قضية علاء حامد.. البحث عن الله فى صفحات «مسافة فى عقل رجل»
فى إحدى ليالى صيف العام 1997 كنت أعانى من ملل شديد، وأنا وحدى فى شقة أتقاسمها مع أحد الأصدقاء، وبينما أطارد حالة زهق عابرة فتشت فى الكتب الموجودة لديه.. وعلى غير موعد أو ترتيب وجدتها.
إنها رواية «مسافة فى عقل رجل» مصورة ومغلفة بغلاف بلاستيك.
قلت لأول وهلة: يا قدر الله.. هذه هى إذن الرواية الملعونة التى سجنت صاحبها، سمعت عنها دون أن أقرأها، فقد ظلت بعد سجنه مطاردة، لم يجرؤ أى ناشر على طباعتها مرة ثانية، إذ من الذى يمكن أن يفعل ذلك بعد أن تسببت فى سجن موزعها الحاج محمد مدبولى أكبر ناشر فى مصر.
منيت نفسى بليلة مثيرة، فتحت صفحات الرواية، ولم أشعر بنفسى إلا وأنا أنتهى منها مع ساعات الصباح الأولى.
أخذنى علاء حامد كاتب الرواية أخذًا كاملًا من الإهداء ثم المقدمة التى كتبها لروايته.
أهدى علاء حامد روايته إلى: كل من أحبنى وأحببته، ما أتمناه ألا يتحول هذا الحب إلى غضب، فما كتبته ليس سوى قصة امتزج فيها فيض الخيال بنبض الفكر.
وفى المقدمة يسأل نفسه: من أنا؟
ويجيب: أنا اسم فى قوائم المنتظرين، مسلم بالميراث، لو ولدت من صلب ملحد لأصبحت مثله، فلا اختيار للإنسان فى مولده ولا فى دينه، قد يكون أبوه من أسافل القوم أو أعاليها، وقد تكون أمه عاهرة أو فاضلة، وقد يولد لأب مجوسى وأم هندوسية، أمور كلها لا اختيار له فيها، تمامًا كالتصاق الصفات الوراثية بالجنين والتى لا يد له فيها، فالإنسان لا يختار عقيدته وقت ولادته، ليس لانعدام الاختيار لديه، بل لانتقاصه، ذلك أنه فى لحظة ولادته لم تكن وسائل الاختيار لديه قد اكتملت من إدراك ومعرفة، وحتى بعد أن يصل الإنسان لمرحلة الإدراك والمعرفة والتمييز نادرًا ما يفكر فى تغيير عقيدته، لأنه حتى نكفل له مثل هذا الحق لا بد أن تكون البدائل لديه مفهومة ومعروفة، يستطيع من خلالها أن يوازن بين الأمور لينحاز فى النهاية لأى من العقائد، وهذا نادرًا ما يحدث، ثم لماذا يغير الإنسان عقيدته وقد فقد اهتمامه بالدين كمنهاج فى الحياة؟
وباقتحام لا تردد فيه، يقول علاء: بدأت الأديان تتقلص تقلصًا سريعًا عن كثير من البلدان، حتى إنه لم يعد يدين بالأديان سوى ثلث سكان العالم، أى أن ثلثى سكان العالم حسب أحدث نظرية فقهية عن النار مآلهم جهنم خالدين فيها أبدًا، وحتى فى مساحة الثلث لم يتبق من الدين فى غالب الأحوال سوى ملء فراغ كلمة الديانة بالبطاقة أو جواز السفر، وهذا ما حدا بكثير من العقلانيين التساؤل عن جدوى الأديان.
كان ما قاله علاء حامد لافتًا بالنسبة لى، فقد عاد ليسأل: ثم ماذا نحن؟
وأسمعه يجيب: هل نحن صورة مهزوزة لعالم آخر؟ صورة تليفزيونية أبطالها الحقيقيون يعيشون فى مكان آخر فى زمن آخر، أم نحن نمثل أدوارًا أرادها لنا مؤلف بارع يحرك الكاميرا لنظهر على الشاشة؟ شاشة الحياة فى أدوار مرسومة صورًا متعاقبة، متوائمة متنافرة، وبالتالى لسنا سوى مجموعة من الممثلين، منا الفقير والأمير، الحقير والصعلوك، وابن الزانية، نمثل الدور كما رُسم لنا، فإذا خرجنا عن النص زعق المؤلف وضرب الأرض بقدمه فتزلزل الأرض ويخرج الجحيم من البراكين أو تنهمر السيول وتقوم القيامة، أم أننا الحقيقة فى تجوالنا، نقاشنا، حركتنا، عملنا، تمثيلنا، حبنا، كرهنا، حسدنا، سعادتنا، نحن الحقيقة، وما عدانا هو الوهم، نحن الحقيقة والحقيقة نحن، وطالما أن الله حقيقة، فلسنا سوى الله، الأمطار دموعه، والريح زفرته، والغضب براكينه، والعلم عقله، والإنسان وسيلته، والسلطان رغبته، والكون سلوته؟ وإذا كان الله والإنسان واحدًا لا يتجزأ، فلماذا يعجز الإنسان عن المعرفة الكلية؟
ويصف علاء روايته بأنها: محاولة لفهم الحقيقة التى عجزت عنها بفكرى المحدود، استعنت فيها بمصباح غمرنى بضوء معرفته، وأخذ بيدى من بيداء الجهل إلى واحة المعرفة التى لا حدود لها، أرتشف من نبعها ثمانى سنوات، ثمانى سنوات وأنا عاكف أدوّن كتابى، ثمانى سنوات من القلق والتردد والمعاناة والحيرة، والصراع مع النفس ومع فكر الآخرين، ثمانى سنوات سهرت فيها الليالى أرعى البذرة أرويها بالجهد والعرق والدموع واليقين، حتى أنبتت هذا النبت، تلك الرواية التى أضعها بين يدى القارئ.
لم أكن أعرف شيئًا عن علاء حامد.
لكننى بعد أن قرأت الرواية شعرت بخوف شديد، شعرت أن الغرفة التى أعيش فيها تكاد تحترق من وطأة جرأة ما قرأت، وتخيلته إما أحمق تمامًا، أو أنه كاتب جرىء وشجاع، كتب ما كتب وهو يعرف أنه لن يسلم من سهام حراس الأديان، وهو ما جرى له.
أغلقت الرواية، فقابلنى ما كتبه على غلافها الخلفى.
كتب علاء: أنا واحد من كُتاب القصة العماليق الصعاليك، أعيش فى عصر التعاويذ والملائكة والشيطان، فى زمن بات الإنس أشياء ماتت فيهم نبضة الأحياء.
ويكشف عما فعله، يقول: بدأت رحلتى نحو الحقيقة فى كتابى هذا منذ ثمانى سنوات تحت عنوان «محاكمة الإله» قبل أن أعنونه بـ«مسافة فى عقل رجل»، فكنت كفراشة تحوم حول ضوء قتّال.
ويزيد فى الحديث عن نفسه: الناس تصدق ما أكتب رغم أننا فى عصر الأكاذيب، لن أدعى المعجزة أو الوحى أو النبوة بما خطّ قلمى، لأن عصرى ليس عصر الأنبياء، لكنها صرخة يدونها التاريخ لى أشهدها فى الخليقة، إنه عصر التماليك والمحاذير، أطلق كاتب صرخة قبل ميلاده بمائة عام وربما أكثر، يمزق بها عن الحقيقة سربال الخرافة لتظهر أمام الأعين سافرة بكل دقائقها وأسرارها، أملى بعدها أن تتحطم سفين الأوهام، أن تختفى أشباح النهار، أن تتساقط الدمى المرتجفة على قارعة الطريق لتفرد مكانًا للعماليق الصعاليك.
لكن هل حدث ما تمنى علاء؟
أعتقد أننا يجب أن نبحث عما جرى لنحاول الإجابة على هذا السؤال، وهى محاولة تعيدنا بالزمن إلى ٢٥ ديسمبر ١٩٩١.
ففى ترقب قلق وانتظار لما ستعلنه محكمة أمن الدولة الجزئية طوارئ، حبس الوسط الثقافى أنفاسه على أمل ألا ندخل نفقًا مظلمًا بالحكم على كاتب بالسجن.
خابت التوقعات جميعها.
المحكمة تعلن حكمها بحبس الكاتب علاء حامد مؤلف رواية «مسافة فى عقل رجل» ٨ سنوات وغرامة قدرها ٢٥٠٠ جنيه.
لم يكن علاء وحده هو ضحية روايته، فقد أصدرت المحكمة حكمها بحبس فتحى فضل صاحب المطبعة التى طبعتها، والحاج محمد مدبولى الناشر الكبير الذى قام بتوزيعها.
الرواية الملعونة كانت قد صدرت فى العام ١٩٨٨، أى قبل ثلاث سنوات تقريبًا من الحكم على صاحبها، وكان يمكن ألا يذكرها أحد لا بخير ولا بشر مثل أعمال علاء حامد السابقة، لكن للأقدار تصاريف لا يعلم بحكمها ولا حكمتها إلا الله.
كان علاء حامد يعمل مديرًا للتفتيش بالإدارة العامة للجان الطعن بمصلحة الضرائب بوزارة المالية، لكنه كان يميل إلى الكتابة الأدبية، فقد صدرت له قبل روايته «مسافة فى عقل رجل» عدة روايات هى: «حائط الوهم» و«رجل داخل مثلث» و«الحقيقة الضائعة» و«طربوش الزعيم» و«اثنان فى حجرة مغلقة» و «على جناح طائر» و«بصمات فوق الماء» و«الساق المستحيلة»، وأعلن أنه لديه روايات تحت الطبع هى: «الفراش» و«المحجبة تحب البطاطا» و«اغتصاب الآنسة رجاء» و«الأبناء يدفعون الثمن» و«الرئيس فى المنفى».
أورثت حالة الرفض التى لاقى الوسط الأدبى بها علاء حامد حالة من الفوقية والتعالى عليهم
رغم أعمال علاء حامد الأدبية الكثيرة، إلا أن الوسط الثقافى المصرى لم يكن يعرفه أو يرحب به، ولم يلتفت إليه من الأساس، بل لم يعتبره أحدًا أديبًا له قيمة، بل تعاملوا معه على أنه يتطفل بأعماله الضعيفة المفككة على موائد الأوساط الأدبية، بل كانوا يعتبرونه دخيلًا، إذ كيف لموظف الضرائب أن يعتقد أنه يمكن أن يكون أديبًا مرموقًا، وعندما دافعوا عنه، فعلوا ذلك ليس لأنه يستحق الدفاع عن أدبه الذى اعتبروه مهلهلًا، ولكن من باب الدفاع عن حرية الرأى والتعبير.. وليس أكثر من ذلك.
أورثت حالة الرفض التى لاقى الوسط الأدبى بها علاء حامد حالة من الفوقية والتعالى عليهم، فهم يرفضونه - كما يعتقد - لأنه يهدد عروشهم، ويمكن أن ينتزع منهم الصدارة، وقد جعله ذلك يتعامل مع نفسه تعاملًا خاصًا، فيه إمعان فى التقدير لذاته الأدبية، واعتقاد بأنه يستحق الحصول على جائزة نوبل.
ترجم علاء حامد هذا الاعتقاد إلى إجراء على الأرض، فبعد صدور روايته «مسافة فى عقل رجل» بقليل، وخلال العام ١٩٨٨ أرسل إلى وزير الثقافة وقتها الفنان فاروق حسنى رسالة يطالبه فيها بأن يرشحه للحصول على جائزة نوبل، وهو الطلب الذى لم يلتفت إليه فاروق حسنى، بل أهمله تمامًا، وهو ما زاد الغصّة فى حلق الكاتب الذى لم يكن يعرفه أحد.
بعد سنوات عاشها علاء حامد فى الظل، خرج إلى النور ليس بفضل أعماله الأدبية، ولكن بسبب مذكرة تقدمت بها زميلته فى العمل وفاء أحمد عبدالعزيز.
بعد ما يزيد على عام من صدور الرواية وفى نهايات العام ١٩٨٩ حدث أن تجاوز علاء فى حق زميلته وفاء وتعدى عليها لفظيًا فى مكتبها، فما كان منها إلا أن تقدمت بشكوى إلى النيابة الإدارية تضررت فيها من اضطهاد رئيسها فى العمل علاء حامد.
كان يمكن أن تتنهى الشكوى بتحقيق فى النيابة الإدارية يحصل بعده علاء على جزاء إدارى، كما يحدث فى مثل هذه النزاعات الإدارية، لكن وفاء كشفت الغطاء عما يقوم به علاء فى أعماله الأدبية.
فى شكواها إلى النيابة الإدارية ذكرت وفاء أن علاء حامد ألف كتابًا مخالفًا للأديان بعنوان «مسافة فى عقل رجل» يقع فى ٢٣٩ صفحة يتم توزيعه منذ فترة طويلة، وأرفقت نسخة من الكتاب إلى النيابة الإدارية.
جلس علاء حامد أمام المحقق بالنيابة الإدارية، وبعد أن أنهى معه الحديث عن شكوى وفاء وتجاوزه فى حقها واضطهاده لها، بدأ يحدثه عن كتابه.
رد علاء طبقًا للتحقيق أن الدستور يكفل له حرية العقيدة والفكر، وأنه معتمد كمؤلف درامى بالإذاعة منذ عام ١٩٨٠، بجانب عمله بالضرائب، وأنه يقوم بكتابة أعمال تليفزيونية لبعض الدول العربية.
تقرير مجمع البحوث قال إن الكتاب ينكر الأديان بصفة عامة ثم ينكر العقائد الدينية وينكر الإله
لم تضيع النيابة الإدارية وقتها فى مناقشة علاء حامد فى أفكاره، لجأت إلى الإجراء الطبيعى.
بعد أن وصلت نتيجة التحقيق إلى رئيس النيابة الإدارية وقتها المستشار رفعت عبدالمنعم إبراهيم قرر إرسال الكتاب إلى مجمع البحوث الإسلامية للوقوف على رأى الدين فى الكتاب، وبعد أيام أرسل المجمع تقريرًا عن الكتاب قال فيه إن الكتاب يعد ترويجًا لأفكار تخريبية تنطوى على تحقير وازدراء الأديان والرسل والكتب السماوية ويحرض على الإلحاد والفساد، ولا تختلف أحكام الدين أو الأحكام القانونية فى تجريمه.
بأثر تقرير مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر قررت هيئة النيابة الإدارية إحالة علاء حامد إلى المحاكمة التأديبية للنظر فى فصله من العمل، وأرسلت بتوصية إلى اتحاد الإذاعة والتليفزيون بعدم التعامل معه منعًا لانتشار أفكاره المسمومة بين الجماهير، وزيادة فى الاحتراز حولت القضية إلى النيابة العامة التى حققت مع علاء وأمرت بحبسه.
كان طبيعيًا أن تتسرب حكاية كتاب علاء حامد إلى الصحافة، ففى رحلته من النيابة الإدارية إلى مجمع البحوث بالأزهر، ثم العودة إليها مرة أخرى وصولًا إلى النيابة العامة، كان قد عرف البعض بأمر الكتاب وبأمر كاتبه وبأمر ما جاء فيه، ومن بين هؤلاء كان الكاتب الصحفى أحمد بهجت، الذى حصل على نسخة من الكتاب، وبحسب ما قاله هاله ما وجده فيه.
فى زاويته اليومية بجريدة الأهرام والتى كانت تنشر فى الصفحة الثانية خصص أحمد بهجت مقاله فى ٣ مارس ١٩٩٠ لكتاب علاء حامد، وجاء ما كتبه تحريضًا واضحًا ومباشرًا ضد الكتاب وصاحبه.
كتب أحمد بهجت: ها هو سلمان رشدى آخر يظهر فى مصر، مؤلف روائى يزعم أن ما كتبه قصة امتزج فيها فيض الخيال بنبض الفكر، اسم الرواية «مسافة فى عقل رجل» أو «محاكمة الإله»، واسم المؤلف علاء حامد، وليس هناك اسم لدار النشر أو المطبعة.
ويضيف بهجت: فى الرواية إلحاد وتطاول على الذات الإلهية وسخرية من الأنبياء والرسل واستهزاء بالجنة والنار، وتكذيب صريح للكتب المُنزلة وهجوم عليها.
ويقدم بهجت فى مقاله توصيفًا كاملًا للرواية.
يقول: الكتاب يبدأ برحلة مؤلفه إلى الجنة، حيث يكتشف أنها جنة اللذة الحسية، وهو يقابل آدم فيسخر منه ومن خطيئته، ويقابل موسى ويأخذ عصاه ويضرب بها الجدول وهو يقول: جلا جلا جلا كالحواة، فلا الماء ينشق ولا العصا حية ولا ثعبان ولا سحلية، ويقابل نوح الذى جلس أمام حوض من الماء وقد صنع سفينة من الورق وراح يلعب بها فى الماء.
ويضيف بهجت: يلخص الكاتب هذيانه وهراءه فى نهاية الكتاب بقوله: إن الطقوس الدينية تبدأ من الوقوف على حائط لتنتهى بالدوران حول مبنى، وحتى لحظتنا هذه لم يتأكد للبشرية أن الله استجاب لدعوة إنسان أو أرسل إلى جائع مائدة طعام، أو أرسل إلى معدم مليون جنيه ذهبًا أو ورقًا، ولا حتى مليون جنيه صفيحًا، لم يتأكد للبشرية على مدى ملايين السنين ما قيل عن معجزات الأنبياء والرسل وأعاجيب السحرة وخوارق العفاريت، ولم يحدث فى عصر النهضة حدث واحد يؤكد ما سبق أن توارثناه من عقائد بالية وخرافات مهلهلة، فلماذا توقف بعث الأنبياء والرسل، لماذا لم تتكرر الخوارق ليرسل الله خروفًا مشويًا كما أرسل لإبراهيم؟ لماذا توقفت الذات العلية عن إيفاد ملائكتها وبعث الأنبياء، وقد أصبح الكفر سمة العصر، فالكثرة الغالبة لا تدين الآن إلا بالعلم، أما القلة القليلة التى تؤمن بالإيمان فهى فى الحضيض والوحل، لماذا لا يرسل الله إليهم رسله؟
وينقل بهجت إجابة علاء حامد على تساؤلاته من روايته: كل ذلك لسبب بسيط جدًا وهو أن الله لم يرسل فى وقت من الأوقات رُسلًا، ولن يفعل، فالرسل من صنع الناس، والإنسان الذى يؤمن بالغيبيات هو إنسان مريض على المجتمع أن يقيم له مصحة نفسية يعالج بها.
ويختم أحمد بهجت مقاله الذى كان مثل القنبلة بقوله: هذا بعض ما يضمه الكتاب من هذيان وتطاول على المقدسات، ولا علاقة للكتاب بالأدب أو الفن، إنما هو جريمة نضعها تحت نظر المجتمع والنيابة العامة.
لجأ أحمد بهجت فى مقاله إلى الحيلة المكشوفة، فهو يحرض ولا يحرض فى الوقت نفسه.
يقدم الكاتب وروايته على طبق من ذهب وجبة شهية ليلتهمها المجتمع، ثم يقول فى النهاية إنه يضعها تحت نظر النيابة العامة، ليبرئ نفسه من المطالبة بالمصادرة أو محاكمة الكاتب.
التقط رئيس النيابة الإدارية المستشار رفعت عبدالمنعم إبراهيم الخيط من أحمد بهجت، ولأنه سبق له وأن حقق مع مؤلف الرواية التى يتحدث عنها، فقد أرسل له خطابًا نُشر فى ٧ مارس ١٩٩٠.
جاء فى الخطاب: الأخ الفاضل العزيز الأستاذ أحمد بهجت.. اطلعنا على ما ورد ببابكم اليومى «صندوق الدنيا» تحت عنوان «سلمان رشدى آخر»، ونود الإحاطة أنه بمناسبة التحقيق الذى أجرته النيابة الإدارية مع السيد علاء حامد فى إحدى القضايا التى أثيرت واقعة تأليفه كتابًا بعنوان «مسافة فى عقل رجل» تضمن مساسًا شديدًا بالمعتقدات الأساسية للمجتمع، وعلى وجه الخصوص تلك المتصلة بذات الله سبحانه وتعالى، وبالأديان السماوية وبالرسل والأنبياء والبعث واليوم الآخر، ما يعد خروجًا على النظام العام للدولة، وتحريضًا على الإلحاد والانحلال، الأمر الذى يشكل ذنبًا تأديبيًا قوامه الإخلال الخطير بواجبات الوظيفة والخروج على مقتضياتها وينطوى فى ذات الوقت على جريمة عامة.
ويكشف رئيس النيابة الإدارية بعضًا مما جرى.
يقول: لم تشأ النيابة الإدارية أن تستقل بتقدير مدى خطورة ما تضمنه الكتاب، فقامت فى ٣١ أكتوبر ١٩٨٩ بالكتابة إلى فضيلة الإمام الأكبر جاد الحق على جاد الحق شيح الأزهر للتنبيه بفحص الكتاب للوقوف على حكم الدين فيما ورد به، واتخاذ ما يلزم من إجراءات فى شأن النسخ المتداولة منه بالأسواق على ضوء ما ينتهى إليه الفحص وإرجاء البت فى مسئولية مؤلف الكتاب إلى ما بعد ورود تقرير شيخ الأزهر الذى لم يرد بعد.
لم يفلت أحمد بهجت الأمر من بين يديه، فقد كتب يتعجل تقرير الأزهر، معلقًا على خطاب رئيس النيابة الإدارية بقوله: هذا هو الخطاب الذى وصل إلىّ من المستشار رفعت عبدالمنعم إبراهيم، ونحن نرجو من شيخ الأزهر أن يسارع ببيان موقف الأزهر من كتاب ينطوى على خروج على النظام العام للدولة، وينطوى على خروج على الآداب العامة، وينطوى على دعوة للإلحاد والانحلال وهو كتاب متداول فى الأسواق.
دخل الأزهر بوضوح على خط الأزمة.
بعد مناشدة أحمد بهجت للإمام الأكبر أن يُصدر تقريره عن رواية علاء حامد، صرح الشيخ جاد الحق على جاد الحق بأنه أصدر قرارًا بتشكيل لجنة عليا من عدد من علماء مجمع البحوث الإسلامية لدراسة ما ورد بالكتاب، وأنه سيتخذ إجراء سريعًا عقب انتهاء اللجنة من دراسته وإعلان رأيها.
بعد أيام من هذا التصريح، وفى ٢١ مارس ١٩٩٠، نشرت الصحف ما جاء فى تقرير الأزهر عن «مسافة فى عقل رجل».
تقرير مجمع البحوث قال إن الكتاب ينكر الأديان بصفة عامة، ثم ينكر العقائد الدينية وينكر الإله ويكذب بالرسل ويزدريهم وينكر الكتب السماوية ويكذب بالإيمان بالقدر وبالبعث والحساب وبالجنة والنار، وبالجملة فهو ينكر العقائد الدينية ويزدرى رموزها وشخصياتها، ويسخر منها، ويدعو إلى قيام الهيئة الاجتماعية على نظام مادى بحت لا مكان فيه للروحانيات، أى أنه يدعو إلى هدم الأساس الاجتماعى لهذا الوطن وإلى تغييره.
حرص من أعد التقرير على تقديم عبارات وفقرات من الرواية لتأكيد وجهة نظره وموقفه منها، مثل:
«أنا مسلم بالميراث، لو ولدت من صلب ملحد لأصبحت مثله، فلا اختيار لمسلم فى دينه».
«لماذا يغير الإنسان عقيدته، وقد فقد اهتمامه بالدين كمنهاج فى الحياة؟».
«ما جدوى الأديان؟ وقد شدت الشرق إلى أحضان التخلف، وقد ارتفعت هامة شعوب لا تؤمن بالأديان لقمة الحضارة».
يقول التقرير: فى سخريته من العلماء بصفتهم رموزًا للعلم الدينى يقول المؤلف: وبالنسبة لأسيادنا المعلمين إخوان شمهورش، أصبح الدين فى حد ذاته هدفًا يجنون من ورائه ثمرات المال والشهرة والسلطة ومتع الحياة ما ظهر منها وما بطن.
ومن عباراته التى يبث بها الشك فى الدين- كما يرى التقرير- قوله: أم أن تلك الرسالات ليست سوى صيغ آمن بها أصحابها، ثم تداولوها بدعوى أنها إلهية؟ وعلى هذا فتصبح صلة الرسل بالله صلة افتراضية لا تدعمها حقيقة ولا يسندها برهان.
وفى إنكاره وتعريضه وسخريته من الإسلام والمسيحية، كما يرصد التقرير قوله: عقيدة ترتبط بفكرة الخلاص والزهد والتثليث، والأخرى ترتبط بفكرة الجنة التى شغف الناس بالاستشهاد من أجلها والنار التى وقودها الناس والحجارة.
ويقدم التقرير دليلًا- من وجهة نظره- على دعوة علاء حامد إلى ترك الفضائل التى دعت إليها الأديان، وذلك فى قوله: لقد باتت أخلاقيات العصر عامة والشرق خاصة فى حاجة إلى مراجعة شاملة، إلى تقييم جديد يضع الأمور فى نصابها نقوم بموجب هذا التقييم إلى إعادة تبويب العلاقات الإنسانية، الحلال.. والحرام تبويبًا يتأسس على أسس عصرية، لا على ما توارثناه من تركة مثقلة بالخرافات والخزعبلات.
وينكر علاء حامد الله كما يرى التقرير عندما يقول: نحن الحقيقة وما عدانا وهم، نحن الحقيقة والحقيقة نحن، وطالما أن الله حقيقة فلسنا سوى الله.
وبوضوح يقول التقرير: هذا الكتاب لا يحتاج إلى تفنيد أو رد أو تعليق، ذلك أنه هاجم العقائد وأنكر الأديان والرسل والكتب السماوية، وأن المؤلف قد قصد بكتابه هذا وما يحمله من آراء متطرفة هدامة إثارة الفتنة وتحقير وازدراء الأديان السماوية وأنبيائها، وبخاصة دين الإسلام وكذلك الطوائف المنتمية لهذا الدين ولغيره من الأديان، ثم دعا إلى ما يؤدى إلى الإضرار بالوحدة الوطنية والسلام الاجتماعى.
وقد اعتدى المؤلف على الأصول الدينية، فاتجه إليها بالنقض والازدراء، واعتدى على القرآن الكريم، وادعى أنه من صنع البشر، وتناول بالازدراء والتهكم النبى محمدًا صلى الله عليه وسلم، وكذلك تهكم بالرموز الإسلامية من علماء وشعائر وعقائد، فضلًا عن تهديده السلام والأمن الاجتماعى.
ختم مجمع البحوث تقريره بالمطالبة بمعاقبة المؤلف طبقًا لأحكام قانون العقوبات المصرى، الذى يحرم هذا التصرف، فالمادة ١٦١ من قانون العقوبات تتصدى لمثل هذا العمل حفاظًا على الأديان وعلى سلامة وأمن المجتمع.
لم يصمت علاء حامد، ففى مواجهة تقرير الأزهر كتب تقريرًا مفصلًا يرد به على ما ذهب إليه مجمع البحوث الإسلامية فيما يخص روايته، وهو التقرير الذى تضمنته أوراق تحقيقات النيابة العامة معه ونشرته الصحف بعد ذلك.
يقول علاء: بقراءة التقرير وبالرجوع إلى نص الرواية، نجد أن كاتب التقرير قام متعمدًا بالتزوير بتغيير لفظ أو عدة ألفاظ أو بإسقاط عبارات من سياق الموضوع أو باستخراج معنى مخالف تمامًا لقصد المؤلف بالاستنباط أو القياس الفاسد، وذلك بقصد الإضرار بالمؤلف، وعمومًا فتحريك مثل هذا الاتهام ضد مؤلف روائى يحمل دلائل كثيرة منها الهوة الثقافية التى انحدرنا إليها والردة الحضارية التى نهوى إليها، وأن براءة المؤلف هى فى الحقيقة مكسب للقضاء والفكر والحضارة والتحضر، كما أن الإصرار على عدم الإفراج عن المؤلف وتجديد حبسه أكثر من تسعين يومًا فى الحقيقة إدانة خفية للمؤلف غير معلنة، نتيجة للحملة المنظمة فى صحف الجمهورية والأخبار واللواء الإسلامى والأهرام، ونتيجة انزواء الفكر المستنير للتصدى لقضية القبض على مؤلف روائى.
علاء يعتبر أن روايته ليست سوى عرض لمبادئ حضارة مادية متقدمة عمرها بعد ثلاثة آلاف عام
تحدث علاء عن روايته، فهو يعتبر أنها ليست سوى عرض لمبادئ حضارة مادية متقدمة عمرها بعد ثلاثة آلاف عام من كتابة الرواية، وهى تصور لمجتمع يكمل حضارة الإنسان ومجتمع آخر أصابه الخراب والدمار؛ نتيجة قيام الحرب العالمية الثالثة من خلال بطل القصة الذى ينطلق فى سفينة فضائية لكوكب أورانوس فى رحلة استغرقت منه ثلاثة آلاف عام يعود بعدها إلى الأرض ليجد أن الحرب العالمية الثالثة قد قضت على كل ما فيها من حياة ما عدا فئة قليلة تقطن إحدى البقاع على هذه الأرض، فئة تخلفت تمامًا عن ركب الحضارة، وبعد أن يعثر البطل على النفق الذى انتهى إلى مدينة فضّل أهلها قبل قيام الحرب العالمية الثالثة أن يهجروا الأرض إلى باطنها يكملوا حضارة ملايين السنين يعود إلى قومه ومعه كتاب التنوير أساس الحضارة المادية لهذه المدينة، لكنه يفاجأ برجال الدين وهم يقبضون عليه ويحاكمونه، فمحور الصراع فى القصة بين الحضارة والتخلف، بين التقدم والبدائية، يمثل أحد قطبى الصراع رجال الدين بما يحملون من تخلف، ويمثل القطب الآخر بطل القصة وحضارة المدينة الفاضلة، وينتهى الصراع بالحكم على البطل بالإعدام، إلا أن المطر يوقف تنفيذ الحكم وهو يطفئ النار.
وفى رده يقول علاء حامد: إن ما أثار حفيظة رجال الدين أن بطل القصة كان يعتبر رجال الدين أحد أسباب التخلف والانطوائية والحقيقة، وأنهم بهذا التقرير يمثلون قمة التخلف والرجعية والانطوائية والخجل أمام الشعوب المتقدمة.
فى محاولة دفاعه عن نفسه والتأكيد أن تقرير الأزهر اقتطع عباراته من سياقها، يقول علاء: التقرير يقول من أمثلة سخريته بالجنة قال «أى جنة هذه التى يقطنها مجموعة من المرضى»، ونستطيع أن نفهم ما يعنيه البطل بعد قراءة السطور التالية التى يقول فيها: أى جنة التى يقطنها مجموعة من المرضى يتناثرون كالأشلاء لا هدف لهم ولا غاية، تحركاتهم غريبة يأكلون ويشربون وينامون، يتعذبون ويتحركون فى صمت بلا غضب ولا حزن ولا ابتسامة، يروحون ويجيئون فى خطوات متشابهة مرسومة كأنهم مربوطون بخيوط خفية فى يد مدبرة تحركهم كما تشاء، تفرض عليهم سلطانها وقدراتها، وما هم إلا أشياء تملى عليهم الحركة والكلمة.
ويضيف علاء: «كلمات وردت فى هذا النص تنفى عن هؤلاء القوم صفة أهل الجنة» يتعذبون.. فهل أهل الجنة يتعذبون؟ مرضى.. فهل أصحاب الجنة مرضى؟ فالجنة التى قصدها المؤلف فى روايته لم تكن سوى مكان على الأرض بعد قيام الحرب العالمية الثالثة، وما بقى فوق قشرتها ليس سوى وهم اسمه الجنة والخلود، والحقيقة محزنة مؤلمة، حقيقة تلك البقايا الآدمية الحيوانية التى استبقت الحياة لوقت غير معروف مداه نهاية البشرية.
ويقول التقرير إن علاء حامد يبث الشك فى معتقد الجنة، ويسخر منها ويعرض الحياة فيها فى صورة جنسية ساقطة، ثم يقول إنها مستنقع الرذيلة وجنة المسكرات.
ويرد علاء على ذلك بقوله: هذا إسفاف وتحريف وتزوير للأسباب التالية:
أولًا: بالنسبة للشك فى معتقد الجنة، فبطل القصة يشك فعلًا فى معتقد قومه أن ما يقطنونه هو الجنة، بعد أن بعثوا إليها، وما صلة هذا بمعتقد الجنة ذاته، إلا أن تكون الرغبة فى التحريف والتزوير والقياس الفاسد.
ثانيًا: بالنسبة لعرض الحياة فيها بصورة ساقطة، وهذا صحيح لأن الصورة الساقطة تتواءم مع ما رسمه المؤلف من أحداث، ورغم هذا فبطل القصة ينكر هذه الصورة وهو يقول غاضبًا: ليست جنة بل مستنقع للرذيلة، هل هذه هى الجنة؟ الرذيلة فى وضح النهار، ولكن ماذا تعنى كلمة الجنة فى الرواية بالنسبة لرجل الأزهر، ولماذا يصر على أن هذه الكلمة مقصود بها تلك الجنة التى وردت أوصافها فى الكتب السماوية.
وعندما يأخذ التقرير على علاء حامد وصفه للعلماء المسلمين بأنهم أصحاب خمر وشهوة، ويقول عنهم آفة تلك المجتمعات هى تلك الحثالة التى جعلت من الدين ستارًا تخفى خلفه كل الموبقات.
فإنه يرد على ذلك بقوله: رغم أن هذه العبارة تتصل بأحداث الرواية، إلا أنها حتى بعيدًا عن أحداث الرواية فهى عبارة لا غبار عليها، فالذين يجعلون من الدين ستارًا يخفون خلفه كل الموبقات هم فى الحقيقة حثالة.
لم يستسلم علاء حامد لتقرير الأزهر، دافع عما يعتقد أنه صحيح، لكن لم يكن لذلك أى صدى لدى من كتبوا التقرير، ولا عند من قرروا السير بمحاكمته حتى النهاية.
وجد علاء حامد من يدافع عنه ولكن على استحياء، كان من بينهم الكاتب الكبير والباحث أحمد صبحى منصور الذى كتب فى جريدة الأهالى فى ١ يناير ١٩٩٢، تعليقًا على ما قاله علاء بشأن تقرير مجمع البحوث الإسلامية عن روايته.
يقول منصور: إذا افترضنا حدوث إلحاد فى كتاب «مسافة فى عقل رجل» وقع فيه المؤلف علاء حامد، فإنه ليس بدعًا فى ذلك، وكتابه ليس أول كتاب يحوى ذلك، فقد سبقه على الطريق أئمة من كبار العلماء والأشياخ فى تاريخ المسلمين وكتبهم تنطق بذلك، والمضحك والمؤسف أن مجمع البحوث نفسه يدافع عن أولئك الأشياخ وعن كتبهم وأشعارهم، وأنه يتهم بالكفر من يناقش أولئك الأشياخ ومن يدعو إلى مراجعة كتبهم، ثم هو فى نفس الوقت يتصدى لمؤلف مغمور أصدر كتابا غير مقروء وغير معروف؛ لأنه قال ما لا يمكن مقارنته بأقاويل الأشياخ المقدسين.
ويختم أحمد صبحى منصور دراسته بقوله: لنتذكر أنه فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم العصر الذهبى للإسلام عاش الناس أروع فترة فى الحرية الفكرية والدينية، حيث لا إكراه فى الدين ولا مجمع بحوث، وكان ذلك منذ ١٤٠٠ عام، ومن المحزن أن تعود للظهور محاكم تفتيش فى مصر ونحن على أعتاب القرن الحادى والعشرين بعد أن انقرضت من أوروبا منذ ألف عام.
بفعل هذا الحراك ضد الكتاب من النيابة الإدارية والصحافة والأزهر، قررت النيابة العامة التى كانت قد بدأت تحقيقًا مع المؤلف مصادرة الكتاب، وبالفعل تمت مصادرة ٣٠٠ نسخة كانت معروضة للبيع فى المكتبات، هذا غير ٤٠٠ نسحة قيل وقتها إنها كانت معدة لتهريبها للبيع فى المحافظات.
حتى هذه اللحظة لم يكن علاء حامد قد تحدث، فقد حرصت الصحف المصرية على أن تحشد الآراء ضده، وتجاهله تمامًا.
لكن فى ٢٦ مارس ١٩٩٠ نشرت جريدة «السياسة الكويتية» تحقيقًا مطولًا عن الأزمة، وسمحت لحامد أن يتحدث، وأبرزت قوله إن الجميع يتحاملون عليه فى مصر، وإنه ليس جديدًا فى الأوساط الأدبية، بل له عدد من الروايات التى يعرفها كبار الأدباء والنقاد فى مصر.
وكان علاء قد فوجئ وهو داخل محبسه فى سجن طرة بفتوى صدرت من الشيخ عمر عبدالرحمن مفتى الجماعات الإسلامية والناطق بلسان تنظيم الجهاد بقتل هذا الشيطان وحرق كل مطبوعاته، وعلى الفور سارعت أجهزة الأمن إلى تعيين حراسة مشددة على منزله فى منطقة منيل الروضة، وكذلك خصصت حراسة على مكتبة مدبولى فى ميدان طلعت حرب.
التحقيقات فى النيابة العامة قادت علاء حامد إلى المحاكمة التى أحيل إليها أمام محكمة أمن الدولة الجزئية طوارئ فى ٣٠ أبريل ١٩٩٠.
فقد أمر المستشار محمود يونس المحامى العام لجنوب القاهرة بإحالة المؤلف علاء حامد إلى محكمة أمن الدولة الجزيئة، وكان المتهم قد قام بتأليف رواية «مسافة فى عقل رجل»، وطالب الأزهر الشريف بمصادرتها ومحاكمة مؤلفها لسخريتها بأنبياء الله وكتبه السماوية، وأدانته نيابة مصر القديمة فى التحقيقات التى أجراها أحمد صلاح وكيل النيابة تحت إشراف جمال عبداللاه رئيس النيابة.
فودة: شهادتى حول حرية الكاتب فى الاعتقاد وفى إبداء الرأى وفقًا لما يكفل الدستور ومواثيق حقوق الإنسان والعقيدة الإسلامية
وفى المحكمة وقف المحامى الشهير نبيل الهلالى ليقول: إن مؤلف الرواية ينفرد عن كل المتهمين ظلما فى مصر بالتطاول على الأديان والإلحاد بالوقوف فى قفص الاتهام وبتحريك الدعوى العمومية ضده، وبمطالبة النيابة العمومية بمعاقبته جنائيا لا لشىء إلا أن بعض المتهوسين والمتزمتين أثاروا ضجة حول الكتاب، فإذا بالدولة التى تدعى محاربة التعصب والتطرف الدينى تخضع للابتزاز وتمارس منهج التكفير ضد المفكرين والمبدعين، ومن المضحك أن الكتاب موضوع الدعوى صدر عام ١٩٨٨ وأودع فى هيئة الكتاب لإيداعه فى دار الكتب المصرية فى ١١ أبريل ١٩٨٨، وطرح فى الأسواق منذ بداية العام ١٩٨٨، وتم طبعه فى مصر حيث لا يطبع إلا بعد إجازته من الرقابة الخفية التى تفرضها مباحث أمن الدولة على المطبوعات، كما أن مؤسسة مملوكة للدولة هى التى قامت بتوزيعه وتسويقه تحت سمع وبصر أجهزة الأمن.
وفى قاعة المحكمة وجد علاء حامد أيضًا من يشهد فى صالحه، وهنا يظهر دور مهم وحقيقى للكاتب الشهيد فرج فودة والكاتبة الكبيرة نوال السعداوى، حيث تطوعا للشهادة معه فى المحكمة دون أن يطلب منهما أحد ذلك.
فى المحكمة دارت هذه الحوارات، ولن أقول التحقيقات.
الحوار الأول كان مع فرج فودة، وتم على النحو التالى:
المحكمة: ما علاقتك بعلاء حامد؟
فودة: لا توجد علاقة بينى وبينه، وأنا لم أقابله من قبل.
المحكمة: على ماذا تشهد؟
فودة: شهادتى حول حرية الكاتب فى الاعتقاد، وفى إبداء الرأى وفقًا لما يكفل الدستور ومواثيق حقوق الإنسان والعقيدة الإسلامية ذاتها.
المحكمة: هل اطلعت على الكتاب المذكور؟
فودة: نقل لى صديق مضمون الكتاب مؤخرًا، كما أننى قرأت فى الصحف القومية متابعة الموضوع، ولم أقرأ الكتاب حتى اليوم.
المحكمة: ما قولك فيما جاء بتقرير مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر عن كتاب «مسافة فى عقل رجل»؟
فودة: قرأت هذا التقرير وأنا فى طريقى إلى التحقيق وحزنت جدًا لضياع أموال المسلمين وجهد علماء المسلمين فيما جاء فى التقرير، والقراءة السريعة للقرآن الكريم تؤكد أن أكثر من هذه الاتهامات إن صحت قد حدث فى حق الرسول والدين الإسلامى، ولا يوجد نص قرآنى يحرم ذلك فى الدنيا، فكل النصوص تحيل العقاب إلى يوم القيامة أو الآخرة، وسوف أقدم تقريرًا عن رأيى فيما يسمى بجريمة الردة، ولكننى أذكر أن ما ورد فى تقرير الأزهر باستثناء احتقار الدين إن صح لا يدخل تحت جريمة ازدراء الأديان، وهناك فرق بين الاحتقار والازدراء.
المحكمة: وما دليك على ذلك؟
فودة: دليلى على ذلك أن غير المسلمين مثل النصارى واليهود ينكرون بداهة الدين الإسلامى.. فهل إنكارهم يعد جريمة؟ أما بالنسبة للازدراء المشار إليه إن صح، فإنه واضح من تقرير الأزهر أن الكاتب يروى خيالًا، ويقصد حلمًا، وأن مسألة تفسير بعض الخيال على أنه ازدراء للدين مسألة تقديرية، الواجب أن يرد عليها بالرأى وليس بالعقاب.
المحكمة: ما قولك فيما جاء فى تقرير مجمع البحوث الإسلامية عن الكتاب من انطوائه على عبارات تتضمن ازدراء للأديان والأنبياء بصفة عامة والدين الإسلامى بصفة خاصة؟
فودة: هناك عبارات لا يختلف عليها أحد، وأنا شخصيًا لا أختلف عليها من أنها لا تتنكر للدين ولا تزدريه.
كقوله: «أنا مسلم بالميراث، ولو ولدت من صلب ملحد لأصبحت ملحدًا، فلا اختيار للمسلم فى دينه»، فما ذكره المؤلف هو إقرار بحقيقة ومجرد رأى وليس فيه أى شبهة ازدراء.
وأيضًا قوله: ثم لماذا يغير الإنسان عقيدته، وقد فقد اهتمامه بالدين كمنهاج فى الحياة؟ فلو قال الأستاذ علاء أكثر من ذلك، بمعنى أنه لو قال: إنه هو نفسه فقد اهتمامه بالدين كمنهاج فى الحياة، فهذا الخوض فى تقديره ضمن حرية الاعتقاد المنصوص عليها فى الدستور، وهذا يعنى حرية الإيمان أو تغيير المذهب من شافعى إلى حنبلى.
وقوله: «ما جدوى الأديان وقد شدت الشرق إلى أحضان التخلف ورفعت هامة شعوب لا تؤمن بالأديان؟ هذا فى تقديرى مجرد رأى كان يجب على المدافعين عن الدين أن يردوا عليه بما هو أجدى للأديان، وتفسير كيفية ارتفاع هامة الشعوب التى لا تؤمن بالأديان إلى قمة الحضارة».
ثم قوله: «انقلب الحال فأصبح الدين سبة فى تواريخ الشعوب»، واضح هنا أنه يتكلم عن الدين على إطلاقه، ومعلوم أن هناك أديانًا سماوية وأخرى غير سماوية، والقصد فى العبارة غير واضح، وفى كل الأحوال هو تساؤل يضاف إلى التساؤل السابق ورأى يجب ويمكن الرد عليه.
ثم تساؤله «وهل يعنى ذلك أنه يجب وضع الدين فى إطاره الصحيح، وهو علاقة الإنسان بربه فقط»، هذا فى تقديرى تساؤل مشروع ويدخل ضمن الخلاف السياسى، وليس الدين؛ لأن البعض يرى أن الإسلام دين فقط، والبعض يرى أنه دين ودولة، وفى النهاية هو مجرد تساؤل وليس ازدراء.
أما ما قيل عن سخريته من العلماء مع التعسف فى التفسير، وذلك بمقولة «إخوان شمهورش»، والمقصود هنا علماء الدين، فمن قال هنا إن التفسير صحيح؟ ومن قال إن لعلماء الدين حصانة ضد النقد وحتى السخرية؟ ومن قال إن الهجوم على علماء الدين يعنى الهجوم على الدين؟ ومن قال إن ما ذكره الأستاذ علاء عن إخوان شمهورش لا ينطبق على بعض المتاجرين بالدين فى حد ذاته يجنون من ورائه ثمرات المال والسلطة.
أما العبارات التى وردت فى التقرير تفيد التشكيك إن صح، فهذا ليس تشكيكًا، وهو ليس أكثر من تساؤلات فلسفية، وحتى لو قال ذلك بأدب ولباقة، فهل يعد هذا ازدراء وإنكارًا؟
لو ذكر الأمر بصيغة الإثبات، وليس بصيغة التساؤل، لكان هذا إنكارًا للدين، ولكن هذا أمر يدخل ضمن حرية الاعتقاد وحرية الفكر، وإذا كان هناك من يكتب مجلدًا، فهناك الآلاف ممن يردون عليه ويؤكدون الإيمان.
أما حديثه الذى فيه الشك فى ماديات الجنة من الحور العين، فهو تساؤل فلسفى مشروع انساق فيه إلى ظاهر النص، كما يعتقد بعض العلماء وإن كان هناك تفسير آخر للجنة والنار يتجاوز نص الألفاظ وظاهر العبارات إلى المعانى الروحية.
وقوله «نحن الحقيقة والحقيقة نحن وما عدانا هو الوهم، وطالما أن الله هو الحقيقة فأنا الله، فهذا القول هو قول صوفى مأثور ومنقول عن الحلاج، وهو أحد الأئمة الصوفية، ومنه قوله «لا يوجد فى الجبة إلا الله».
وأما قوله «لقد عجزت الأديان عن تفسير علمى» فهو يعبر عن شك فى الأديان دون تحديد ما هو المقصود من الأديان، هل دين سماوى أو غير سماوى، وواضح من التقرير أن كل ما يقال مجرد شكوك، والشك لغويًا هو حالة وسط بين القبول والرفض.
وأما قوله «أليس من حقنا أن نتساءل عن الرسل؟ من هم؟ وما هى هويتهم؟ فهو سؤال مشروع موجه إلى علماء الدين، الذين كان واجبهم أن يوضحوا له من هم الرسل.
ينهى فرج فودة حديثه إلى المحكمة بقوله: إننى لا أدافع عن علاء حامد، ولكن أدافع عن قيمة حرية العقيدة، التى أرى أنها مطلقة بغير حد، وحرية إبداء الرأى التى يجب أن تكون مكفولة بغير ضبط.
الحوار الثانى كان مع الدكتورة نوال السعداوى، وجرى على النحو التالى:
المحكمة: ما تعليقك على ما ورد فى تقرير مجمع البحوث الإسلامية فى شأن كتاب «مسافة فى عقل رجل»؟
نوال: لا أستطيع أن أرد على كل مقطع على حدة من هذه العبارات، وإنما من الممكن أن أتحدث عنها بشكل عام، فهى قضية خيالية لا تخضع لمقاييس العقل أو المنطق أو أى مقياس آخر، وهو أيضًا ليس كتابًا فلسفيًا أو دراسة فى الدين، ولكنه مجرد خيال فى خيال.
المحكمة: ما تعليقك إذن على ما ورد بتقرير مجمع البحوث من انطواء الكتاب على ازدراء للأديان والكتب السماوية بصفة عامة والرسل والأنبياء والمعتقدات الدينية والدين الإسلامى بصفة خاصة؟
المؤلف الروائى لا علاقة له بالشخصيات الخيالية التى يرسمها فى روايته وربما يكون مختلفًا معها فلسفيًا
نوال: أعتقد أن ما ورد فى التقرير هو عدم فهم، وسبب الاختلاف هو استخدام مقياس المنطق فى عمل عير منطقى وخيالى، فهذا هو سبب الاختلاف مثل استخدام مقياس الذهب لقياس الماء.
المحكمة: ما هى علاقتك بالمتهم؟
نوال: لم أره فى حياتى، وإننى أدافع عن حرية المعتقد وحرية الفكر.
المحكمة: هل لديك أقوال أخرى؟
نوال: أقول إن المؤلف الروائى لا علاقة له بالشخصيات الخيالية التى يرسمها فى روايته، وربما يكون مختلفًا معها فلسفيًا، ومثال ذلك أننى إذا كتبت عن امرأة سيئة السمعة فليس معنى ذلك أن الكاتب أو الكاتبة سيئا السمعة.
لم يشفع كل ما قيل دفاعًا عن علاء حامد له، صدر الحكم ضده.
ففى ٢٧ ديسمبر ١٩٩١ نشرت جريدة «الأهرام» خبر الحكم على المؤلف والناشر تحت عنوان: ٨ سنوات سجنًا لمؤلف وناشر كتاب «مسافة فى عقل رجل» لإساءته للأنبياء.
وكان نص الخبر: قضت محكمة أمن الدولة العليا طوارئ بالحكم بالسجن لمدة ٨ سنوات على كل من المؤلف علاء حامد مؤلف كتاب «مسافة فى عقل رجل» وصاحب مكتبة مدبولى باعتباره ناشر الكتاب، وكانت النيابة قد أحالت المتهمين للمحاكمة؛ نظرًا لما تضمنه الكتاب المنشور من إساءة للأنبياء والرسل.
بعد الحكم بدأت حلقة جديدة من الحوار حول القضية.
بدأ الحوار بالاعتراض على ما جرى، وظهرت على صفحات الصحف أسماء لها وزنها وقيمتها ترفض إدانة الكاتب دفاعًا عن حرية الرأى والتعبير.
الدكتور حسن حنفى، أستاذ الفلسفة الشهير بجامعة القاهرة قال: إن الفكر والأدب حق طبيعى للإنسان يكفله الدستور الذى يكفل حرية التعبير والاعتقاد والحركة حتى لو كان هناك خلاف فى الرأى حول عمل فكرى أو أدبى، فإن القضاء ليس هو السبيل لحل الخلاف، بل الرد على الفكر بالفكر، وتطبيق مقاييس النقد الفنى وحده كمعيار للأعمال الأدبية.
وكتب الناقد الكبير غالى شكرى: ليس هناك شىء فى الحياة فوق المساءلة، والثقافة والفكر والمفكرون كأى نشاط أو فئات يخضعون للمساءلة، ولكن المساءلة فى الأدب والثقافة لها عنوان محدد هو النقد وليس المحاكم، النقد هو الذى يميز بين المزيف والأصيل ويكشف العورات والثغرات ويحاكم الكاتب فى أكبر ساحة على الإطلاق، وهى ساحة جمهور القراء، وعقاب النقد والقراءة أجدى من أحكام المحاكم، لأن المحاكمة المعنوية أكثر مرارة وأعمق أثرًا، والنقد والحوار هو التراث الأصيل فى تاريخ مصر، وقد ردت على طه حسين والعقاد وسلامة موسى وتوفيق الحكيم ولويس عوض عشرات الكتب وآلاف الصفحات.
ويضيف شكرى: من حق الرأى العام أن يستقبل الحكم على علاء حامد ومحمد مدبولى بالتساؤل حول حقيقة موقعنا من المتغيرات العالمية الجديدة، وأبرزها ما يخص حقوق الإنسان ومناخ الإرهاب الذى يفرضه بعض الحركات على حرية الفكر، وعن الوعد القاطع بعدم استخدام قانون الطوارئ إلا فى مواجهة الإرهاب.
ويكتب لطفى الخولى معترضًا: إن تقديم الأديان السماوية وتوقيرها لا يعنى بأية حال استخدامها فى معايرة الفكر والإبداع، ولا يجب اتخاذ تأويل أو تفسير خاص من فرد أو جماعة لآيات الله وكأنه هو كلمة الله المنزلة، وليست المسألة فى قليل أو كثير مسألة بطولة تدق من حولها الطبول، وعندما نطالب من يملك الحق الدستورى فى إيقاف أو إلغاء حكم محكمة أمن الدولة فعليه أن يمارس هذا الحق، فالحرية الحقيقية ليست فى أن يعاقب كاتبًا أو ناشرًا، حتى مع افتراض صحة كل ما نسب إليهما من اتهامات، من جهة لها وزنها واحترامها.
وفى مواجهة واضحة يقول الشاعر أحمد عبدالمعطى حجازى: هذه النتيجة المأساوية التى انتهت إليها قضية الكاتب علاء حامد أفزعت المثقفين المصريين وزلزلت أساسًا مكينًا من الأسس التى كنا نركن إليها، وكنا نعتمد عليها، وتبنى آمالًا كبارًا فى مستقبل تسترد فيه الثقافة المصرية حيويتها وعافيتها وقدرتها على النهوض بنفسها وبالبلاد.
ويضيف حجازى: لقد رأينا من قبل أناسًا يتهمون طه حسين والعقاد والحكيم ويوسف إدريس ونجيب محفوظ فى عقائدهم، بل لقد ظهر من يتهم الإمام محمد عبده نفسه فى عقيدته، فإذا أعطينا هواة الطعن فى العقيدة السابقة لم ينج كاتب مصرى من التهمة، فإما سكتت الأقلام، وإما زج بأصحابها فى السجون.
ويطرح الناقد الكبير سامى خشبة القضية من زاوية مختلفة، يقول: لماذا الاستسلام لفخاخ أعداء حريتنا الحقيقية وأعداء مكانتنا فى العالم المتحضر، الذين يريدون أن يصورونا نحن كآخر معاقل التفتيش غير الجديرين بحقنا وسط الأسرة الدولية الحرة، أو الذين يريدون أن يرغمونا على أن نعود إلى قروننا الوسطى؟
ويكتب يوسف القعيد معلقًا على الحكم فى مجلة المصور فى ٣ يناير ١٩٩٢ يقول: منذ صدور الحكم وفى أوساط المثقفين حالة من الصدمة تصل إلى حد الهلع والرعب، لأنه فى كل القضايا المماثلة السابقة كان هناك اكتفاء بمصادرة العمل دون أى حكم ضد صاحبه أو طابعه أو ناشره.
ويقول: إننى لم أقرأ أيًا من أعمال علاء حامد حتى يكون لى رأى فيها، ولم أقابل كاتبًا اعترف بأنه قرأ أحد هذه الأعمال أو بعضها، ورغم متابعتى الدءوبة والمستمرة للواقع الثقافى المصرى والعربى منذ منتصف الستينيات حتى الآن، فلا أكاد أعرف هذا الرجل معرفة بالاسم أو الشخص ولم ألحظ أنه جزء من جماعة أو جيل أو اتجاه، ذلك أن الكتابة الأدبية ليست عملية معملية يغلق فيها الكاتب أبواب بيته عليه ويكتب ثم يطبع وينشر، لابد من التفاعل الحى والخلاق مع الواقع الثقافى.
ويدافع القعيد عن علاء حامد وروايته بقوله: ما خطورة رواية لم توزع خلال ٣ سنوات سوى ٨٩ نسخة فى بلد يسكنه ٥٥ مليون؟ وما هى الخطورة التى تمتلكها رواية ونحن أمامنا جبال من الأمية التى تزداد يومًا بعد يوم؟ ثم ما هى حكاية مجمع البحوث الإسلامية مع الكتب؟ إن وظيفة الأزهر طبقًا للقانون ١٠٣ لسنة ١٩٦٠ هى العمل على إظهار حقائق الإسلام فى مواجهة الآخرين، وليس من ضمن هذه الوظيفة تعقب الأعمال الأدبية ومصادرتها.
ويضيف القعيد: إن الإسلام نور وهداية، ومحاكم التفتيش اختراع أوروبى توجد الآن رغبة لدى البعض لكى يتم إلصاقها بالإسلام زورًا وبهتانًا، فمصر عرفت فى المنطقة فى السنوات الأخيرة بحرية فى التعبير غير مسبوقة، وديمقراطية نباهى بها بعد أن اكتشفنا أنه لم يعد لدينا شىء آخر نباهى به، إن المساس بحرية التعبير ومحاولة تعكير الجو الديمقراطى إساءة للنظام والحكم قبل أن تكون إساءة للشعب المصرى.
لم يكتف الكتاب والمثقفون بالكتابة والاعتراض عبر مقالاتهم.
ففى افتتاح معرض الكتاب خلال شهر يناير ١٩٩٢ التقى الرئيس مبارك بالمثقفين والمفكرين، وأثيرت خلال اللقاء قضية علاء حامد، وطالب بعض الكتاب، وعلى رأسهم لطفى الخولى وعبدالستار الطويلة، الرئيس بإلغاء الحكم القضائى الصادر ضده، بما له من صلاحيات دستورية تمكنه من ذلك.
قال مبارك: لا أستطيع إلغاء حكم قضائى لشخص أهان الدين، فالحفاظ على العقيدة شىء مقدس.
وأضاف: إن الحكم الذى صدر ضد الكاتب أصدره قاض، وإذا كان هناك من يقول اعفه من الحكم، أقول له: آسف.. لا نستطيع أن ننسى القانون، فقد أصدر القاضى الحكم، وإذا كان هناك خطأ فى القانون فسوف ننظره، وهناك جهات مسئولة عن ذلك، ولكن الإعفاء من الحكم مستحيل، ولا بد من احترام الأديان.
استفز ما فعله الخولى والطويلة من مطالبة الرئيس بإلغاء الحكم كبار الدعاة، وهو ما أثار عليهما هجومًا عنيفًا.
قاد الهجوم بشكل أساسى الشيخ الشعراوى، الذى طالب عبر تصريحات صحفية الأدباء والكتاب والفنانين باحترام الدين والمقدسات الدينية، ولفت نظرهم إلى أن الأديان يجب أن تكون بعيدة عن الاجتهادات الفكرية والتأويلات المتهافتة العشوائية.
وقال الشيخ: إن بعض الأدباء والكتاب انساقوا وراء المستشرقين ودعاة التغريب واتخذوا من الهجوم على الدين وسيلة للشهرة والحصول على الأموال بعد ظاهرة سلمان رشدى وآياته الشيطانية والشهرة التى نالها والأرباح التى حصل عليها.
الشيخ الشعراوى أشاد بحكم القضاء، وقال إنه جاء عادلًا ورادعًا حتى لا تنتشر فى بلادنا ظاهرة التهجم على الأديان ويصبح الدين كلأ مباحًا لكل من هب ودب، يهاجمه ويبدى فيه رأيه، ويجب أن يعرف الأدباء والكتاب والمفكرون أن الدين وحقائقه يجب أن يكون بعيدًا عن حرية الرأى والفكر، وأن العقل حر فى التفكير وإبداء الرأى فى الأمور الدنيوية التى يوجد فيها احتيار بين البدائل، أما الدين- أى دين سماوى- فله قدسيته التى يجب أن نصونها ونحافظ عليها.
على خطى الشيخ الشعراوى واصل الهجوم من ينتمون إلى المؤسسات والجماعات الدينية.
الدكتور محمد سيد طنطاوى وكان مفتيًا للديار المصرية وقتها، قال: القول بأن الإنسان حر فى أن يتكلم كما يشاء، فذلك فى حدود ما حددته العقائد والعبادات والقوانين التى نلتزم بطاعتها وعدم الخروج عليها.
وكتب عبدالمنعم قنديل، الذى كان رئيسًا لتحرير جريدة «اللواء الإسلامى» الصادرة عن الحزب الوطنى مهاجمًا من يدافعون عن علاء حامد، معتبرًا أنه كان شيئًا مخزيًا ومخجلًا ومثيرًا للتقزز أن يتصدى أناس للدفاع عن زنديق سب الرسل وتهكم على الأديان واحتقر المقدسات وتقاضى ثمن زندقته من أعداء الإسلام الذين عجزوا عن إطفاء نوره، فلجأوا إلى الملاحدة والزنادقة والشائهين فكريًا ليتخذوا منهم سلاحًا لطعن الدين الحنيف.
وبحسم يقول قنديل: وأنا لا أعجب من أناس ينكرون وجود الله ويتفزعون من رؤية المصحف أن يتصدوا للدفاع عن زنديق حلت عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
ويكتب محمد جلال كشك مقالًا فى جريدة «الأخبار» تحت عنوان «تسب الدين تأكل ملبن»، ويقارن بين ما حدث معه عندما أصدر كتابه «خواطر مسلم حول المسألة الجنسية» وما حدث مع علاء حامد.
يقول: حذار أن تصدق أنها غضبة لحرية الفكر ومصادرة الكلمة، فتغامر بالكتابة عن غير المطلوب، فيقع المعطوب، وما ينبئك مثل خبير، فقد حكم على واثنين من أولادى بالسجن فى قضية نشر كما كنت أظن، ولم يغضب قلم، بل لم تنشر جريدة واحدة الخبر، ولا أذاعه راديو لندن.
وفى اتهام واضح لمن يدافعون عن علاء حامد، يقول كشك: عرفت بعد استقراء التاريخ أن غضبتهم لحرية الفكر تشمل فقط من يسب دين المسلمين، وأن الذين شنقوا وحكم عليهم بالسجن فى عهد الزعيم الخالد من الكتاب والقضاة والمستشارين لم يكونوا ضحايا جرائم فكر ولا نشر، بل على الأغلب أدينوا فى قضايا تسعيرة، وإلا لما فات حماة الحرية الغضبة عليهم، بل على العكس، قال قائلهم مرة وهو يؤرخ: وأعدم عدد لا بأس به من زعماء الإخوان، أى والله هكذا يتحدثون عن مخالفى اتجاههم، أما إذا سب علاء حامد النبى فهى قضية حرية فكر يشهد على ذلك الدكتور والدكتورة وكفى بنا داء، أو كما يقول المثل «حداية ضمنت الغراب».
وفى مقاله «الإلحاد فى الاعتقاد.. حرية فكر أم حرية إلحاد» حكى الكاتب الكبير جمال بدوى حكايته مع علاء حامد، وكيف أنه قبل ٣ سنوات من الحكم عليه زاره فى مكتبه وأهداه كتابًا من تأليفه بقصد قراءته والتعليق عليه، وأنه ما إن بدأ فى قراءة صفحاته الأولى حتى انتابه الهلع، لأنه يستهل أقواله بإعلان كفره وإلحاده وكيف أنه مسلم بالميراث لم تتح له الفرصة لاختيار عقيدته، حتى بعد أن كبر؛ لأنه فقد اهتمامه بالدين، لأن الأديان بدأت تتقلص تقلصًا سريعًا، حتى إنه لم يعد يدين بالأديان سوى ثلث سكان العالم، الأمر الذى حدا بكثير من العقلانيين للتساؤل عن جدوى الأديان، خاصة وقد سنت قوانين وضعية لحماية أمور حرمتها الأديان.
فى يناير من العام 2001 طفى اسم علاء على السطح مرة أخرى من خلال روايته «أحزان الضفادع»
طرح جمال بدوى- كما يقول- الكتاب جانبًا، ولكنه فوجئ بعلاء حامد يزوره مرة ثانية، ويطلب منه التعليق على كتابه.
يقول بدوى: تعجبت من وقاحة الرجل مرتين، مرة حين تجرأ على تسطير هذه السفالات فى كتاب منشور، ومرة ثانية حين خطر بباله أن يقدم كتابه إلى كاتب مثلى مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ثم ينتظر منى أن أقدمه إلى القراء.
عندما استمع جمال بدوى إلى الحكم على علاء حامد توقع الضجة التى ستثور، وكيف ستتحول القضية من إهانة الأديان والرسل إلى قضية العدوان على حرية الفكر.
يقول جمال: قلت لنفسى ليتهم تركوه مهملًا فى زوايا النسيان، فذلك أدعى إلى محاصرة الكفر والإلحاد، أما الآن فسوف يتحول الرجل إلى شهيد ومفكر.
لم يقض علاء حامد فى سجنه سوى ستة أشهر فقط، فقد خرج بعد الحكم فى استئناف الحكم، وكانت الضجة التى ثارت حوله قد هدأت بعض الشىء.
لكنه لم يركن إلى الهدوء، فبعد شهور وقف أمام المحكمة مرة أخرى، ولكن بسبب روايته «الفراش»، وكان الحكم عليه هذه المرة من محكمة آداب القاهرة بالحبس سنة مع الشغل وكفالة مائتى جنيه، وأدانته المحكمة بتهمة المساس والاستهزاء برجال الدين وقيم المجتمع والدعوة إلى فساد الأخلاق، حيث ورد فى بعض فقرات الرواية ما يفيد الاستهزاء بالصلاة والفروض والعبادات التى نص عليها الدين الإسلامى، والتحريض على الإباحية الجنسية والدعوة إلى عدم الالتزام بشرعية الزواج.
بعد شهرين ونصف من الحكم عليه الذى صدر فى ٣٠ يونيو ١٩٩٢ وقف علاء حامد أمام محكمة الاستئناف بالمطرية التى تنظر الاستشكال الذى تقدم به لوقف الحكم.
لم يتبرأ علاء من روايته «مسافة فى عقل رجل» لكنه تبرأ من روايته «الفراش»
فى المحكمة حاول علاء حامد الانتحار، لكنه فشل، ولما أمسك القاضى بالرواية ورفعها فى مواجهته وسأله: بالذمة ده أدب؟ رد علاء على الفور: لا يا سيادة القاضى.. ده قلة أدب.
لم يتبرأ علاء من روايته «مسافة فى عقل رجل» لكنه تبرأ من روايته «الفراش»، قبلت المحكمة استشكاله وخرج من السجن ليختفى حتى العام ١٩٩٨.
فى مارس ١٩٩٨ دخل علاء حامد السجن مرة أخرى، لكن هذه المرة لم يكن بسبب كتاباته، ولكن لأنه كان قد أطلق الرصاص على أفراد ينازعونه على شقته التى يقيم فيها هو وعائلته، وكان غريبًا أن ترسل أسرته إلى مركز القلم الدولى خطابًا تطلب فيه دعمًا ماليًا فى إطار دور المركز المساند للكتاب الذين يتعرضون للسجن أو لتهديدات مباشرة لحرياتهم أو لحياتهم، رغم أنه كان متهمًا فى قضية جنائية.
وفى يناير من العام ٢٠٠١ طفى اسم علاء على السطح مرة أخرى من خلال روايته «أحزان الضفادع».
فقد أجرت نيابة أمن الدولة العليا معه تحقيقًا، اتهمته فيه بازدراء الأديان السماوية، والإضرار بالوحدة الوطنية والسلام الاجتماعى فى روايته الجديدة.
علاء نفى الاتهامات جميعها، وأكد احترامه لكل الأديان، وأصدرت النيابة قرارها بالإفراج عنه، وتردد وقتها أن إثارة القضية تمت لأسباب سياسية، لكن مصادر قضائية نفت ما تردد عن أسباب استخدامه للفت الأنظار بعيدًا عن القضايا المشابهة التى أثيرت، وأنه لا علاقة بين هذا وذاك، وكانت القاهرة قد شهدت حراكًا عنيفًا فى مواجهة مصادرة ثلاث روايات صدرت عن هيئة قصور الثقافة.
لم يظهر علاء بعد ذلك إلا فى حدود العام ٢٠٠٥ عندما أسس حركة سياسية اسمها «لابد»، ووقتها قال إنها تختلف عن الحركات السياسية الموجودة فى الساحة السياسية، وخاصة حركة «كفاية» التى تتحرك مثل الفراشة تحاول إطفاء النار بجناحيها وستحترق فى النهاية، لأنها لا تملك برنامجًا مستقبليًا، أما حركته فقد قامت للإجابة عن سؤال: ماذا بعد كفاية؟.
كان هذا آخر ظهور علنى لعلاء حامد.. ومن وقتها لم يظهر لا بخير ولا بشر.