روشتة مخرج كبير.. حسنى صالح لصُناع «دراما»: الواقع.. بعيد عنكم

تعتبر الدراما التليفزيونية مرآةً تعكس هموم المجتمع وتطلعاته، لكنه يرى أنها تواجه اليوم أزمة حقيقية تهدد مكانتها وفاعليتها، ويؤمن بأن الحل يكمن فى زيادة الاعتماد على الكفاءات فى كل المجالات الفنية، من أجل استعادة بريق الدراما المصرية من جديد.
إنه المخرج الكبير حسنى صالح، أحد أبرز صناع الدراما العربية، والذى يضع تشخيصًا لمجموعة أزمات تصيب الدراما من جميع الاتجاهات، وفى نفس الوقت يقدم روشتة تتضمن حلولًا فعالة لعلاجها وتطوير العمل الدرامى.
خلال حواره التالى مع «حرف»، يتحدث حسنى صالح، بقلب مفتوح وعقل ناقد، عن كواليس الصناعة والمشكلات التى تعوق تطورها، من هيمنة الربح السريع على حساب القيمة الفنية، إلى غياب الرؤية الإبداعية التى كانت تميز الدراما العربية، فى محاولة لتقديم فهم أعمق للتحديات وإعطاء أمل فى مستقبل أفضل للدراما.

■ بداية.. كيف ترى الوضع الحالى للدراما المصرية؟
- الوضع الحالى للدراما أصبح محبطًا، فحتى الأعمال التى تخلو من المشاهد الخادشة للحياء أو التى لا تحتوى على مشاهد خارجة لم تعد تصل إلى المستوى الفنى الذى يليق بمصر، البلد الذى قدّم روائع خالدة مثل «الراية البيضا»، و«ليالى الحلمية»، و«رأفت الهجان». الدراما ليست مجرد وسيلة للترفيه، بل قوة ناعمة تُسهم فى تشكيل وجدان الأمة، وتغرس قيم الانتماء والأخلاق والوطنية.
للأسف، هناك اتجاه واضح لاستبعاد أصحاب الخبرة والكفاءة بحجة تقدمهم فى العمر، رغم أن عظماء المخرجين حول العالم تجاوزوا التسعينيات من أعمارهم، وما زالوا يقدمون إبداعاتهم الرائدة. صحيح أن وجود الصناع الشباب مهم وضرورى لتجديد الدماء فى المجال الفنى. لكن يجب أن يتعلموا من خبرات الكبار، وأن يصلوا إلى الصدارة من خلال الابتكار وليس عبر المحاكاة أو الاستغناء عن الاحتكاك بالخبرات العريقة، فالتوازن بين الأصالة والمعاصرة هو السبيل لاستعادة مكانة الدراما المصرية التى تستحقها.
■ برأيك.. ما السبب الرئيسى لتراجع مستوى الدراما فى السنوات الأخيرة؟
- السبب الأساسى هو تحول الدراما إلى صناعة تجارية بحتة، والأولوية لم تعد للمحتوى أو الجودة بل لمن يجلب الإعلانات، وأصبح المخرج يختار المؤلف كيفما يشاء، والنجم هو من يفرض رؤيته على العمل بل ويتدخل فى اختيار فريقه، كيف يمكن أن تكون للممثل وصاية على المخرج؟ كيف يقرر من يشاركه العمل؟ هذه ليست صناعة فن بل تجارة بحتة.
■ إلى أى مدى أثر هذا التوجه على المصداقية فى الأعمال الدرامية؟
- المصداقية تراجعت بشدة، والممثلون الآن يتحكمون فى «المونتاج»، وينسحبون من مواقع التصوير إذا لم تُنفَذ طلباتهم، ويفرضون زملاءهم على الأدوار. الدراما فقدت عمقها وتأثيرها «السيكولوجى»، ونحن لا نقدم أعمالًا تؤثر فى النفوس وتقنع المشاهد بفكرة أو قيمة، بل صرنا نكرر نفس الحبكات: من خطَف من؟ ومن يبحث عن من؟ وفى النهاية لا يقدم العمل أى رسالة أو قيمة تذكر.
■ ما الحل لإعادة الدراما المصرية إلى مكانتها؟
- الحل يكمن فى إعادة الاعتبار لأهل الخبرة، وإعطاء الفرصة للشباب تحت إشرافهم وليس على حسابهم، ويجب أن تعود الرؤية للمخرج لا للممثل أو المنتج، وأن نركز على تقديم محتوى يثرى المشاهد فكريًا وأخلاقيًا لا مجرد إثارة تجارية بلا مضمون.
■ كيف تعاملت الدراما المصرية الحديثة مع حقوق المرأة؟
- للأسف الدراما الحديثة أساءت للمرأة بدلًا من أن تكرمها، وبدلًا من تقديمها كعمود المجتمع والمؤثرة الأولى فى التقدم الحضارى، تم تحويلها إلى مجرد أداة داخل حبكات سطحية، وكأن المرأة فقدت قيمتها الجوهرية فى المجتمع. الأمر لا يقتصر فقط على المحتوى، بل تعدى ذلك إلى طريقة تعامل بعض صناع هذه الأعمال مع الجمهور، حتى أصبح البعض يضع «رجله فى وش الجمهور» بلا احترام أو مراعاة لقيم المجتمع. النجم الحقيقى كلما كبر زادت أخلاقه وتواضعه، لكن للأسف هذا المفهوم اختفى.
■ كيف ترى تأثير المادة والإعلانات على الذوق العام فى الدراما؟
- أصبح المتحكم الأول فى الذوق العام هو المال وليس الجودة أو الرسالة، وهناك أموال تضخ من الخارج، ونرى البذخ الذى يصرف على بعض الأعمال، لكنه لا يقابل بمحتوى راقٍ يعكس قيم المجتمع، ومع ذلك نجد أن الجمهور يلتف حول الأعمال التى تحمل قيمة حقيقية حتى لو كانت بأقل الإمكانيات. هناك أعمال صنعت نجومًا من الصفر، ليس لأنها ممولة بشكل ضخم، بل لأنها تحمل رسالة هادفة تحترم عقل المشاهد.
■ بعض صُناع الدراما يقولون إنهم ينقلون الواقع.. هل ترى أن هذا مبرر لما يُعرض؟
- هذه حجة واهية، فعلى سبيل المثال فريد شوقى وزكى رستم، وشخصيات «ليالى الحلمية»، مثل «زينهم السماحى»، كانوا يعكسون الواقع، لكنهم قدموه بطريقة تصلح المجتمع ولا تفسده، فالحارة الشعبية لم تكن أبدًا مكانًا للألفاظ الجارحة أو المشاهد غير اللائقة، بل كانت مليئة بالقيم والأخلاق، والدليل أن الناس حتى اليوم يبحثون عن الأعمال القديمة لمشاهدتها، لأنها كانت تحمل رسالة وتحترم وعى المشاهد.
■ ما مدى تأثير «السوشيال ميديا» على نجاح الأعمال الدرامية اليوم؟
- هناك آفة تسمى «السوشيال ميديا»، حيث يتم التلاعب بالرأى العام عبر حملات مدفوعة من النجوم والمنتجين، فيبدو العمل وكأنه ناجح رغم أنه ضعيف. لكن الحقيقة تظهر عند عرضه مرة أخرى بدون هذه الحملات، حينها يفشل فشلًا ذريعًا، لأنه لا يحمل قيمة حقيقية. ومع ذلك، ما زال الجمهور، وحتى الجيل الجديد يبحث عن الأعمال الجيدة، والدليل هو النجاح الكبير لمسلسل «تحت الوصاية»، الذى قدمه مخرج شاب، لكنه كان عملًا جادًا بأدوات فنية قوية. كذلك «ولاد الشمس» الذى التف حوله الناس وأشادوا به كأفضل عمل لهذا العام.
أيضًا الأعمال الكوميدية الخفيفة ذات الجودة العالية مثل «أشغال شقة جدًا». هناك جمهور يميز بين العمل الجيد والسيئ، والدليل أن الناس تتفاعل مع الأعمال الجادة، وحين يجدون محتوى هادفًا يلتفون حوله ويدعمونه، وعلى سبيل المثال برنامج «قطايف» للفنان سامح حسين. نحن بحاجة إلى إعادة الاعتبار للفن الهادف، وإلى صناع يعرفون أنهم مسئولون عن تشكيل وعى الأجيال، لا مجرد تقديم محتوى تجارى بلا قيمة.
■ كيف تُقيم دور الدولة فى إدارة ملف الدراما؟
- هناك كفاءات كبيرة قادرة على إدارة الملف الدرامى بشكل صحيح لكنها مُهمَشة، فعلى سبيل المثال المهندس أسامة الشيخ كان أحد أنجح الإداريين فى هذا المجال، ونجاح القنوات التى أنشأها ما زال مستمرًا حتى الآن. كذلك لدينا كتاب كبار مثل عبدالرحيم كمال وعمر محمود ياسين ومحمد سليمان عبدالمالك، لكن هؤلاء لا يحصلون على الفرصة الكافية لتقديم إبداعاتهم.
■ كيف ترى تأثير المؤتمرات والمبادرات الرسمية على إصلاح حال الدراما المصرية؟
- المؤتمرات لا تعالج القصور الحقيقى، فالمشكلة ليست فى عقد مؤتمر بل فى البحث عن الصناع الحقيقيين الذين أثروا هذه المهنة بالقيم والفكر الراقى. لدينا أسماء كبيرة مثل الأستاذ محمد فاضل، لماذا يتم تهميشهم؟ كيف ننتظر من مخرج بحجم محمد فاضل أن يقدم عملًا مميزًا ونحن نضعه تحت الضغوط ونحرمه من العمل لسنوات ثم نعطيه فرصة محدودة؟ ما يحدث هو أننا نحرم أصحاب الخبرة الحقيقية من العمل، بينما نصرف مئات الملايين على أعمال لا تضيف للوطن شيئًا فى نبله وانتمائه وأخلاقه.
■ ما الحل لاستعادة جودة الإنتاج الدرامى؟
- الحل هو إعادة الفرصة لأصحاب الخبرة الحقيقية مثل محمد فاضل ومحمد ياسين وغيرهما ممن لديهم سجل حافل بالأعمال الناجحة والمؤثرة، فليس المطلوب إقصاء الشباب بل أن يكون هناك مزج بين الأجيال. لدينا مخرجون شباب عظماء مثل محمد شاكر خضير وأحمد نادر جلال، وهم نماذج ناجحة تستحق الدعم. لكن لا يجب أن نعتمد فقط على «أنصاف المواهب» ونهمل الرواد الذين صنعوا تاريخ الدراما المصرية.
■ هل يمكن تحقيق توازن بين متطلبات السوق والجودة الفنية؟
- يجب ألا نترك الساحة لمن يعتمدون على التسويق الممول فقط، بل لا بد من إتاحة الفرصة للأعمال الجيدة. عندما قدمت «شيخ العرب همام»، كان عملًا يحمل قيمة تاريخية وثقافية، ومع ذلك كم مسلسل تم إنتاجه بعده بنفس القيمة؟ كذلك مسلسل «الخواجة عبدالقادر» كان تجربة رائعة، لكن كم عملًا آخر تم تقديمه بنفس المستوى؟ المشكلة أن الإنتاج يذهب إلى أعمال استهلاكية بينما يتم تجاهل الأعمال التى تحترم عقل المشاهد.
■ كيف أثرت التطورات التكنولوجية على تقييم الأعمال الدرامية اليوم؟
- هناك انبهار زائد بجودة الصورة بسبب تطور الكاميرات والتقنيات الحديثة مثل الـ٤K والـ ٨K، لكن هذا لا يعنى أن المحتوى أصبح أفضل، والفرق الحقيقى بين الأعمال القديمة والحديثة ليس فى الصورة فقط، بل فى قوة السيناريو والإخراج والهدف الذى تسعى الدراما لتحقيقه، فالكاميرا والإضاءة لا تصنع دراما مؤثرة وحدها، بل القصة والأداء والإخراج الواعى.
■ ما الذى تطالب به من أجل تصحيح مسار الدراما؟
- أطالب بإعادة الاعتبار لأصحاب الإنجازات السابقة فى الدراما والسينما، وعدم تهميشهم لصالح من لا يمتلكون سوى أدوات تجارية بلا رؤية. نحن بحاجة إلى دراما تحمل رسالة وتسهم فى بناء وعى المجتمع، مثل الأعمال الخالدة: «الطريق إلى إيلات، وليالى الحلمية، والشهد والدموع، والراية البيضا»، فلماذا لا نعيد إنتاج أعمال بهذا المستوى؟ صناع هذه الأعمال لا يزالون موجودين، لكن يتم تهميشهم لصالح أعمال سطحية لا تقدم أى قيمة حقيقية.
■ من السهل إنتاج أعمال بصرية رائعة مع التطور التكنولوجى، ولكن السؤال الحقيقى هو: ما الهدف من هذه الأعمال؟ هل نناقش قضايا مجتمعية تسهم فى رفع الوعى وتعزيز القيم، أم أننا نكرس للسفه والتفاهة ونروج لمصطلحات تفسد ذوق المجتمع وتضر بالأجيال الجديدة؟
- للأسف القوة الناعمة لمصر تراجعت بعد أن كنا رواد الإنتاج الفنى فى الوطن العربى، فالعالم العربى كان يتعرف على مصر من خلال أفلامها ومسلسلاتها، وكانت الأعمال المصرية تستقبل بحفاوة فى كل بيت عربى، لكن اليوم فقدنا هذه الريادة بسبب انحراف الدراما عن مسارها القيمى.
■ كيف ترى تجربة المخرج محمد سامى؟ وكيف ترى الأزمة الأخيرة حول أعماله؟
- محمد سامى مخرج له شخصية، لكنها أحيانًا تطغى على إمكانياته، والمشكلة ليست فى كونه مخرجًا ناجحًا أم لا، بل فى طريقة إدارة الصناعة بشكل عام. لا يجب أن يكون هناك مخرج واحد أو مؤلف واحد يسيطر على المشهد، بل لا بد من إتاحة الفرصة للجميع. نحن لا نريد أن نضع شخصًا فى قفص الاتهام. لكن أيضًا لا يجوز أن ينصب أحد نفسه على أنه الأهم أو الأفضل.
على سبيل المثال، النجوم الكبار مثل نور الشريف ويحيى الفخرانى لم يدّعوا يومًا أنهم الأعظم، بل تركوا أعمالهم تتحدث عنهم، لذا فكرة أن يعلن مخرج اعتزاله عن الإخراج التليفزيونى ليست صحيحة، وأعتقد أن هذا الاعتزال سيكون مجرد إجازة قصيرة.
■ دعنا ننتقل إلى مسلسل «الحلم».. كيف جاءت فكرة العمل؟
- «الحلم» من أكثر الأعمال التى شعرت فيها بالسعادة أثناء العمل عليها، لأنه تناول قضية إنسانية، ووثق جهود الدولة فى تحسين حياة المواطنين الذين كانوا يعيشون فى ظروف صعبة. أنا لم أقدم المسلسل من منظور توجيهى أو دعائى، بل كنت حريصًا على أن يرى المشاهد بنفسه الفرق بين الحياة فى العشوائيات وبين التحول إلى بيئة آدمية كريمة.
عشت فى المناطق العشوائية مثل «بطن البقرة» و«إسطبل عنتر» لمدة ٣ أشهر قبل أن تهدم، ورأيت بنفسى مدى سوء الأوضاع هناك، فهذه الأماكن لم تكن صالحة لحياة البشر، ولا حتى للحيوانات، وسط ظروف غير إنسانية من حيث التلوث والازدحام وانعدام الخصوصية.
■ كيف رصدت الفارق بعد نقل السكان إلى حى «الأسمرات»؟
- التغيير كان هائلًا عبر انتقال الناس من مساكن بلا أبواب، وحيث تعيش عائلات كاملة فى غرفة واحدة، إلى شقق حديثة بها أبواب مغلقة لكل أسرة وحمامات خاصة ومطابخ آدمية. هذا التحول ليس مجرد تحسين سكنى بل هو استعادة للكرامة الإنسانية، أن يتمكن الأب من توفير مكان آمن لأسرته، وأن تحصل الأم على خصوصية فى بيتها، وأن يشعر الأطفال بالأمان داخل منازلهم، هذه إنجازات حقيقية. بعض هؤلاء الأطفال الذين كانوا يعيشون فى الشوارع بلا مأوى أصبحوا اليوم أبطالًا رياضيين يحصدون الميداليات الذهبية فى البطولات الوطنية.
■ ما رسالتك لصُناع الدراما؟
- الدراما ليست مجرد ترفيه بل أداة لتشكيل وعى المجتمع. لذا علينا أن نقدم محتوى يعكس الواقع، لكن بشكل يرتقى بذوق المشاهد، ولا مانع من وجود أعمال تجارية، لكن يجب أن يكون هناك إنتاج متوازن يشمل الأعمال الهادفة التى تترك أثرًا إيجابيًا. نحن بحاجة إلى أعمال تتحدث عن قضايا الناس وتعكس التحولات الحقيقية التى تحدث فى المجتمع، بدلًا من الانجرار وراء الأعمال السطحية التى لا تقدم أى قيمة.