الأربعاء 16 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

عراقى فى أسر الست.. يوسف عباس: أم كلثوم أعادت تشكيل اللغة العربية

حرف

- صوت «الست» يظل لغزًا موسيقيًا يحتاج لدراسات وتحليلات مستمرة

- ما زلنا نكتشف قدرتها الخارقة على التحكم بالنفَس والتنقل بين الطبقات

يوسف عباس، مؤلف موسيقى عراقى يعشق القاهرة عشقًا بلا حدود، ففيها عاش وتعلم كيف يضرب أول ريشة على وتر، وكان «بيت العود» فى منطقة الأزهر، مدرسته المحببة إلى قلبه التى تخرج فيها وهو محترف ومتقن للأركان الجوهرية لصناعة المزيكا، فهو يعد تلميذًا أصيلًا لمدير البيت السابق ومواطنه، العازف الكبير نصير شمة.

برع يوسف عباس الذى يصفه بعض جمهوره بـ«معجزة العود» فى مجال الموسيقى التصويرية، فصنع موسيقى عدد من الأعمال المصرية والعربية والأجنبية التى عرض بعضها على منصات عالمية، وحقق تميزًا على مستوى استخدام الموتيفات الشرقية كخلفيات موسيقية لبعض الأعمال الغربية.

وبمناسبة ذكرى رحيل كوكب الشرق أم كلثوم، حاورت «حرف» يوسف عباس بصفته واحدًا من العازفين ومؤلفى الموسيقى الشباب، لمعرفة أبعاد تأثيرات أغنيات أم كلثوم على الموسيقى المعاصرة، وآثار منجزها على الأجيال الجديدة من الموسيقيين.

■ نعيش هذه الأيام ذكرى سيدة الغناء العربى أم كلثوم.. بعد كل هذه السنوات التى مضت على إنتاجها الغنائى ومن وحى تأملاتك الموسيقية.. هل ترى أن هناك أسرارًا لم تُكتشف بعد فى القدرات الصوتية لهذه المطربة العظيمة؟

- بالتأكيد أم كلثوم ليست مجرد صوت عظيم، بل هى مدرسة فنية متكاملة لم تُكشف كل أسرارها بعد.. صوتها يحمل عمقًا استثنائيًا يعكس قدرة خارقة على المزج بين الحضور الطاغى والدقة المتناهية فى التفاصيل.

عند الاستماع إلى تسجيلاتها نجد فى كل مرة أبعادًا جديدة فى الأداء، ربما لم تكن واضحة سابقًا، مثل التحكم الخارق فى النفس أثناء الغناء، والتنقل السلس بين الطبقات الصوتية دون أى عناء.

كما كانت أم كلثوم تستثمر مخارج الحروف لتوصيل مشاعر وأبعاد شعورية عميقة، وكأنها تُعيد تشكيل اللغة العربية ذاتها بصوتها؛ لذلك يمكن اعتبار صوتها لغزًا موسيقيًا يحتاج إلى دراسات وتحليلات مستمرة.

■ من وجهة نظر فنية وموسيقية.. لماذا لم تظهر نسخة ثانية من أم كلثوم؟ هل صوتها يمثل إعجازًا نادرًا أو يصعب تكراره؟

- أم كلثوم ظاهرة استثنائية وليست مجرد مغنية بصوت نادر، بل كانت نتيجة لتكامل مثالى بين الموهبة الفطرية والثقافة الموسيقية العميقة والذكاء الفنى النادر، بالإضافة إلى العمل الدائم على تطوير الذات، والزمن الذى عاشت فيه لعب دورًا أساسيًا فى إبرازها، حيث كان الطرب العربى فى قمته، والجمهور كان يبحث عن العمق والإحساس، وليس فقط الترفيه الفنى، والظروف الثقافية والاجتماعية والفنية ساعدت فى بروز أم كلثوم التى لن تتكرر بسهولة، لذلك من الصعب ظهور شخصية فنية تجمع كل هذه المقومات وتخلق حالة مشابهة.

■ هل ترى أنها كانت محظوظة بمُلحنيها أم أن ملحنيها هم المحظوظون بها؟

- العلاقة بين أم كلثوم وملحنيها كانت علاقة تكامل فنى منقطع النظير، ملحنون عباقرة مثل رياض السنباطى ومحمد القصبجى وزكريا أحمد، وجدوا فى صوتها أداة مثالية لتحقيق رؤاهم الموسيقية وتجسيد أفكارهم الإبداعية على أرض الواقع.

أم كلثوم من جهتها كانت ذكية فى اختيار من يعملون معها، وكانت تطالبهم دائمًا بتقديم أفضل ما لديهم، يمكن القول إنهم كانوا محظوظين ببعضهم البعض؛ لأنهم معًا أسسوا تراثًا فنيًا يصعب تجاوزه، وتركوا بصمة خالدة فى تاريخ الموسيقى العربية.

■ هل هناك تأثيرات فنية لتراث أم كلثوم فى الموسيقى المعاصرة؟

- تراث أم كلثوم هو جزء لا يتجزأ من الهوية الموسيقية العربية؛ حتى الموسيقى المعاصرة تحمل بصماتها بطرق مباشرة وغير مباشرة، تأثيرها يظهر فى أساليب التلحين وتقنيات الغناء وطرق الأداء، وعلى الرغم من التغيرات الثقافية والموسيقية إلا أن أم كلثوم علمتنا أن الفن الحقيقى ليس مجرد لحظة استماع، بل هو تجربة وجدانية وفكرية تعيش فى وجدان المستمع على مدار الأجيال، والعديد من المحاولات اليوم يسعى لإعادة إحياء روحها، سواء فى الأعمال الكلاسيكية، أو من خلال تجارب شبابية حديثة تحمل طابعًا جديدًا.

■ أنت عراقى وتعيش فى مصر وتخرجت فى بيت العود بالقاهرة.. لماذا اخترت دراسة الموسيقى فى مصر؟

- مصر ليست مجرد دولة بالنسبة لى، بل هى مهد الموسيقى العربية وموطن الروح الموسيقية الشرقية، إذا أردت أن تفهم الموسيقى الشرقية فى جوهرها الحقيقى عليك أن تعيش فى هذا المناخ الفنى العريق.

وبيت العود فى القاهرة كان بالنسبة لى محطة استثنائية ساعدتنى فى صقل موهبتى وتوسيع مداركى الفنية، ومن خلال دراستى هناك تعلمت كيف أوازن بين الجذور الشرقية والانفتاح على الأنماط العالمية، وكيف أستخدم الموسيقى كوسيلة للتواصل بين الثقافات المختلفة.

■ لك تجربة مهمة فى صناعة الموسيقى التصويرية خاصة لأعمال أجنبية.. ألم تواجه تحديات فى ظل أن ثقافتك الموسيقية شرقية بالأساس؟

- بالتأكيد كانت التحديات موجودة، لكنها شكلت فرصة رائعة لإبراز قوة الموسيقى الشرقية فى التعبير العالمى، ثقافتى الموسيقية الشرقية منحتنى أدوات فريدة ساعدتنى فى إضافة أبعاد جديدة إلى الموسيقى التصويرية للأعمال الأجنبية، والتحدى الأكبر كان فى الحفاظ على هويتى الموسيقية من جهة، وتقديم عمل يتناسب مع متطلبات السينما العالمية من جهة أخرى، النجاح فى هذا المجال لم يكن فقط كسرًا للحواجز الثقافية، بل كان أيضًا ترجمة للقيم الإنسانية المشتركة بلغة الموسيقى.

■ أنت كمؤلف موسيقى.. كيف تصنع التتر أو الخلفية الموسيقية؟

- عملية صناعة التتر أو الخلفية الموسيقية تبدأ دائمًا من القصة الموسيقية، فهى ليست مجرد أصوات تُضاف للعمل، بل هى عنصر مكمل للسرد الدرامى، أدرس تفاصيل الشخصيات والأحداث، وأبحث عن المشاعر التى قد لا تصل عبر الحوار، ثم أبدأ بترجمتها إلى أنغام ومقطوعات موسيقية، وأستخدم الأدوات الموسيقية كأننى أكتب مشهدًا إضافيًا يجعل المشاهد يشعر بالانسجام التام بين الصورة والصوت، لأن الموسيقى فى النهاية هى التى تعبر عما قد تعجز الكلمات عن نقله.

■ هناك تترات وموسيقى تصويرية لأعمال مثل «زيزينيا» و«حديث الصباح والمساء» و«المال والبنون»، وغيرها ما زالت تسكن وجدان المستمع والمشاهد العربى.. لماذا اختفت تلك الحالة فى الأعمال المعاصرة؟ وهل السبب فنى فقط؟ أم أن ذائقة الجمهور الحالى لم تعد تستوعب هذه الأنماط؟

- اختفاء التترات العميقة التى كانت تتعلق بوجدان الجمهور يعود إلى عدة عوامل، أولها التغيرات الثقافية والاجتماعية التى أثرت فى طبيعة الأعمال الفنية اليوم، فى الماضى كانت النصوص والموسيقى تعملان معًا لتوصيل رسائل ذات عمق وإحساس، كما فى أعمال مثل «زيزينيا» أو «حديث الصباح والمساء»، أما الآن فقد يطغى الجانب التجارى على الجانب الفنى، ما يحد من الاهتمام بالتفاصيل الموسيقية، كما أن الجمهور نفسه تغير وأصبح أكثر تنوعًا وأقل صبرًا لتقدير العمل الموسيقى العميق، لكننى أؤمن بأن الجمهور سيعود لتقدير هذه الأعمال عندما يُقدم له شىء يحمل الروح نفسها.

■ كيف تُصنّف موسيقى التكنو من منظور فنى؟ وهل تستخدمها فى أعمالك؟

- موسيقى التكنو تُعد نوعًا موسيقيا مهمًا للغاية، فقد أحدثت تحولًا جذريًا فى العديد من الأفكار، خاصة فى مجال التأليف الموسيقى.

هذه الحركة الموسيقية التى بدأت فى أواخر الستينيات واستمرت فى التطور عبر العقود، استطاعت أن تشكل هوية متفردة بفضل التكنولوجيا الحديثة، مثل آلات السينثيسايزر التى أصبحت العمود الفقرى لهذا النوع الموسيقى فى أعمالى الأخيرة فى مجال الموسيقى التصويرية.

فقد استخدمت موسيقى التكنو ودمجتها مع موسيقى الرايف بمصاحبة موسيقى العود، ما أفرز شكلًا جديدًا ومتميزًا من الموسيقى، هذا التزاوج بين التقاليد والحداثة أظهر إمكانات لا حصر لها للتكنو، ما يجعلنى أؤمن بأنها تمثل مجالًا واسعًا وعميقًا للغاية، ولا يمكن إغفال أهميتها وتأثيرها فى عالم الموسيقى.

التكنو ليس مجرد أصوات إلكترونية، بل هو رحلة ومزيج من التكنولوجيا والإنسانية فى وقت واحد، كما قال خوان أتكينز، أحد الآباء المؤسسين لهذا النوع، بينما يرى كارل كريغ، أن التكنو العظيم هو الذى يتجاوز الضجيج ويمنحك شعورًا بالحرية، إنها موسيقى تفتح أبواب الخيال، وأذكر أيضًا قول جيف ميلز بأن التكنو هو وسيلة لخلق عالم موازٍ، صوت ينقلك إلى ما وراء الواقع، وكذلك ريتش هوتين الذى عبّر عن أن العظمة فى التكنو تكمن فى بساطتها، فهى موسيقى تبنى جسرًا بين المستقبل والحاضر.

لذلك التكنو العظيم، ليس ضجيجًا عشوائيًا، بل فكرة ورؤية تحمل المستمع إلى عوالم جديدة، ومن هذا المنطلق فإن استخدام هذا النوع فى الإبداع الموسيقى التصويرى يمنحه بعدًا جديدًا يجمع بين الجماليات السمعية والتجارب الإنسانية الفريدة.

■ ألا تشعر بالقلق من أن الـAI قد يلغى وظيفة المؤلف الموسيقى فى القريب العاجل؟ وهل ترى أن الموسيقى الناتجة عنه حقيقية أو بمعنى آخر تمتلك روحًا فنية؟

- الموسيقى فى جوهرها، ليست مجرد أصوات منظمة أو أنغام تُسمع؛ إنها تجربة إنسانية خالصة، لغة تخرج من الروح لتخاطب الروح.

لكن ما يحدث اليوم مع الاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعى فى صناعة الموسيقى يثير الكثير من التساؤلات، وربما الحزن. فقد أصبحت بعض الألحان أشبه بمنتج ميكانيكى لا يحمل أى عمق إنسانى، وكأنها مجرد تكرار لما سبق دون شعور حقيقى أو معنى.

حين تستمع إلى هذه الموسيقى المصنعة بالكامل فى برامج الحاسوب، تفتقد ذلك العنصر الذى يجعلك تشعر بإنسانيتك. لا تجد فيها دموع الفنان، أو لحظات انتصاره، أو حتى آلامه التى صاغها بصوت يعبر عن وجوده.

بدلًا من ذلك، تبدو هذه الألحان كأنها مصنوعة من أجل الكمال التقنى فقط، لكنها خالية من العيوب الإنسانية التى تمنح الموسيقى معناها الحقيقى.

الموسيقى الحقيقية تنبع من مكان عميق فى داخلنا، من تجاربنا وأحلامنا، من لحظات الفقد والفرح، من كل تلك المشاعر التى تجعلنا بشرًا.

أما الموسيقى التى تُجمع فى برامج الحاسوب فهى مجرد أصوات مكررة، ليست لها روح أو بصمة تُميّزها، إنها أشبه بصورة جميلة لكن بلا حياة، وأتذكر قول بيتهوفن: «الموسيقى تكشف ما لا تستطيع الكلمات أن تعبّر عنه»، لكن ما الذى يمكن لموسيقى الذكاء الاصطناعى أن تكشفه؟ هل تستطيع أن تبوح بسر إنسانى، أو تعبر عن ألم دفين؟ هل تستطيع أن تهز أعماقك لأنها جاءت من أعماق شخص آخر؟ المشكلة ليست فى التكنولوجيا، بل فى محاولتنا استبدال العنصر الإنسانى بشىء لا يستطيع أن يكون إنسانيًا أبدًا. التكنولوجيا أداة عظيمة إذا كانت تُستخدم لتوسيع آفاق الإبداع البشرى، لكنها تصبح عائقًا عندما تحاول أن تحل محله.

الموسيقى ليست منتجًا؛ إنها فعل إنسانى، لقاء بين الفنان والمستمع، مساحة تُخلق فيها المشاعر التى تجمعنا كبشر، علينا أن نتذكر دائمًا أن أعظم الألحان جاءت من بشر عاشوا، وتألموا، وأحبوا. ودون هذه التجارب الإنسانية، ستظل الموسيقى مجرد ضجيج، مهما كانت متقنة، لأن ما يجعلها موسيقى حقًا ليس الصوت، بل الروح.