فردوس «الحِنيّة» المفقود.. رحلة إلى عالم «قلبى ومفتاحه»

- تامر محسن صنع المسلسل بروح شاعرية حولت حلقاته لقصائد
لو أردنا أن نضع عنوانًا جانبيًا لمسلسل «قلبى ومفتاحه»، إنتاج الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، وإخراج تامر محسن وتأليفه هو ومها الوزير، فسيكون «رحلة البحث عن الحنيّة»، والحنية هنا بمعناها الشعبى البسيط المتمثل فى طاقة الحنان والمحبة والأنس والجمال. لذلك لن ننطلق فى هذه الكتابة من زاوية نقدية تحليلية بحتة، بقدر ما ننطلق من الروح الخفيفة واللطيفة التى يصنعها هذا العمل، ويبثها فى كل تفاصيله بدءًا من أسماء الحلقات مرورًا بالأحداث، ثم فى أسماء الشخصيات وأداءتهم الاستثنائية حتى فى حركة الكاميرا ومساحات الكادرات، حتى نصل إلى الموسيقى التصويرية التى مثلت ذروة الجمال فى المسلسل.
نستطيع أن نقول إن الرهان على تامر محسن، الذى صاحب الإعلان الأول عن العمل، وقبل بدء عرضه كان فى محله، فهو المخرج الذى يحمل فى حقيبته كوكبة من الأعمال المهمة، مثل «تحت السيطرة، وهذا المساء، ولعبة نيوتن»، وهذا ليس بالضرورة صك نجاح لأى عمل يقدمه، فلكل فنان نجاحاته وإخفاقاته.
لكن «تامر» لم يخب ظن محبيه هذه المرة، مقدمًا عملًا مكثفًا للغاية فى ١٥ حلقة ربما للمرة الأولى، لكنه يصبغه بروح شاعرية تجعل من كل حلقة قصيدة منفصلة متصلة بالتى تليها، فتشاهدها ليس بالعين فقط بل بحواسك المختلفة، وتكاد تذوب فى خليط الفضاء البصرى رغم مواقع التصوير فى المناطق الشعبية الضيقة، وفى الإيقاع الموسيقى رغم صخب وزحام القاهرة، فتشعر وكأنك تتحرك مع الشخصيات وتتناول معها الطعام وتستقل معها السيارات وتشتبك فى حواراتها وترى نفسك فى تصرفاتها التلقائية.

الخيط الدرامى
وضع تامر محسن نحو ٥ خيوط درامية رئيسية وأخرى عنقودية، تشكل قوام الحكاية، وهى كلها تتمحور حول شخصيات موجودة فى حياتنا ومشاهداتنا اليومية، لكنه نسجها بطريقة تتسق مع الروح التى رسمها للعمل، فالبيوت أغلبها عادية تشبه بيوت الطبقة المتوسطة وربما الفقيرة أيضًا، ولغة الحوار مرنة تلقائية والأداء طبيعى دون افتعال أو مبالغات، فهم أناس مثلى ومثلك تقابلهم يوميًا، فلا تشعر بأن هناك أحداثًا مدسوسة أو مُقحمة من أجل لَىْ ذراع خيالك أو للفت انتباهك رغمًا عنك.
من هذه الخيوط، لدينا «أسعد»، محمد دياب، و«ميار»، مى عز الدين، وهما المُطلقان بشكل بات بعد استنفاذ عدد مرات الطلاق التى رماها الزوج على زوجته مع استحكام الشقاق، وكانت ثمرة الزواج طفلًا لا حول له ولا قوة اسمه «على»، سيصبح فيما بعد طرفًا أصيلًا فى الصراع بينهما.
ولدينا خط آخر يتمثل فى «نصر»، محمود عزب، بائع الفول والفلافل، الذى يقع محله أمام منزل «أسعد»، والذى يحب «مهجة»، عايدة رياض، الأرملة ووالدة الأخير، حبًّا من طرف واحد، فهو يراقبها، منذ كانت صبية بضفائر، ويتلصص ويتحين لحظة خروجها كل صباح من البلكونة ليعطيها «قرطاس الطعمية» التى يصنعها لها بحنيّة ويبث فى عجينتها شكواه.
كذلك لدينا محمد عزت «آسر ياسين»، الشاب الطموح خريج كلية العلوم قسم الفيزياء، ورائد الأعمال الذى تتضرر أعماله نتيجة تبعات جائحة كورونا، وتضطره الظروف لتشغيل سيارته فى تطبيق مواصلات ويقود السيارة بنفسه، ويعيش مع والدته «ثريا»، سما إبراهيم، فى شقة فى وسط البلد تفوح منها طاقة حميمية هادئة.

خيط آخر يتمثل فى أسرة شادى الشناوى «أشرف عبدالباقى»، المحامى وخال محمد عزت، وهو أرمل يعيش مع بناته، وأبرزهن «نهى»، سارة عبدالرحمن، التى تعيش حالة إعجاب من طرف واحد مع ابن عمتها «محمد عزت»، وهى أسرة بسيطة أبدع تامر محسن فى تكوينها، فهى تشبه الآلاف من الأسر المصرية التى تمر بظروف متشابهة.
كذلك لدينا «إسماعيل»، أحمد خالد صالح، الفاسد والنرجسى والذراع اليمنى لـ«أسعد»، ويعيش علاقة حب سرية مع أخت الأخير «عالية»، تقى حسام، وسنكتشف لاحقًا أنها لم تكن أكثر من حب تملك وتعويض نقص طبقى عاناه «إسماعيل» طوال حياته.
ما الجديد فى تلك الخطوط الدرامية؟ يمكن القول إن المختلف هنا هى درجة «السبك» العالية التى يصل إليها تامر محسن فى بناء الشخصيات وتحديد حدود تحركاتها فى فضاء العمل، والسبك هنا ليس مقصودًا به ضبط التقمص بقدر ما هو مقصود به إتقان صناعة التوليفة الاجتماعية والسياق الدرامى، واتساق ذلك مع مواقع التصوير ومع لغة الحوار بين الأبطال وترابط ذلك مع حركة الكاميرا والإيقاع البصرى والموسيقى.
استطاع تامر محسن أن يوسع بؤرة العمل من كونها ترتكز على قضية طلاق «أسعد» الثرى المتغطرس، الذى يمارس العنف الزوجى والاجتماعى، والذى يرغب فى استعادة طليقته التى لا تحل له شرعًا إلا بزواجها من «محلل»، و«ميار» اللطيفة المغلوبة على أمرها، والتى رأت فى «أسعد» الزوج الذى ينتشلها من ليالى الفقر والعمل فى الكازينوهات ويغدق على عائلتها بالمال الذى يزيح عنها ألم العوز.
تلك البؤرة لم تتسع بالشكل الذى يشتت ذهن المشاهد ويسهم فى «فرط» الأحداث مثل حبات الرمان، بل توسعت كما تتوسع عدسة الكاميرا لتستوعب مشاهد أكبر وتلتقط حركات أوسع بهدوء وحنكة.
وتتداخل الخيوط الدرامية وتشتبك العلاقات، ويحدث ما حدث بين «محمد عزت» و«ميار» وتبدأ سلسلة من الوداعة والحوار الشاعرى والتدفق البسيط والسلس لأحداث تلك العلاقة الغريبة والتى تحفها المخاطر من جميع الاتجاهات.

الأداء الاستثنائى
هنا يحضر الأداء الاستثنائى لمى عز الدين، التى نشاهدها للمرة الأولى فى حالة يمكن وصفها بـ«طور اكتمال القمر»، وهو ما يتجلى فى عدة مظاهر، لعل أبرزها اتزانها العبقرى وارتباكها البرىء والعفوى وحركتها البدائية ولغتها التلقائية كسيدة صعدت من الطبقة الفقيرة المدقعة إلى طبقة أعلى يغلب عليها طابع الطبقة المتوسطة رغم الثراء الكبير الذى تتمتع به أسرة طليقها، والذى ورث تجارة عن والده الصاعد المكافح، ليحولها الابن بعد ذلك إلى ستار لتجارة العملة غير المشروعة.
كل شىء فى أداء مى عز الدين كان مثاليًا بامتياز، نظرات العينين الضائعة، إيماءات الوجه الحائرة، العيش الدائم على الحافة خوفًا من المجهول أو حتى أى عنف مرتقب من طليقها الفاسد المريض بحب التملك المفرط.
أداء «مى» كان يرتكز على عملية تطور دائم، فهى تنتقل من حالة الارتباك الشديد المتقن خاصة بعد محاولة طليقها تزويجها من أى «محلل»، إلى تجسيد شعور التخبط والانهزام وقلة الحيلة ببراعة فائقة، ثم تنتقل بأدائها وطاقتها الشعورية إلى حالة مختلفة تمامًا مع الحب الذى أحسته تجاه «محمد عزت»، الذى حاولت فى البداية استغلاله كـ«كبرى» تتزوجه وتطلق منه فى نفس الليلة، ليتاح لها العودة إلى «أسعد»، فتبدو «مى» وكأنها وردة تفتحت فى موسم الربيع وتتملكها طاقة حائرة بين الخوف والإرادة من أجل هزيمة الشر الكامن فى طليقها والانتصار لحبها.
كذلك كان آسر ياسين، من ناحية إجادة التحرك فى مساحة الشاب الذى يخوض الحياة بإقدام متمثلًا قول عبدالرحمن الأبنودى: «الحياة عايزة الجسارة»، فيكافح من أجل بناء نفسه، وحين يتعثر لا يبالى ويقاوم الأزمات بصبر وهدوء واتزان.
استعاد آسر ياسين صورة طالما فقدت فى الدراما، وهى صورة البطل الوديع، لكنه المتمتع بالشجاعة، والبرىء لكن دون سذاجة، والرومانسى من غير «تلزيق» أو مجون ولغة حديث مبتذلة.
هو الشاب الذى يشبه شباب شريحته الاجتماعية، فتراه عيناك فى كل مكان، فهو يشبه روح البلد وجوهرها، وهو النموذج المثالى المفضل والأبرز لتلك الطبقة، وليس الأشعس الأغبر الذى يصنع قصات شعر عجيبة، فهو يرتدى ملابس لائقة وليست فاخرة، ويتعامل مع الناس بلغة بسيطة وليست مبالغة أو عنترية، ويملك المال الذى يحقق الكفاف والضروريات وقليل القليل من الرفاهية المعتدلة.

أما محمد دياب، فقد كان صادمًا مكتسحًا مختطفًا الشاشة مسيطرًا على كل مقاليد الأمور، لقد جعلنا نعيد اكتشافه كممثل استثنائى ونبصر الجانب الأعمق فى موهبته ونرى حضوره الطاغى والمبهر.
جسد «دياب» ببراعة شخصية التاجر الطُفيلى الذى يعد امتدادًا لطبقة تجارية تكونت فى أواخر السبعينيات، وتوحشت فى الثمانينيات والتسعينيات وامتدت حتى يومنا هذا، فهو صاحب تجارة الأدوات الكهربائية التى كانت سلمًا سهل الصعود فى العصر الاستهلاكى، لكنه لم يقنع بتلك التجارة التى ورثها عن أبيه، فجعلها ستارًا لتجارة العملة، ليكشف لنا عن تفاصيل مهمة عن كيفية إدارة مشهد «الدولار» فى مصر فى صورته الإجرامية.
لم يكن «أسعد» مجرد تاجر عملة، بل يتحكم فى سعر الصرف عبر إطلاق الشائعات على مواقع التواصل والتى تسهم بدورها فى تثبيت البيع بالأسعار التى يحددها هو بنفسه. وهذه التجميعة الشريرة تطلبت من محمد دياب، استحضارًا هائلًا للأدوات التى يستطيع من خلالها إبراز هذه الطاقة أمام الشاشة، ونجح فى ذلك نجاحًا واضحًا، فكانت ملامحه وحركاته وحتى طريقة جلوسه على مكتبه ومشيته وإمساكه بهاتفه وسلسلة مفاتيحه، كل ذلك ينم عن شخصية انتهازية عاشقة للربح السريع، وكذلك نظراته عينيه الخارقة ولغنه المراوغة وطريقته فى خداع و«بلف» من يقف أمامه بحيله وأدائه الثعبانى العنيف والمخيف، كل هذه الاستحضارات، مكنته من إتقان الدور على أكمل ما يكون دون ذرة افتعال أو زعيق وثرثرة وكلمات ركيكة تستهدف إبراز الحكمة و«الشبحنة» كالتى سادت فى أعمال أخرى. اختطف محمد دياب البطولة، ليس لأنه البطل الأوحد، لكن لأنه صاحب الأداء الأكثر طغيانًا والذى لم يترك سنتيمترًا واحدًا فى مساحة دوره إلا واستغلها أحسن استغلال، فكل مشهد له دلالة وكل إيماءة لها غرض، فلا يوجد شىء عشوائى أو وليد الصدفة فى أدائه.

عودة التراجيديا
المسلسل جعلنا أيضًا نعيد اكتشاف الكوميديان محمود عزب، لكن هذه المرة فى صورة تراجيدية تذكرنا بأبطال المسرحيات الإغريقية القديمة دون مبالغة، فـ«نصر» المسن البسيط الهادئ يعيش ويعمل ويكد فى صمت رهيب، وفى نفس الوقت يحمل فى داخله بركانًا من الحب والمشاعر الفياضة لجارته «مهجة»،عايدة رياض، التى يذوب فيها عشقًا بطاقة متساوية، منذ كانت صبية حتى صارت أرملة متقدمة فى العمر.
المبهر فى شخصية «نصر»، هو قدرتها على تصدير الحمولة الشعورية عبر الصمت الرهيب، وعبر إيماءات الملامح، وحتى حين تتكلم لا تنطق إلا بلغة تعبيرية تتسق مع طبيعة الدور وحدوده وحالته الوجدانية التى لا تخلو من نفَس صوفى.
ظهر «نصر» بعوده النحيف ولحيته التى سرح فيها البياض، وبـ«مريلة الشغل» التى لازمته، وكأنه قديس يتمثل القول الشعبى: «اللى حب ولا طالش»، ويتعايش مع هذا الحرمان بزهد عجيب وفناء فى المحبوب، فالحسرة تفيض من كلامه والحزن يشع من نظرات عينيه وتقطيبه وجهه.
كل هذا الأداء الاستثنائى للأبطال يتمازج مع الكتابة البسيطة والمتقنة مع الإخراج اللطيف مع الموسيقى المعبرة التى تتحرك برشاقة بين المشاهد، مع الالتقاطات الإخراجية لتامر محسن، ويضفى على العمل حالة مثالية منعشة تشعر المشاهدين بالدفء والسلام النفسى والنوستاليجا.

ولعل أجمل هذه الالتقاطات يتمثل فى أسماء الحلقات التى وضعها تامر محسن بذكاء لتخدّم على الروح الشاعرية التى رسمها للعمل، فنرى أن الأسماء لم توضع بشكل انتقائى أبدًا، بل كدلالات وربط بين الأحداث وبين كل عنوان.
نلاحظ مثلًا أن الحلقة الأولى، تحمل اسم «السفيرة عزيزة»، وهو الفيلم الذى ظهرت فيه سعاد حسنى كأجمل فتيات الحى، التى تعانى من سطوة الأخ الجزار العنيف الذى يسلبها حريتها، كدلالة على الحياة الصعبة التى تعيشها «ميار» فى سجن «أسعد».
كما تحمل الحلقة الثالثة على سبيل المثال أيضًا، اسم «إشاعة حب»، على اسم الفيلم الشهير، كدلالة على الموقف الصعب الذى تعرض له «نصر» حين دس ورقة عليها كلام غرامى لحبيبته «مهجة» فى «قرص الطعمية»، ليقع القرص من نصيب نجلها العنيف «أسعد»، والذى يكتشف الأمر ويكاد يفتك بـ«نصر» لولا تدخل «الشناوى» وادعاءه أنه هو من كتب الرسالة لينقذ الموقف. كذلك تحمل الحلقة السابعة اسم «أنا وأنت وساعات السفر»، كدلالة على رحلة «شناوى» و«مهجة» إلى الإسكندرية لقضاء شهر العسل، والذى يحاول فيها الزوج بشتى الطرق التهرب من زوجته التى تورط فى الزواج منها بعد ادعائه أنه من كتب الرسالة التى عثر عليها فى قرص الطعمية.
كل هذه الالتقاطات هى أدوات مكمّلة استخدمها تامر محسن لصناعة حبكة مكتملة الأركان تدخلنا إلى جو من المتعة الصافية والرقة والعذوبة، وهو ما يجلعنا أمام عمل استثنائى يستحق كل احتفاء وتشجيع.