أكرم حسنى.. صانع البهجة فى مسلسل «بابا جه»
لا يمثّل أكرم حسنى مدرسة فنية بعينها، بفرض أن المدارس الفنية شبه سقطت منذ نحو عقدين، وهو ما يُسقط معه التصنيفات والإطارات، فصرنا نعيش زمن الحالة، فكل ممثل هو حالة، حتى ولو كانت هذه الحالة تقليدية ونمطية، تمامًا مثلما تجاوزت الكتابة حدود الأغراض والأنواع، فصرنا نعيش زمن النص، فهذه القصة نص، وهذه القصيدة نص، وهذه المسرحية نص.
وبالإحالة إلى أكرم حسنى، الذى انضم إلى سلك التمثيل فى بادئ الأمر من باب الهواية، فهو حالة نشأت وتكونت ونمت، ثم رقّت نفسها بنفسها، أو بالمعنى الدارج «اشتغل على نفسه»، فصار التطوير والضبط والسبك هو العنوان الرئيسى لتجربته على مدار الـ١٥ سنة الماضية.
فى تجربته فى مسلسل «بابا جه»، الذى عرض خلال الموسم الرمضانى الأخير، ظهر أكرم حسنى وكأنه ثمرة ناضجة على أكمل ما يكون، فهو يؤدى وكأنه «سايب إيده»، فى انسيابية المحترفين الذين يتحركون بخفة ورشاقة، دون ثغرات على مستوى التشخيص، أو افتعال أو مبالغة، بالأحرى هو صورة للممثل صاحب الأداء المرن، الذى يعى تمامًا الطبيعة الوظيفية لفن التمثيل، والطاقة المنوط به إخراجها، فهو ليس مطلوبًا منه أن يقدم رسالة، بقدر ما يحدث الدهشة، ويصب المتعة فى كوب نظيف يشربه المشاهد، دون أن يشعر بأى مذاق يعكر صفوه.
المسلسل يحكى قصة عادية للغاية عن مواطن مصرى ليس «ميديوكر»، بل هو رائد فى مجاله، ووصل إلى مناصب مرموقة فى إدارة الفنادق السياحية رفيعة المستوى، وبسبب «كورونا» يتم الاستغناء عنه ضمن من تم تسريحهم من العمالة الجيدة، خلال موجة الركود الاقتصادى التى واكبت الجائحة، فيكون مصيره المكوث فى البيت دون أى عمل، وقضاء أوقاته فى حالة من الفراغ الشامل، لدرجة أنه يترك نفسه فريسة للعب «البلاى استيشن» مع بواب العمارة، وإنفاق المدخرات على كل ما هو ليس ضروريًا.
وكما قيل فى الأثر «وقع الشبيه على الشبيه»، وكأن الدور مرسوم لأكرم حسنى أو العكس، فنرى هذا المواطن المصرى وهو يعالج هذه الأزمة الطاحنة بالمقاومة الشرسة لاكتئاب البطالة، الذى قد يصيب أى إنسان يقع فى هذا المأزق، فجسد «أكرم» روح السخرية من الواقع، وشاهدنا معه حالة تقمص تظهر حجم اللا مبالاة، ومواجهة الأزمة بمزيد من الضحك واللهو.
ولأنه أكرم حسنى، الذكى والكوميديان الصافى، لم يتورط فى إظهار صورة كئيبة سوداوية لهذا المواطن المنكوب، فالدور كان يحتاج منه إلى اختراع أكثر من مستوى للأداء، فنحن لم نرَ منه الإنسان الغارق فى بحر الكآبة فى ظل ظروفه الصعبة، ولم نرَ أيضًا المواطن المستهتر اللا مبالى، لكن شاهدنا شخصية هى مزيج بين هذه الحالات، وتتنقل بين مستويات الأداء والانفعالات بخفة وسلاسة، فهو يضحك، ثم يحزن، وسرعان ما يقهقه، وبعد لحظات ينخرط فى بكاء شديد.
جميعنا صدقناه، وتتبعنا ردود أفعاله وقسناها على أنفسنا، وعلى تصرفاتنا تجاه المواقف والأزمات، ورأينا انفعالات وجهه وحركة عينيه وهو يتعرض للموقف القاسى الذى تصفه فيه طفلته الصغيرة خلال حفلة مدرسية، يحضرها كل أولياء الأمور، بأنه «أب ملوش لازمة»، لأنه جالس فى المنزل، والأم هى من تتولى الرعاية والإنفاق، فيصور أداؤه حالة الانهيار الشعورى من أقصى الفرح إلى قاع الحزن والضياع، فلا يوجد أقسى من أن تصف طفلة أباها بهذا الوصف، ليظهر المشهد وكأنه «ماستر سين» المسلسل.
أما ذروة أداء «أكرم» فتجلت فى قدرته على تجسيد دور الأب ببراعة، لكن ليس فى الصورة النمطية للأب، بل فى شكل فكاهى لا يخلو من صرامة، فاستطاع بتعبيراته الصادقة أن يمتلك قلب نجلته ويحول نظرتها تجاهه من الانتقاد الشديد إلى التعلق العميق، فصنع لنفسه جمهورًا واسعًا من المشاهدين الأطفال، لدرجة أن طفلة من قطاع غزة، ترسل إليه- وهى فى عز مأساتها- رسالة مَحبة، تشكره فيها على هذا الدور، الذى يجمل صورة الآباء فى عيون أطفالهم.