان جاكوبسن» المتخصص فى الطبيعة والعلوم والطعام والاستدامة، فى كتابه «الشوكولاتة البرية: عبر الأمريكتين بحثًا عن روح الكاكاو»، الصادر فى أكتوبر الماضى.
الكتاب الذى يأتى فى ٢٨٨ صفحة، صدر عن دار نشر «بلومزبرى» البريطانية، يشاركنا فيه جاكوبسن خمس أفكار لذيذة حول الشوكولاتة، ويسافر فيه إلى أمريكا الوسطى وعبر الغابات المطيرة فى نهر الأمازون بأمريكا الجنوبية، ليطارد هذه الحلوى السحرية على طول سلسلة التوريد.
وذلك للعودة عبر التاريخ والعثور على صانعى الشوكولاتة والمزارعين والناشطين والسكان الأصليين الذين يقاومون النظام الذى تخلى منذ فترة طويلة عن حبوب الكاكاو القديم، لإنتاج أفضل قطعة شوكولاتة فى العالم.
وتعتمد الفكرة الأساسية للكتاب على أننا نعيش فى العصر الذهبى للشوكولاتة أو عصر نهضة الشوكولاتة، الذى يحاول فيه الحرفيون إعادة الشوكولاتة إلى جذورها المقدسة من الكاكاو الأصلى القديم.
طقوس الحب
أولى الأفكار التى يقدمها المؤلف هى أن الشوكولاتة تُصنع من فاكهة، وهى بذور شجرة الكاكاو، التى تنمو فى غابات الأمازون المطيرة، ويبلغ حجم البذور حجم اللوز، وتأتى فى قرون تشبه كرات القدم.
يمكن أن تكون هذه القرون حمراء أو صفراء أو خضراء أو أرجوانية، وهى ممتعة للرمى. ولصنع الشوكولاتة، تخرج البذور من القرون، وتحمصها، ثم تطحنها حتى تتحول إلى عجينة. هذه هى الشوكولاتة فى أنقى صورها.
كان هذا هو الشكل الذى استخدمه شعب «المايا» القديم «حضارة ظهرت فى أمريكا الوسطى» وشعوب أخرى فى أمريكا اللاتينية لآلاف السنين. وكانوا يشربون الشوكولاتة دون تحلية، ويخلطونها بالماء وربما بعض الفلفل الحار أو غيره من التوابل، وكانوا يعبدون الأشجار التى تأتى منها.
هذا المشروب كانت له طقوس خاصة حسب الكاتب فى الفكرة الثانية التى يقدمها، الذى بدأ روايته الشاملة فى مدينة «أوكساكا» بالمكسيك، على مقربة من مصدر الكاكاو والشوكولاتة الناتجة عنه، التى كانت موضع تقدير كبير من قبل «الأزتيك».
وهم حضارة فى أمريكا الوسطى ازدهرت فى وسط المكسيك فى فترة ما بعد الكلاسيكية بين عامى ١٣٠٠ و١٥٢١، لدرجة أنهم وسعوا إمبراطوريتهم بعيدًا عن قلبها، للسيطرة على منطقة الساحل الهادئ، حيث نمت.
ويحكى جاكوبسن ما شاهده خلال زيارته تلك المدينة، عندما ساعد امرأة تُدعى «كارينا سانتياجو» فى صنع مشروب الشوكولاتة الخاص بها، حيث تعود الوصفة إلى عائلة كارينا منذ قرون، التى وصفها بأنها عمل حب.
حيث كانت السيدة تحمص كل مكون على صفيحة طينية فوق نار الخشب: الذرة والكاكاو والقمح والقرفة. ثم تركع أمام طاولة حجرية، تعرف باسم «ميتاتى»، وتطحن المكونات حتى تصبح عجينة.
ثم تضع العجينة فى قرع، وتضيف الماء الساخن والقليل من العسل، وتخفق المشروب حتى يتحول إلى رغوة، وتدير عصا خشبية بين يديها حتى تتكون رغوة ضخمة فى الأعلى. بعد ذلك فقط يصبح المشروب جاهزًا للتقديم.
ويعلق المؤلف: هكذا فعل «المايا» القدماء أيضًا. لقد اهتموا بالرغوة المثالية، بقدر ما يهتم بها أى صانع قهوة اليوم. والنتيجة مذهلة، مثل شرب سحابة من الشوكولاتة، لكن العملية تستغرق ساعات. لماذا نتكبد كل هذا العناء؟ لأن الشوكولاتة طقوس- كانت دائمًا كذلك.
ويقول الكاتب: قبل خمسمائة عام، عندما يصنع لك شخص ما كوبًا من الشوكولاتة، كان يأخذ طاقة الغابة المطيرة ويحولها بجهده الخاص إلى عمل فنى سائل. وبينما تستوعب كل هذه النكهات والناقلات العصبية، ركز عقلك على متع الحياة فى عالم ملىء بهذه الطاقات المذهلة.
لا يزال الأمر على هذا النحو. واليوم، تتم إعادة اكتشاف طقوس الكاكاو، وتتم إعادة الشوكولاتة إلى جذورها المقدسة.
الحبوب السائبة
ويشرح جاكوبسن كيفية انتشار الشوكولاتة فى أوروبا والعالم، وذلك خلال القرن السادس عشر، عندما غزت إسبانيا المكسيك، وبمجرد وصول الإسبان، أحبوا الشوكولاتة بعد أن بدأوا فى إضافة السكر إليها ثم قاموا بالاستيلاء على إنتاجها.
ومن هنا نشأت صناعة الشوكولاتة، وأصبحت من المشروبات التى تلقى رواجًا كبيرًا فى أوروبا ثم فى مختلف أنحاء العالم، لكن كانت المشكلة مع تزايد الطلب أن حدائق الغابات الأمريكية لم تتمكن من مواكبة ذلك.
فبدأت مزارع الكاكاو الجديدة فى إفريقيا، واستمرت الصناعة فى التوسع. ولكن المزارعين لم يزرعوا الأصناف المذهلة التى تحظى بتقدير كبير فى أمريكا اللاتينية، بل اختاروا الأصناف الهجينة الجديدة عالية الغلة ومنخفضة النكهة المعروفة باسم «حبوب الكاكاو السائبة». وبحلول بداية القرن العشرين، شكلت هذه الحبوب ٩٥٪ من إنتاج الكاكاو العالمى.
إنتاج إفريقيا
ويصل بنا المؤلف هنا إلى الفكرة الثالثة، وهى قصة الشوكولاتة الحديثة التى يتم تصنيع كميات كبيرة منها، لكن معظمها ردىء جدًا، ويتكون فى الغالب من سكر وفانيليا وحشو، نتيجة الاعتماد على هذه الحبوب.
حسب الكاتب، يعتمد إنتاج الشوكولاتة اليوم على المزج بين حبوب الكاكاو من ثلاث دول، وهى كوت ديفوار وغانا وساحل العاج، لكن المشكلة هو ما قام به المزارعون هناك بتدمير الطبيعة بلا رحمة، لتصبح هذه المناطق مراكز لإنتاج الكاكاو، حيث كانت هذه الأرض عبارة عن غابات مطيرة، وكان معظمها فى محميات، واليوم، تمثل غانا وساحل العاج ثلثى الإنتاج العالمى، وكمية ضخمة منه من المحميات، وغاباتهما التى اختفت بشكل أساسى.
هذه التضحيات التى قدمتها كوت ديفوار وغانا لتصبحا من الدول الرائدة فى إنتاج الكاكاو، ليست فقط فى إزالة الغابات المطيرة، والتنوع الجينى وخسارة النكهة المرتبطة بالصنف الهجين المفضل لديهما، بل وصلت إلى الكرامة الإنسانية الأساسية.
ويخبرنا جاكوبسن بأن ملايين الأفارقة يجمعون نحو دولار واحد يوميًا لزراعة حبوب الكاكاو التى تتحول إلى متعنا بالشوكولاتة، التى تكلف بالتأكيد أكثر مما يكسبه المزارعون مقابل عملهم اليومى.
وعلاوة على ذلك، ووفقًا للحكومة الأمريكية، لا يزال أكثر من ١.٥ مليون طفل يعملون فى صناعة الكاكاو فى غانا وكوت ديفوار، على الرغم من التعهدات المتكررة من جانب شركات الشوكولاتة الكبرى بإنهاء هذه الممارسة.
ويعلق المؤلف: «كان الشرير الحقيقى هو السوق، وحقيقة أن الدول الغنية كانت سعيدة بالسماح لهذه الدول الشابة المتعثرة بتصفية رأس مالها الطبيعى والبشرى بأقل سعر ممكن».
وذلك فى الوقت الذى رأت فيه الدول الإفريقية نفسها أنها وسيلة رائعة لبناء اقتصاداتها الخاصة، بمعنى ما، كان نجاحًا كبيرًا لغرب إفريقيا، حيث استولوا على الصناعة واليوم، ينتجون حوالى ٧٠٪ من الكاكاو فى العالم.
قدرات عظمى
أما الفكرة الرابعة التى يقدمها الكاتب، فهى أن للشوكولاتة ثلاث قدرات عظمى، وهى التى تجعل لها طعمًا مميزًا جدًا، الأولى هى النكهة. نحن نحب الشوكولاتة بسبب نكهتها. لكننا فى بعض الأحيان نعتبرها أمرًا مفروغًا منه. الشوكولاتة مرة وحلوة وفاكهية وجوزية ولذيذة فى الوقت نفسه. إنها مثل موسوعة للنكهة.
لكن كل هذه النكهة لن تكون ذات أهمية كبيرة دون القدرة العظمى الثانية للشوكولاتة: زبدة الكاكاو. هذه الدهون السحرية مصدرها الوحيد هو بذور الكاكاو، التى تمنح الشوكولاتة ثراءها ومرونتها. تكون زبدة الكاكاو صلبة فى درجة حرارة الغرفة، ولكن عند تسخينها إلى درجة حرارة الجسم، تذوب بشكل جميل، وهو ما يعطى الشوكولاتة للشرب سمكًا شهيًا، ويسمح لصانعى الشوكولاتة بتحويلها إلى جميع أنواع الأشكال، ويشير جاكوبسن إلى أن كل أنواع الكاكاو غنية بشكل مذهل، حيث تحتوى على نسبة دهون تصل إلى ٥٥٪ على الأقل.
ولكن بعض أغلى أنواع الكاكاو فى العالم، التى توجد فى الغابات الاستوائية النائية من المكسيك جنوبًا إلى موطنها فى الغابات البوليفية شرق جبال الأنديز فى أمريكا الجنوبية، أكثر ثراء بكثير.
أما القدرة الثالثة والأهم للشوكولاتة فهى أنها تجعلك تشعر بالسعادة، فهى تحتوى على القليل من الكافيين، لإضفاء دفعة إضافية إلى خطوتك.
لكنها تحتوى أيضًا على قريبها من الكافيين يسمى «الثيوبرومين»، وأيضًا على بعض القنب، وبعض الأمفيتامينات «منبه للجهاز العصبى المركزى»، وبعض النواقل العصبية الممتعة الأخرى. إنها تجعلك تقع فى حب العالم من جديد، فى كل مرة.
العصر الذهبى
ويقدم المؤلف فكرته الخامسة، ويؤكد فيها أن الشوكولاتة الجيدة يصعب الحصول عليها، فيقول: فى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، بدأت أنواع أفضل كثيرًا من الشوكولاتة، تظهر على أرفف المتاجر الأمريكية.
فقد كانت تحتوى على نسب أعلى من الكاكاو، مع كمية كافية من السكر لموازنة المرارة، وكانت ذات نكهات لم أصادفها من قبل. وكانت كلها قادمة من المناطق الاستوائية الأمريكية.
وقد وصل جيل جديد من الحرفيين الذين يعملون على تحويل حبات الشوكولاتة إلى قطع. وكانوا على استعداد لدفع الأسعار الأعلى المطلوبة للحصول على الأصناف التراثية اللازمة لخلق «روائع فنية»، خاصة إذا كان هذا الكاكاو يدعم الاقتصادات المحلية والإدارة المستدامة للغابات.
ويضيف: كان أحد أكثر أنواع الشوكولاتة التى جربتها إثارة للذهول يسمى «كرو سوفاج»، وكان مصنوعًا بالكامل من الكاكاو، الذى كان مستكشفًا ألمانيًا يُدعى «فولكر ليمان»، يستخرجه من بوليفيا، التى يعتقد الآن أنها أرض البداية للشوكولاتة، وليس أمريكا الوسطى- كما كان يعتقد سابقًا.
ادعى أنه كاكاو برى بالكامل ينمو فى أعماق الغابات المطيرة. لكن لم يصدقه معظم الخبراء: كاكاو برى؟ اختفى منذ فترة طويلة. لذلك، اتصلت بالرجل. أخبرنى أن آتى لأرى بنفسى. كان على وشك الذهاب إلى أعلى النهر فى رحلة استكشافية جديدة.
لذا سافرت إلى بوليفيا، واستأجرنا طائرة صغيرة لإنزالنا فى المنطقة. كان كل شىء مغمورًا بالمياه، بما فى ذلك ممرات الهبوط فى الغابة، التى صنعها تجار المخدرات الذين ينقلون الكوكايين.
وكما هو متوقع، هبطنا أخيرًا على مدرج متضخم، وعلى الفور، خرج أربعة رجال مسلحين من المقصورة القريبة ليسألونا عما كنا نفعله. كان علينا استخدام نصف أموالنا لسداد ديونهم، ثم سمحوا لنا بالمغادرة. كانت هذه مجرد بداية الجنون.
وبينما كنا نتجه بزورقنا إلى أسفل النهر، وجدنا غابات مغمورة بنبات الكاكاو الجميل. وكان بوسعنا أن نقود قاربنا إلى أسفل الأشجار. وكان السكان المحليون يحصدونه، فعقدنا صفقة لشرائه منهم. وقد صنعوا منه بعضًا من أجمل وألذ أنواع الشوكولاتة التى تناولتها على الإطلاق.
ويشير الكاتب إلى أن الحصول على هذا الكاكاو وإخراجه من الغابة فى حالة جيدة أمر يكاد يكون مستحيلًا. فيجب أن تكون فنانًا وحالمًا. وهو أمر ينطبق على جميع المناطق الاستوائية، حيث ينمو أفضل أنواع الكاكاو.
وفى العصر الذهبى للشوكولاتة الذى نعيشه، يشهد الكاكاو القديم نهضة حقيقية، لاستعادة آخر بقاياه من حافة الانقراض، ويتم اكتشاف أنواع جديدة من الكاكاو كانت مفقودة منذ زمن بعيد كل عام، وهى التى تغذى صناع الشوكولاتة الذواقة فى العالم مثل المنتج السويسرى «فيشلين».
جيل جديد
وفى الوقت نفسه، يتسابق جيل جديد من صانعى الشوكولاتة، للحصول على هذه الأصناف النادرة وإنتاج شوكولاتة غير عادية، تعرض تنوعًا مذهلًا من النكهات.
وفى إطار مغامرته التى قام بها، يلتقى جاكوبسن برواد حركة «من المزرعة إلى المائدة» فى عالم الشوكولاتة، التى تهدف لتقليل الحلقات بين المزارع والمستهلك، ليتعرف على «إميلى ستون»، وهى أمريكية تركت حياتها المريحة فى «بوسطن» لتنتقل إلى «بليز»، وتبنى أعمال تصدير متخصصة مفيدة لصانعى الشوكولاتة والمستهلكين والمزارعين على حد سواء.
ثم يقضى بعض الوقت مع «لويزا أبرام»، التى تركت كلية الطب لتكرس حياتها للكاكاو البرى فى نهر الأمازون البرازيلى، حيث تقوم بحصاد القرون، وتحويل بذورها إلى شوكولاتة رائعة.
وهى شوكولاتة يصفها بأنها «تتمتع برائحة عطرية تشبه رائحة زهرة الياسمين، ولكنها تحتوى أيضًا على نفحات من الفاكهة الاستوائية، وأعشاب جميلة حقًا، وبعدها يعرفنا المؤلف على صندوق الحفاظ على الكاكاو التراثى، وهى منظمة غير ربحية، تعمل على تحديد وحفظ أصناف الكاكاو المهددة بالانقراض.
وتأسس هذا الصندوق منذ حوالى ١٢ عامًا، ومن الغريب أنه كان مشروعًا مشتركًا بين وزارة الزراعة الأمريكية وصانعى الشوكولاتة الفاخرة فى أمريكا، الذين كانوا قلقين من عدم قدرتهم على الوصول إلى ما يكفى من حبوب الكاكاو الرائعة، لأنه فى ذلك الوقت، كان الأمر أصعب كثيرًا مما هو عليه الآن.