محمد مندور يكتب: الباب الخلفى لجهنم

لم تنطلِ علىَّ صبغته السوداء فى التفريق بينها وبين شعر رأسه الأبيض الناعم، خمسينى يعيش شبابه الفائت، يستعرض مهاراته فى حمل الأخشاب، ورفع الأنقاض، إلا أن فى رجليه عرجة، يحتمى فى غرفة مخصصة من مبنى متصدع يحرسه. يوصد أبوابه، يزعق فى أرجائه؛ من غيرى هنا، أنا السيد.
يلعن الأرض ومن عليها، ومن خرجوا قبل دقائق. يحتكم على اثنى عشر دورًا، عشر شرفات، المئات من الكراسى الخشبية والجلد، وما يزيد على خمسة عشر مكتبًا. وأربعة كشافات تضىء فناء تبلغ مساحته مائتى متر مربع، عشرون حمامًا، وموتور ماء، وجنينتان فيهما من الثمار ما يشتهى. ثم ينام على سرير هزيل!
يتقلب على بطنه، ثم ظهره ثم جانبيه حتى يستقر مستلقيًا كما تعود. يرفع يدًا على جدار وأخرى يبسطها فوقه. فكر؛ وكم فكر أن يجعل سريره أقوى من الفولاذ والحديد. جمع من الأخشاب ما طوله المتران، نشر بالمنشار المُلل، ثبت أرجله بالأسمنت، وحوافه بمسامير تقهر اهتزازه.
عيناه الثاقبتان ترقبان الداخل والخارج، الفائت والقادم، يتكلم بحساب، وبحرص. عندما تنفض مكلمة النهار، يختلى مع الصور، فى مملكته، يقلب صفحات المجلات، يسهر مع قناة مشفرة.
جالسته وجالسها، رآها ولم تره، يعيش الشغف من عصره حتى آخر الليل. خرجت من خلف الشاشة بحركة استثنائية، لم يعهدها فى شبابه، تتمايل برشاقة، تغنى بمرح، يقسم بالطلاق أنه ضيع شبابه هدرًا، وزواجه أكبر غلطة؛ زوجة بوجه بومة «أغبر»، شعر هجين، هندام متسخ ثم تستقبله بـ«هات».
مسح على الفور عرقه، وزار الدم عينيه؛ أثبت فتوته على ساحرته الرشيقة والمقابل زهيد. صبغته السوداء ليست دليلًا قاطعًا على عودته إلى الثلاثين، إذ أظهر من تحت قميصه عضلات ذراعيه، وبتبختره حاول قدر الإمكان إخفاء عرجته. موعد خروج ساحرته كما هو لا يتغير، الذى يتغير شكلها، هيئتها، والمقابل يرتفع مع الأيام، أدمنهن، و«هات» أصبحت عبئًا قديمًا جديدًا، له ثمنه، وبينهما أقر أن لذته أعظم من ملء الأرض ذهبًا. شبعه المرهون بتعاقبهن على سريره المتين سول له أن يعطل كشافات لا تستخدم إلا ليلًا، وما الفائدة من وجودهم، باعهم دفعة واحدة، الناظرون وجوههم مطفأة، يحملون مشكلاتهم، لا يفكرون إلا فى الورقة والقلم، يتقاسمون الوقت فى النميمة والشكايا والضحك. انقض على موتور الماء الخرب، هو الآخر، وسرق الثانى، الاتهام أنه الحارس، والمسئولية عليه لم ينكرهما، اشترى نوعًا أردأ بسعر أرخص، وتغاضوا عن قطع عيشه. تجرأ على الكراسى، سطا على المناضد الضالة، تخف الأدوار رويدًا رويدًا، اجتث أعناق الأشجار، واستبدلها بأعناق عشيقاته، المبنى المهدد بالانهيار وجب إخلاؤه على الفور، حملوا ما تبقى منه إلى آخر، كافح أن يبقى هو مع سريره القوى، يحمل أنقاضًا وأخشابًا يعيش مع فاتناته حتى وثقته الصورة مقتولًا مع ساحرته فى مجلة- تذيع سيرتها- ساحرة أخرى خلف الشاشة وسريره المتين قد تبدد من تشقق، سقط فوقهما بغضبة قاتلة أزالت صبغته.