سيد الحكاية.. محمد جبريل.. لا يموت
![محمد جبريل](/themes/harf/assets/images/no.jpg)
مثل البلسم الذى ينسال بنعومة فيرطب الأشياء ويغسل الأدران، كان اسم محمد جبريل، الروائى الكبير والمثقف العضوى الذى صنع على عينه أجيالًا من الكتاب والأدباء، الذين تتلمذوا فى حاضنته الثقافية الهائلة والموزعة بين ندواته وأمسياته وجلساته الخاصة، والأهم من ذلك كتاباته التى سخرها للفرز والتعريف والنقد المثمر للأعمال الإبداعية المختلفة.
لم يكن محمد جبريل مجرد روائى وقاصٍ كبير، بل تخطى حضوره آفاق الإبداع إلى آفاق أرحب من الاستيعاب والاحتضان والتنشئة والتبنى الكامل لصفوف من شباب الكتاب الذين أصبحوا فيما بعد نجومًا فى ساحة الكتابة والأدب والصحافة، فصار دوره أقرب إلى المؤسسية الداعمة والشاملة.
«جبريل» المثقف/ المؤسسة، الذى وافته المنية قبل أيام، ترك خلفه أعمالًا مجيدة لا يزال أثرها مستمرًا، ورغم رحيله ما زالت أياديه البيضاء على الثقافة المصرية حاضرة سواء بالحضور الفعلى فى عقول تلامذته أو حضور النوستاليجيا فى الأماكن التى ارتبط اسمه بها، فما زالت آثار ندوته الدائمة فى جريدة المساء وكذلك أمسيته الأسبوعية التى كانت تقام فى نقابة الصحفيين، حية ونابضة وتفوح روائح ذكرياتها، ولا يزال من تتلمذ فيها يحفظ عهد الوفاء لذلك الأستاذ الكبير.
«وكأنه هارب من زمن النبلاء»، هكذا كان يقول كل من عاصر محمد جبريل وعايشه فى حياته الإنسانية والمهنية والإبداعية، فهو الدءوب صاحب الإرادة القوية والصابر على المعاناة الشديدة والألم خاصة الذى طارده فى أواخر أيامه، كما أنه الزاهد الكبير الذى لم يُضبط متلبسًا مرة فى الركض خلف منصب أو جائزة، أو أى من الغنائم الدنيوية التى طالما ركض خلفها الكثيرون، وكان لسان حاله: «كل شىء تركته خلفى بطيب خاطر جاءنى يلهث من أمامى»، ورغم ذلك كانت أعماله الأدبية فى الرواية والقصة أكبر جائزة يُتوج بها، فالمتعة لديه هى الأثر الفنى والجمالى الذى تركه فى قلوب القراء.
ومن يتجول بين سطور أعماله يدرك كم كان هذا الرجل عاشقًا لتراب هذا البلد معجونًا فيه، وهو ابن بحر الإسكندرية الذى حمل فى قلبه وعقله كل نسيم الشمال، وجاء إلى القاهرة ليصنع أسطورته الخاصة ما بين العمل الصحفى فى جريدة المساء وبين العمل الإبداعى بين الرواية والقصة والنقد، وبين العمل العام فى اتحاد الكتاب وغيره من المؤسسات.
كل هذه الرحلة الطويلة سجلها محمد جبريل فى أعماله الكبيرة والغزيرة والمتنوعة، ما بين روايات، مثل «الأسوار، إمام آخر الزمان، من أوراق أبى الطيب المتنبى، اعترافات سيد القرية، زهرة الصباح، الشاطئ الآخر، رباعية بحرى، ياقوت العرش، بوح الأسرار، مد الموج، نجم وحيد فى الأفق، حكايات الفصول الأربعة، زوينة، صيد العصارى، غواية الإسكندر، الجودرية، رجال الظل، مشارف اليقين، حيرة الشاذلى فى مسالك الأحبة، أسرة القط حميدو».
ومن بين الأعمال القصصية مثل: «تلك اللحظة، انعكاسات الأيام العصيبة، حكايات وهوامش من حياة المبتلى، سوق العيد، انفراجة الباب، حارة اليهود، رسالة السهم الذى لا يخطئ، موت قارع الأجراس»، وغيرها.
وكأنه كان بركانًا من الإبداع والعبقرية يكتب ما يعيشه وما يعانيه وما يجربه فقط، فكان ابن بيئته وحاضره وشارعه، منتميًا إلى قضايا بلده وشعبه، لم يسقط لحظة فى فخ الافتعال والتنميط والتقليد، حافظ على طزاجة منتجه ولغته الفريدة المختارة بعناية فائقة وعالمه الثرى القائم على الشفافية والنقاء الإنسانى الكامل، وعلى النظرة العميقة التى لا تخلو من صوفية وروحانية نابعة من تجربة حقيقية تعكس طبيعة حياة ذلك الرجل العظيم الذى يظل حيًا بتراثه وأعماله وروحه رغم رحيله.