المتمرد دائما.. أسرار الإبداع فى «عالم خيرى بشارة»
- يستمتع خيرى بشارة بتصوير الأماكن الثرية الأنيقة فى القاهرة مثلما يستمتع بتصوير أزقتها المتربة البائسة
- بدأ بشارة مسيرته السينمائية بصنع قصيدة فى وصف القاهرة تتمثل فى فيلمه «العوامة رقم 70» الذى تتجسد فيه ملامح «الواقعية الجديدة»
قبل أيام من حرب أكتوبر 1973 عاد خيرى بشارة من رحلته إلى بولندا التى بدأت بمنحة دراسية وانتهت بمحنة هوية قرر على أثرها العودة إلى الوطن ليتصدى لأشباحه ويحقق طموحاته فى مكانها الطبيعى.
لم يكن جيله، الذى تفتح وعيه على صدمة هزيمة 1967، قادرًا بعد على استيعاب العلاقة بين الواقع والخيال. لقد تبددت الأحلام، ومات عبدالناصر، وبدأت مرحلة مختلفة كليًا، لم يقطع «واقعيتها» المريرة سوى خيال الانتصار العظيم، الذى أعاد للناس توازنهم لبعض الوقت، قبل أن تجرفه أمواج السلام «المتعجل» والانفتاح «على الرأسمالية»، وكلاهما قلب البلد رأسًا على عقب خلال سنوات معدودة. عاد خيرى بشارة من رحلته التى طالت فى بولندا، وشملت بلدانًا أوروبية أخرى، محملًا بمفاهيم وأساليب وتقنيات سينمائية متطورة ومختلفة، وبتجربة حياة شديدة الثراء. يتشارك بشارة هذه التجربة مع صديقه محمد خان، الذى قضى سنوات فى لندن قبل أن يقرر الرجوع ليبدأ مسيرته من مصر، مع الفارق الدقيق بين تجربة الحياة فى أوروبا الشرقية، الشيوعية، والحياة فى قلب أوروبا الغربية.
بعد أسابيع من عودته، كان خيرى بشارة يصور أول أفلامه الوثائقية «صائد الدبابات»، الذى يعد واحدًا من أفضل الأعمال عن حرب أكتوبر، ومن كلاسيكيات السينما التسجيلية المصرية بشكل عام.
منذ اللقطة الأولى فى «صائد الدبابات» يمكن الإحساس بأننا أمام عمل لا يتبع الصيغة formula المعتادة للسينما الوثائقية فى ذلك الوقت، التى تعتمد على التعليق الصوتى الجهورى الحماسى والجدية المفرطة والتركيز على المعلومات لا المشاعر والاعتماد على لقطات المتحدثين المتوسطة الذين يواجهون الكاميرا.
تمر سيارة نقل حربية مثيرة عاصفة من التراب، ومع خروجها من الإطار تظهر مجموعة من الجنود يتحلقون فى نصف دائرة. تقترب الكاميرا منهم، كأنما تسترق السمع إليهم، مع حديث أحدهم إلى المحاور الذى يحمل جهاز تسجيل الصوت، ويظهر فى الكادر. لا محاولة للإيهام هنا بكمال الإطار واستقلاليته «أى ما يعطيه فوقيته وحقيقته التى لا تخضع للشك». على العكس، يؤكد الموقف هنا، أن هناك كاميرا وجهاز صوت وشخصًا يسأل وجنودًا صغار السن والرتبة يتحدثون على سجيتهم.
كان يفترض أن يصف «صائد الدبابات» بجوار ما يعرف بأفلام «البروباجاندا» التى تسعى إلى تمجيد أبطال الحرب وإنجازاتهم. وهو بالفعل كذلك، فى أحد وجوهه، لكن خيرى بشارة قام بشىء إضافى، ما جعل الفيلم يحلق فى فضاء السينما الوثائقية المصرية، ويتجاوز خطابه المحلى المحدود. لقد وضع بطلنا «عبدالعاطى» فى سياقه العام داخل الحرب، معطيًا الصوت لزملائه وأصدقائه وقائدهم البسيط القريب من أعمارهم، ووضعه فى سياقه العام داخل مصر، كفلاح ينتمى لإحدى القرى الفقيرة جدًا، فقام بتصوير القرية وأهلها وأقارب عبدالعاطى وداخل بيته، ووضعه أيضًا فى سياقه العام كشاب، يحلم «مع رفاقه» بتحسين أحواله وقريته، ويتطلع لمستقبل أفضل مع خطيبته الشابة، حيث ينتهى الفيلم بهما أمام نافذة تطل على الحقول. لقد منحه قصة، وبذلك لم يعد عبدالعاطى ينحصر فى إنجازه الحربى المذهل. ومن يشاهد الفيلم اليوم سيشعر بالفخر بالطبع، ولكن بالتأكيد سيسأل: أين ذهب عبدالعاطى وإنجازه وأين ذهبت تضحيات هذا الجيل؟ أين هم الآن؟ وما آل إليه حال أبنائه وأحفاده؟ وهل تحسنت أحوال القرية بعد؟
يطور خيرى بشارة هذا الأسلوب «أو التوجه» فى فيلمه الوثائقى التالى «طبيب فى الأرياف». فى ذلك الوقت «عصر شرائط الخام المكلفة والكاميرات التى لا يستطيع امتلاكها أفراد أو مجموعات صغيرة، وقبل ظهور الكاميرات الرقمية» كانت الغالبية الساحقة من الأفلام الوثائقية تصنع بتكليف من مؤسسات وزارة الثقافة أو الهيئة العامة للاستعلامات أو التليفزيون، أو من قِبل وزارات وهيئات أخرى تريد الدعاية لنشاطاتها.
هكذا ولد «طبيب فى الأرياف»، من تكليف يهدف إلى الدعاية لجهود الدولة فى الرعاية الصحية بالمحافظات والقرى. ولكن الفيلم، على يد بشارة، تحول إلى شىء آخر.
القصة كما يرويها خيرى بشارة والطبيب الذى يظهر فى الفيلم «الذى سيصبح لاحقًا أستاذ علم النفس القدير والكاتب والمثقف المرموق خليل فاضل» تبين لنا الطريقة التى يعمل بها عقل بشارة: إنه يعرف ما لا يريد، ويبحث عن، أو ينتظر، ما يريد. بعد معاينات فى العديد من القرى والمراكز الصحية، ومقابلات مع الأطباء والعاملين بهذه الأماكن، خرج خيرى بشارة بإحساس «غير مكتمل» بأن هناك شيئًا خطأ، وأن العمل بالطريقة التقليدية سيسفر عن فيلم «كاذب»، «مزيف للواقع»، وهذا الإحساس المبهم قاده إلى ما يبدو أنه مصادفة «ستتكرر لاحقًا فى الكثير من أعماله». ذات يوم، كان مع فريق عمله على مشارف قرية صغيرة، هى آخر قرية فى محافظة المنيا التى كلف بعمل الفيلم فيها، عندما شاهد صورة سينمائية تتجسد حية أمامه: شاب أنيق يرتدى النظارات ويحمل مظلة قادم من بعيد فى عز الحر يتصبب عرقًا، يتوجه نحوهم بدافع الفضول ويسألهم عما يفعلونه فى هذا المكان النائى. على الفور، وبعد قليل من تبادل الحديث، أدرك خيرى بشارة أن هذا الشاب يصلح لبطولة قصته. وبالتدريج، أثناء التصوير والمونتاج، اكتملت عناصر فيلم وثائقى بديع، محمل بالمشاعر والشخصيات والمشاهد السينمائية التى لا تنسى وبالروح الروائية، الفنية، التى تميزه عن الأعمال الوثائقية التقليدية. وبدلًا من أن يصبح دعاية كاذبة، تحوّل بالفعل إلى وثيقة إدانة ولوحة حزينة لأحوال الفقراء فى هذا البلد.. وتجربة ستظل تصاحب بشارة وأعماله على الدوام.
يتكرر الأمر مع فيلم بشارة الوثائقى التالى «طائر النورس». فمن تكليف آخر يهدف إلى الدعاية للمنجزات الحكومية فى مجال التعليم الفنى وإيجاد فرص عمل للشباب، يتحول الفيلم إلى مجموعة من الحكايات، ويتحول شباب المعهد الصناعى إلى حكواتية، يروى كل منهم قصته وطموحاته وهمومه، ويصبح الفيلم شهادة على عصر كانت فيه الحياة بسيطة والأحلام صغيرة.
ستدخل تجارب خيرى بشارة فى السينما الوثائقية إلى عالمه الروائى، ليس فقط عبر تقنيات رصد الواقع وكيفية صنع الايهام به، ولكن أيضًا من خلال معرفته بأنماط وأماكن كثيرة فى مصر، شمالًا وجنوبًا، بالإضافة إلى إقامته التى استمرت عقودًا فى حى شبرا، بعراقته وتميزه.
فى واحد من حواراته يقول بشارة إنه صنع الأفلام الوثائقية كأنها روائية، وصنع الأفلام الروائية كأنها وثائقية. وهذا أحد أسباب خصوصيتها وتفردها.
لم يصنع خيرى بشارة، على مدار أكثر من نصف قرن من العمل سوى ١٣ فيلمًا روائيًا فقط. لكن الحقيقة أنه لم يتوقف عن العمل أبدًا. فقد صنع أيضًا أكثر من عشرين فيلمًا تسجيليًا وروائيًا قصيرًا «بعضها قبل، ومعظمها بالتزامن مع، عمله فى السينما الروائية» وأكثر من عشر مسلسلات، وقام بالتمثيل فى أكثر من عشرين فيلمًا. وخلال السنوات القليلة الماضية أخرج فيلمًا قصيرًا من إنتاج «نتفليكس»، ومسرحية موسيقية ضخمة فى السعودية، ومسلسل، كما أصدر رواية كبيرة بعنوان «الكبرياء الصينى»، ويستعد لإصدار ديوانه الشعرى الأول.
يعكس هذا الثراء رغبة مستعرة فى احتواء العالم كله، ونهمًا لا يهدأ للمعرفة، المعرفة بمعنى الكلمة الأصلى، باعتبارها الخطيئة الأولى، والتكليف الأول: تذوق تفاحة «معرفة» الخير والشر، و«معرفة» آدم لامرأته، و«معرفة» العالم. وهذا أيضًا أحد أسرار عالم خيرى بشارة.
ومن أسراره الأخرى شغفه بالطعام. لا يوجد مخرج فى السينما المصرية اهتم بالأكل وأنواعه وبإطلاق أسماء الطعام على أفلامه، مثل خيرى بشارة: كابوريا، آيس كريم، حرب الفراولة، قشر البندق. وحتى بالغناء للطعام، كما فى أغنيتى فيلم «كابوريا» وكل أغانى «قشر البندق».
لكن الطعام هنا يعكس، مرة أخرى، هذا النهم إلى احتواء الدنيا. العنوان الأصلى لـ«حرب الفراولة» كان «طعم الدنيا». بطله الذى يبحث عن السعادة، كان يبحث فى الحقيقة عن طعم الدنيا.
مغرم خيرى بشارة بالأطفال، خاصة أطفال الفقراء، البسطاء، الذين تتجلى فى ابتسامتهم وبراءتهم مفاتن هذه الحياة. لا يخلو فيلم من أفلامه من لقطات للأطفال المبتهجين بكونهم أطفالًا. الطفولة عنده، هى الجنة الأولى.. حتى فى فيلمه الأخير «موندوج»، المصور فى أمريكا، لا يخلو من لقطة للريف المصرى لعربة يجرها حمار تحمل أطفالًا سعداء.
وغرام بشارة بالأطفال لا يضاهيه سوى غرامه بالحيوانات، خاصة الأليفة، البيتية، منها، من كلاب وقطط وأرانب وطيور. الحيوانات، مثل الأطفال، بريئة، و«لا تعرف كيف تكذب»، كما يقول فى «موندوج»، الذى جسد فيه حلمه بالتحوّل إلى كلب.
خيرى بشارة ابن القاهرة، بالرغم من أنه ولد وعاش سنواته الأولى فى الريف. ومثل مجايليه محمد خان وعاطف الطيب وبقية صناع «الواقعية الجديدة» الذين نزلوا بكاميراتهم إلى الشوارع لرصد نبض المدينة، تدور معظم أعمال بشارة فى الشارع «سواء كانت القاهرة، أو الأسكندرية، أو بوخارست، أو نيويورك».
مثل خان والطيب بدأ بشارة مسيرته السينمائية بصنع قصيدة فى وصف القاهرة تتمثل فى فيلمه «العوامة رقم ٧٠»، الذى تتجسد فيه ملامح «الواقعية الجديدة» مثل البطل المقهور والتصوير فى الأماكن الطبيعية للأحداث والاهتمام بوضع الشخصيات داخل الحيز المكانى الذى يعبر عنها داخل المدينة، سواء كانت أماكن فقيرة قبيحة أو فاخرة جميلة. ولكن «واقعية» بشارة تتمثل فى عنصر آخر لم يهتم به أقرانه، وهو الرصد الوثائقى للشوارع والمواطنين العاديين، فى ولع ملحوظ يبدو أنه استقاه من عمله بمجال السينما الوثائقية سنوات طويلة قبل أن ينتقل إلى الأفلام الروائية.
ولا يكاد يخلو فيلم من أفلام بشارة من بعض هذه اللقطات الوثائقية التى تتداخل مع السرد الروائى، دون حتى أن تكون لها وظيفة درامية مباشرة. وليس من الغريب فى أعمال خيرى بشارة أن تنتقل الكاميرا فجأة من ملاحقة الشخصيات الرئيسية فى الشارع لتلتقط مجموعة من الصبية فوق عربة يجرها حمار، أو لنسوة عجائز يبعن الخضراوت، أو لمجموعة من الفتيات يختلن مرحًا أمام مدرستهن. وهذه اللقطات التى قد تبدو مقحمة إنما تعبر عن روح الدراما وتكملها، مثلما تفعل الموسيقى التصويرية على شريط الصوت. وعلى عكس محمد خان الذى يهتم بمعمار المدينة يبدو خيرى لا مباليًا بالمعمار ولكن مهتمًا برصد سكان المدينة أنفسهم فى حركتهم اليومية داخل الشوارع.
ويمكن ملاحظة هذا التوظيف البارع للقطات الوثائقية فى أعمال مثل «يوم مر يوم حلو»، الذى تخرج فيه «سيدة الشاشة» لتهبط إلى شوارع وأسواق شبرا المزدحمة وسط الناس العاديين ربما للمرة الأولى والأخيرة فى حياتها. كما يمكن ملاحظتها فى «كابوريا» و«آيس كريم..» و«أمريكا» و«إشارة مرور»، هذه الأعمال التى يبدو فيها متمردًا على مفهوم «الواقعية الجديدة» نفسه، حيث راح يمزج بين الفانتازيا والوثائقية بلعب «ما بعد حداثى» مميز.
يستمتع خيرى بشارة بتصوير الأماكن الثرية الأنيقة فى القاهرة مثلما يستمتع بتصوير أزقتها المتربة البائسة، ويبدو عاشقًا متيمًا بالمدينة فى الحالتين. وفى المرة الوحيدة التى خرج فيها إلى الريف الجنوبى ليجسد رواية يحى الطاهر عبدالله فى «الطوق والأسورة» لا يبدو رومانسيًا تجاه الريف كما فعل محمد خان فى «خرج ولم يعد»، أو مستريحًا ومسترخيًا كما فعل عاطف الطيب فى «الهروب»، ولكنه يبدو غاضبًا ومختنقًا بتقاليد الريف وبؤسه الشديدين، وراغبًا فى العودة بأسرع ما يمكن إلى حرية ورفاهة المدينة، كما يفعل بطله أحمد الشاذلى فى «العوامة رقم ٧٠».
منذ أعماله الوثائقية الأولى يحرص خيرى بشارة على كتابة سيناريوهات معظم أعماله أو المشاركة فى كتابتها، حتى لو كان يخجل أحيانًا من قول ذلك، وهو من جيل نما على فكرة أن المخرج هو رب العمل وصاحب أى قرار يتعلق بأى عنصر فيه، أو ما يعرف بـ«سينما المؤلف» film auteur. ورغم أن هذه الفكرة مستحيلة عمليًا، وخيالية حين نتكلم عن السينما الشعبية التجارية، وعبثية حين نتكلم عن السينما المصرية، لكن يمكننا أن نلاحظ لمسات بشارة، حتى فى أكثر الأعمال التى صنعها بنصف أو ربع قلب.
مع ذلك تظل مسألة «الجمهور» أزمة مزمنة لصناع السينما فى مصر ومنهم خيرى بشارة، ليس فقط لأن الاستمرار فى صناعة السينما يتطلب أن تكون ناجحًا تجاريًا فى سوق متواضعة الثقافة، ومحدودة التنوع وقاسية الشروط، ولكن أيضًا لأن كونه مخرجًا ينتمى إلى «العالم الثالث» (بالرغم من رفضه الاعتراف بهذا المصطلح فى أفلامه) كان يفرض عليه «وزملائه من جيل النكسة» أن يكون منخرطًا فى السياسة والقضايا الوطنية والاجتماعية وأن يضع الناس نصب عينيه فى كل شىء يفعله. وبالفعل نجد الناس دائمًا فى قلب أعمال بشارة، خاصة أفلام المرحلة الأولى قبل «كابوريا»، كما يمكن أن نجد الجمهور دائمًا فى المرحلة التى أعقبت «كابوريا». الناس والجمهور هم شىء واحد، ولكنهما ليسا بالضبط شيئًا واحدًا. الجمهور يمثل الناس نعم، ولكنه شريحة من الناس تملك ثمن التذكرة، ولديها سلطة عمياء تحكم بها على أى فيلم وتحدد مصيره.
هذه الأحجية، المعضلة، المتعلقة بالناس والجمهور ظلت، ولم تزل، وسوف، تواجه كل صانع أفلام بدرجة وطريقة مختلفة، ولكن يمكننا أن نلاحظ أنها حاضرة بقوة فى مسيرة خيرى بشارة، ربما أكثر من أى مخرج مصرى آخر.
يذكر خيرى بشارة فى أكثر من حوار أنه صنع أفلامه الأولى وفى ذهنه أن تكون «جماهيرية»، ولكن لسبب أو لآخر فشل فى ذلك- على حد قوله.
هذه الأعمال التى تعد من روائع السينما المصرية على الإطلاق فشلت فى شباك التذاكر فشلًا ذريعًا، فى فترة لم تكن الصناعة قادرة على تحمل هذه الخسائر. وهو أمر لا بد تسبب فى أزمة نفسية وفكرية لهذا الجيل، تبدت فى أعمال كل منهم بطريقة مختلفة. وقد تبدت فى أعمال بشارة، بحكم شخصيته المتحولة دومًا، التى لا ترسى على حال، فى واحدة من قفزاته المهنية الكبرى: «كابوريا».
نال «كابوريا»، ومن بعده «رغبة متوحشة»، نصيبهما من هجوم النقاد، الذين رأوا فيهما نكوصًا عن الواقعية، وعن المستوى الفنى العالى، اللذين اتسمت بهما أعمال بشارة السابقة.
ولكن بشارة، الذى أعلن القطيعة مع المرحلة «الواقعية»، كان قد طور فهمًا، ومفهومًا، مختلفًا عن السينما ووظيفتها وتأثيرها، دون أن نغفل أيضًا عن نشوة الانتقال من هامش سينما «المهرجانات» إلى قلب الصناعة كواحد من أنجح المخرجين وأعلاهم أجرًا، أو عن دخوله لمرحلة عمرية وعائلية احتاج فيها بشدة أن يناضل «اقتصاديًا» من أجل البقاء.
هذا الانتقال من «الناس» إلى «الجمهور»، إذا جاز التعبير، يعنى أيضًا البحث عن لغة وأساليب جديدة لتوصيل التأثير المطلوب «من أفكار ومشاعر ورؤية للعالم» إلى هذا الجمهور. وقد نجح بشارة فى العثور على هذه اللغة والأساليب بدرجة الامتياز فى المرحلة التى تمتد من «كابوريا» حتى «أمريكا شيكا بيكا».. قبل أن تشهد مسيرته تحولًا كبيرًا جديدًا لم يصبه التوفيق «الجماهيرى» هذه المرة. وهى المرحلة الثالثة التى تمتد من «حرب الفراولة» حتى «إشارة مرور». وتختتم هذه المرحلة بفيلم مختلف، غريب، هو «قشر البندق».
من كتاب «خيرى بشارة.. السينما لها أجنحة»