«شبح عبدالله بن المبارك».. محاولة ناجحة لعصرنة ما هو تراثى

حينما تم فتح الباب فى واقع أحداث الرواية، فإن الرواية هى الأخرى فتحت بابها على نصها للقارئ، وسوف يطالع عبارة أم البطل الشاب الراوى، وهى حكمة شعبية متداولة لها منطقها الخاص: «الباب المقفول يرد القضاء المستعجل»، هذه الحكمة ستكون أول خيط فى النسيج المتشابك بين التلميذ وأستاذه، أو بالمفهوم التراثى المريد وشيخه، والكاتب سوف يلعب لعبته الروائية فى تلك المساحة بين واقعين الأول تراثى، والثانى الحاضر، أخذ من الأول حكاية غرائبية إيمانية، فقط دون اتكاء على لغة ماضية أو انشغال بهذا الفضاء القديم، ولكنه أبقى بعض الشىء على روح هذا الماضى فى تكنيكه وإدارته للحدث الرئيسى، إذن نحن بصدد كتابة انطلقت من أرضية تراثية، ولكنها تسير بقدمين ثابتتين خلال المعاش الآن أو الحاضر، فالشخصيتان الرئيسيتان هما أبناء هذا العصر.

هل هذا حديث غير واضح؟ ربما، وعلينا أن نشعل الضوء لنتبين ما خلف هذه المقدمة، وضع الأستاذ أمام تلميذه الشاب قضية خلافية، ينبنى عليها المتن كله، الذى استلهم حكايته التراثية- سوف نوضحها، بعد أن نذكر أن الفلسفة عمومًا تحتفظ بسيرة طويلة من الحوار فكرة وطريقة وأسلوبًا- والرواية عمومًا تستفيد بهذه الخاصية بقدرة فائقة، رجل صالح شوهد فى مكانين فى الوقت نفسه، هو عبدالله بن المبارك، حيث يوجد فى دكانه بمدينته، وفى الوقت نفسه بالبيت الحرام، مشكلة الوجود لشخص واحد فى مكانين مختلفين يبعدان آلاف الكيلو مترات عن بعضهما البعض طرح فلسفى من الدرجة الأولى لتبادل الحوار المتشعب والحائر، الذى لا يقطع برأى واضح منته، والنص الروائى نفسه لا ينفى، ولا يؤكد صحة هذه الحكاية أو صدقها من كذبها، ولكن احتدام المناقشة الفلسفية واستمرارها، ينبع بسبب هل يمكن أن يقبلا بالتفسير الشعبى الذى يطرحه الشعبيون بأن ما حدث من وجود الرجل الصالح فى مكانين مختلفين فى الوقت نفسه، يفسر ببساطة على أن الله أرسل ملاكًا يشبهه تمامًا، يحج نيابة عنه لأنه ساعد بأموال حجه امرأة مسكينة، كتابة ماجد شيحة تخلص للفكرة، ولكنها فى الوقت نفسه لا تستنيم لغرابتها، ولكنها كالعتبة التى يدخل منها النص إلى جزئية أخرى تشابه هذه الواقعة فى نقطة تأرجحًا بين الحقيقة وما يصنعه العقل البشرى من محاولات باختصار لوضع الخيالى محل الواقعى، فالأستاذ المتخصص فى فيزياء الكم يدفع إلى تلميذه بهاتف مغلق كأمانة، ويطلب منه ألا يسلمه لأحد إلا بعد سماع خبر موته. ثم نعرف أن الهاتف يخص زوجة الأستاذ الذى اكتشف عبره رسائل غرامية بينها وبين حبيب مجهول. يختفى الأستاذ فى ظروف غامضة، ليجد التلميذ نفسه فى مأزق وحيرة كبيرين. تتصاعد الأحداث ويتعمق المأزق بظهور الزوجة لتطلب استرداد الهاتف، مدعمة مطلبها برواية أخرى مختلفة عن رواية الزوج المختفى، على أن ما يهمنا ليس القصة بوقائعها التى حاولنا تلخيصها ليتمكن القارئ من مصاحبتنا أثناء تجربتنا فى التعامل القرائى مع الرواية، يهمنا فى المحل الأول هو كيف كتب الكاتب روايته، وعبر أى من وسائل تكنيكية استخدمها، أولى هذه الملاحظات يمكننا أن نلمح بشكل مباشر أن الكاتب شيحة مارس عبر نصه طرح عدة تساؤلات ذات طابع فلسفى- كما اتفقنا من قبل- عن علاقات الأجيال، ومعنى الأمانة وقيمة التحلى بها، وحدود المسئولية الأخلاقية، كل ذلك وغيره يكشف لنا قدرة كتابة مثيرة وتشويقية، والعجيب أن الغموض أيضًا يلفها، ولكنه غموض غير ملغز أو جامد، أعطى للمتن حضورًا غير مألوف، هل يمكن لأحد أن يدخل معمعة حوارية الأستاذ وتلميذه بطرح سؤال: لماذا اختار الأستاذ– برعاية الكاتب– تلميذه ليحاوره فى مسألة تحتفى بها الفلسفة بصرف النظر عن توجهها الدينى الروحى، ولم يختر صديقًا له، أو زميلًا يضارعه فى أستاذيته، حتى يكون الحوار جدليًا متبادلًا غنيًا بأطروحاته؟
السؤال ولا معنى له لو وجه بالفعل للكاتب ماجد شيحة، ولن ندخل فى عش الدبابير ونحلل تاريخه الشخصى، لنثبت شيئًا كتهمة تعلق فى رقبته، الكتابة هى هكذا، الكتابة كما نقرأ ما هو مكتوب فى متنه، بلا فزلكة منا أو من أحد من محبى إثارة الغبار، ولن نغالى إذا قلنا إن الكتابة بهذا المحتوى والشكل التى هى عليه، أعطت للنص زخمًا متينًا، أما فيما بعد الكشف عن خيانة زوجة الأستاذ له، فتأتى القدرة على إنشاء وقائع الثلاثى المشهور «الزوج– الزوجة– العشيق» أيضًا بشكل استوعب ما سبق من نصوص انشغلت بهذه المنطقة، النص يحاول التجاوز عبر أداء لغوى عالى التمرس «كم مرة سأل نفسه: ما فائدة تكرار الجنس فى الحياة الزوجية؟ لماذا ألقى الله بداخلنا هذا الولع، التحرق لاكتشاف الآخر، والرضوخ لاستكشاف الآخر لنا؟ وإذا كان هذا الولع ضروريًا، فلماذا لم يكن سهلًا عبر مصافحة أو قبلة مثلًا؟ الأمر مرتبط بإنشاء لغة بين الجسدين، لغة تصير أكثر فصاحة كلما كررنا التحدث بها، فى البداية تكون اللغة متعثرة، ولكن هذا البكم تغطيه زيادة فى الولع وعندما يصل الولع لمعدله الطبيعى تكون اللغة قد تكونت، كلماتها الأولى- من الرواية».
ثم يأتى دور «حامل الأمانة» التى لا يستطيع فضها والاطلاع على ما فيها، رغم أن الأحداث ربما تكون متصلة به– أعنى هذا التليفون المحمول الذى أودعه الأستاذ لدى تلميذه، مع تكشف حقائق جوهرية عن علاقة الزوجة بالأستاذ، وتهمة أن يكون هناك عشيق اكتشف وكان سببًا فى اختفائه، ليصبح التلميذ يعانى من كل الاحتمالات والفرضيات هو مركز الأحداث التالية، حامل الأمانة هل يشقى بحمله؟ قوله تعالى: «إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولًا».
هنا أيضًا يعتلى النص الروائى ما هو تراثى دينى، ويضع حامل الأمانة، ويضعنا معه فى مواجهة سؤال آخر مهم، هو هذا الخطأ الذى يرتكبه الإنسان سواء كان متعمدًا أو غير متعمد، وكيفية التكفير عن فعله، هذا أحد الأسباب المهمة لقرار الأستاذ بالاختفاء عن ساحة وجوده عن عمله وطلبته وزوجته، ما يهمنا هنا هو فكرة الخطيئة والتكفير عنها، أليست إحدى القضايا الكبرى فى تراثنا الدينى؟ ما يعنينا منها هو الكتابة الروائية التى بين أيدينا، وما تطرحه رحلة التكفير من عذابات تشمل الأستاذ وتلميذه، الذى تبدأ معاناته مع كذبته أمام الزوجة ونفيه بعدم وجود تليفونها معه، هنا العنصر الرئيسى لقلب المتن، حيث يتم طرح عدة قضايا حياتية، ومناقشتها بشكل متتال، فى نص مفتول العضلات، ليس سهلًا من حيث التناول لتلك القضايا، والتى لا تبعد عن الأساس المشار إليه من أن الكاتب ابن البيئة المصرية المتدينة، التى تراعى فى علاقاتها بالناس والأحداث من حولها بطهرانية خاصة نابعة من أساس أخلاقى، يصعب تجاوز حدوده.