الأربعاء 23 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مين اللى ما يحبش سلوى.. عصفورة التليفزيون تكتب سيرتها من الجنة

حرف

- كريم جمال تسلح بشعر سلوى ليفتح ممرات إنسانية إلى طفلة حرة طليقة تخنقها الأضواء الباهرة

- رسم الكاتب خريطة إنسانية دقيقة لأبطال مأساة الطائرة الذين ظلمتهم شهرة وحضور سلوى حجازى الطاغى

- الكتاب كشف أهمية الأرشيف الصحفى الورقى كمرجع صادق وطازج لتأطير الأحداث القومية والسير الشخصية

- زمن السيرة الذاتية التى تتناول الحياة من الميلاد إلى الرحيل انتهى.. وأتمنى الكتابة عن كل الشهداء العرب

هذه الأضواء كم أكرهها

قيدت حريتى قيدًا عنيفًا

أبعدوها.. أبعدوها.. إنها

شبح يبدو لعينى مخيفًا

بتلك الكلمات التى عرّبها كامل الشناوى عن شعر بالغ الرقة والحساسية لسيدة البراءة الأولى سلوى حجازى بدأ الكاتب كريم جمال أول فصل فى كتابه البديع «سلوى- سيرة بلا نهاية»، ليرسم بشكل مبدئى مسارًا نفسيًا لتلك المرأة التى طاردتها الأضواء حتى باب قبرها، على غير رغبة منها، لكن جموح مواهب سلوى الكثيرة أجبرها أن تكون قرينة الأضواء منذ اللحظة التى دخلت فيها مبنى التليفزيون العربى عصر يوم الثلاثاء ١٢ يوليو ١٩٦٠ وحتى اللحظة التى دخلت فيها قبرها صباح يوم الأحد ٢٥ فبراير ١٩٧٣، وبين هذين التاريخين غاص الكاتب الشاب النابه فى طوفان من أوراق الصحف والمجلات التى عاصرت وكتبت عن سلوى حجازى واستكتبتها، مع كم مهول من المراجع المكتوبة والمرئية، بالإضافة إلى ما تيسر من سطور وهوامش كتبتها سلوى بنفسها واستخرجها أبناؤها من ركام ذكرياتها ليظفر بها كريم فى النهاية، ويُخرج لنا سردية متماسكة ليس فيها لبس لحياة إنسانة مصرية استقرت فى وجدان أجيال متلاحقة منذ مطلع الستينيات ورثت جميعها حب ماما سلوى.

الحق أن الكتاب، الذى استقر لأول مرة فى يد القراء قبل شهور قليلة، غارق فى الصدق والتدقيق بشكل نادر الحدوث، استخدم فيه الكاتب ببراعة كل أدواته ومهاراته البحثية فائقة الجودة، والتى ظهر مدى جودتها قبل ذلك فى كتابه الأول «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى»، حيث أرّخ بدقة شديدة لدور كوكب الشرق العظيم فى الوقوف بجوار وطنها المأزوم بعد نكسة ٦٧، وعلى الرغم من عظمة هذا الكتاب، إلا أننى أظن أن كتاب «سلوى- سيرة بلا نهاية» تفوق إنسانيًا على الكتاب الأول، لأنك تشعر عند قراءته بأنه كُتب بأحاسيس مختلفة غزتها دفقات شعرية شديدة العذوبة والصدق من نظم صاحبة السيرة نفسها، سلوى حجازى، الشاعرة التى بدا أن الكاتب وقع فى غرام شعرها أولًا قبل أن يستجيب لنداهة الباحث للغوص فى تفاصيل حياتها وموتها بالغة الثراء، لذلك جاء المنتج النهائى للكتاب نتاج تفاعل تلك الخلطة السحرية المكونة من قارئ نهم متذوق للشعر وباحث يمتلك زمام أدواته ويروضها كيفما يشاء.

ولا شك أن جيل الثمانينيات الذى أنتمى أنا إليه، أو جيل التسعينيات الذى ينتمى إليه كريم، لم يعاصر وهج ماما سلوى الذى تعلق به آباؤنا، ومن الوارد جدًا أن كثيرًا منا لم يتفهم تمامًا سر هذا التعلق، لكن فُتح لنا بعد ذلك منجم اسمه اليوتيوب ليفسر ما انغلق على عقولنا، بعد أن أتاح ما تيسر من إطلالات بديعة لجيل الرواد الأوائل لمذيعات التليفزيون العربى الفاتنات فى الستينيات، وداعب خيالنا المحب لتلك الفترة الحالمة الحُبلى بالأحلام الكبيرة والآمال الضخمة والنوايا الطيبة التى لم تقتل بكارتها النكسة بكل قسوتها وظلت ذكرى جميلة راسخة فى خيال وطن ذاق حلاوة أن يكون كبيرًا فى كل شىء.

زخر التليفزيون العربى حينها بأسماء لامعة ملهمة، مثل همت مصطفى وأمانى ناشد وليلى رستم وسميحة عبدالرحمن «ماما سميحة»، كل اسم منهن وجد مكانه البارز فى كتاب التاريخ الذى أرّخ لبداية هذا الصندوق السحرى، لكن بقيت سلوى حجازى من بين تلك القامات تمتلك وحدها هالة أسطورية خلقتها نهايتها الدرامية على يد أراذل القوم وأحطهم، لذلك كله كان لا بد أن يأتى فى يوم ما مَن يؤرخ لتلك السيرة العظيمة بشكل دقيق بالغ الرقة يكافئ حياة العصفورة التى ذهبت إلى موضعها فى الجنة قبل خمسين عامًا، وهو بالضبط ما فعله كريم جمال فى كتابه البديع.. الذى تظن لأول وهلة أن سلوى حجازى بنفسها هى التى أملته عليه من عالمها الآخر من فرط صدقه ورهافة لغته.

ممرات إنسانية بالشعر

فى البداية، الكاتب لم يتناول سيرة سلوى حجازى بالمعنى المعتاد، لكنه ارتدى بدلة غوص نفسية ليتعمق فى أغوار نفس مذيعة التليفزيون العربى مستخدمًا أشعارها الرهيفة التى كتبتها بالفرنسية فى مساره البحثى عن تاريخها المهنى منذ دخولها التليفزيون العربى، وخلق مواءمة زمنية بين الاثنين، الشعر والتاريخ المهنى الذى استخلصه من مصادر كثيرة أهمها الأرشيف الصحفى المتضمن حواراتها الطازجة حينها والأخبار المنشورة عنها، واستطاع الكاتب بحساسية فائقة أن يحكى لنا ما كان يعتمل داخل هذا التكوين الإنسانى المدهش من مشاعر وصراعات دفعتها فى إحدى المرات أن تتقدم بطلب لترك التليفزيون فى ذروة نجاحها والذهاب إلى الإذاعة فى شارع الشريفين للاختباء خلف ميكرفونها الطيب بعيدًا عن أضواء الكاميرات القاسية المبهرة التى خنقت حياتها، كما عبّرت عنها فى قصيدة «الأضواء» التى كتبتها بالفرنسية وعرّبها كامل الشناوى، كما قلنا.

التزم كريم جمال بحيلته الذكية فى كل فصول الكتاب المتعلقة بسلوى وحدها، وأقصد بالحيلة هى افتتاح كل فصل بجزء من قصيدة لها تعبّر عن مضمون الفصل وتتماس معه فى تطابق نادر ومثير للإعجاب من دقة الكاتب فى الاختيار، ومثير للدهشة أيضًا من استقراء الشاعرة مصيرها المحتوم قبل سنوات من وقوعه، مثلما بدأ فصل بعنوان «الرحيل» بمقطع من ديوان «أيام بلا نهاية» الصادر عام ١٩٧٠، أى قبل وفاتها بثلاث سنوات، تقول فيه: 

«أود أن أموت كشمس تغيب

بدون ضجيج

أود أن أموت كما ابتلع البحر

دون وداع

بقايا شراع».

أو ذلك المقطع الذى بدأ به الكاتب فصله المعنون «من أوراق الرحلة الأخيرة»، وهو مقطع من نفس قصيدة «الأضواء» التى عرّبها كامل الشناوى وبدأنا بها كلامنا، حيث تقول: 

«بوجهى الأبيض الخالى من الأصباغ ومن أية زينة

وبشعرى الثائر اللامع كالإشراق فى السحب الحزينة

وبأزيائى وأفكارى التى نفضت عنها التفاهات اللعينة

تغمر الروح ارتعاشات السكينة

وإذا جسمى طليق هارب مثل روحى من حماقات المدينة».

ثم أنهى الكاتب استدلاله بشعر سلوى بذلك المقطع العذب من قصيدة «أموت ولا أتعذب»، الذى ترجمه محمد طنطاوى، ليكون بداية الفصل الذى تتبع فيه أثر الرحلة ١١٤ الحزينة التى ذهبت بها سلوى حجازى إلى عالمها الأبدى وتقول فى هذا المقطع: 

«لو الموت يأتى بلطف

كأوراق ريح الخريف

تموت وتهوى لقاع القرار

بدون انتظار».

الراوى العليم داخل طائرة الموت

ألقى الكاتب نفسه داخل الطائرة المنكوبة وارتدى شخصية الراوى العليم ليرسم لنا سيناريو كاملًا لما حدث داخلها من لحظة خروجها من مطار بنغازى إلى اللحظة التى طالتها يد الغدر الصهيونية، لكن كريم لم يستسلم لخيال الكاتب الجامح الذى لا يألو على شىء أمامه، وإنما حاصره بالشهادات المتفرقة التى استخلصها من بين آلاف القصاصات من أوراق الصحف والمجلات والكتب والرسائل والمقاطع التليفزيونية لكل من له علاقة من قريب أو بعيد بأحد قاطنى الطائرة المنكوبة، أو من نجا منها، فى جهد بحثى يؤجر ويُحسد عليه فى نفس الوقت، لذلك كان طبيعيًا أن تكون سردية كريم جمال لما حدث داخل الطائرة سردية شديدة التماسك والمنطقية والرجاحة.

كتب كريم جمال مشهدًا تخيلًا لما كانت عليه سلوى حجازى فى الطائرة بعد أن استقر يقينها أن النهاية قد حضرت تدق أبواب الطائرة المحترقة، وأحب أن نقرأ معًا نص ما كتبه كريم من كتابة عاطفية تمامًا لكنها بنيت على معايشة صادقة على مدار عام ونصف العام لروح تلك الإنسانة النبيلة: 

«كلما تخيلت مشهد النهاية رأيتها ساكنة فى وداعة تحتضن طفلًا فزعًا يجلس بجوارها، تضمه إليها فى خوف ورعب عليه، تحاول تهدئته ماسحة على شعره وهى تروى له حكاية من حكاياتها العجيبة. كانت تريد أن تغادر الحياة راوية للحكايات، تقص للعصافير قصص الأمل والغد، وتراها تطير أمامها بأجنحتها الحريرية دون رهبة فى وطن يسكنه الحق والعدل والحرية».

مشهد عاطفى حالم بامتياز تخيله كريم جمال لسلوى وهى تحتضن طفلًا لتقيله من فزعته وتخطو به بروية وهدوء إلى الموت الحتمى، وهو فى حضنها وكأنها رأت فيه خلال تلك اللحظة الأخيرة كل ما عاشته من أيام حلوة بجوار أطفالها، سواء كانوا أبناءها الأربعة البيولوجيين «رضوى ومحمد وآسر وهانى» أو ملايين الأطفال عبر الأوطان العربية الذين تعلقوا بوجهها السمح الجميل وحكاويها المخلصة من خلال برنامجها الأشهر «عصافير الجنة». وما زادنى احترامًا لهذا المنتج رفيع المستوى الذى أخلص له كاتبه، ما كُتب فى هامش صغير أسفل صفحة هذا المشهد المتخيل للحظات الأخيرة لسلوى حجازى وهى تحتضن طفلًا من الطائرة، حيث يقول الهامش: 

«بعد أن كتبت هذا التخيل عن موت سلوى حجازى، صادفت خبرًا نُشر بعد وفاتها بيومين فى جريدة الجمهورية، مفاده أن مدير عام وكالة رويترز العالمية قال إن مراسل الوكالة كان من أوائل الصحفيين الذين هرعوا إلى مكان الحادث وإنه شاهد بنفسه جثمان سلوى حجازى وسط حطام الطائرة وهى تحتضن طفلًا».

إذن هو الصدق فى التناول والجهد البحثى المضنى الذى بذله الكاتب حتى يصل لتلك المكانة الرفيعة القريبة من قلب وأحاسيس من يكتب عنها حتى لو كانت من سكان العالم الآخر قبل مجىء الكاتب إلى الدنيا بعقدين من الزمان، صدق وتطابق ومنطقية فى سرد الأحداث تجعلك قد تتخلى عن وقارك الفكرى وتظن أن الكاتب قد استخدم بعض التعاويذ السحرية ليستحضر روح سلوى حجازى بنفسها تحكى له كل ما خفى على محبيها من مشاعر النظرة الأخيرة للحياة فى وجه موت حتمى يقف على أبواب الطائرة المحترقة.

تذكر الغائبين.. الكتابة النبيلة

الحقيقة أن كل أبواب الكتاب كانت ثرية ودقيقة، وفيها رصد متزن وربط منهجى منضبط بين الأحداث والوقائع والأشخاص أبطال السردية، الذين أحاطوا بسلوى طيلة حياتها المهنية حتى وفاتها، وهى الفترة الزمنية التى اختارها الكاتب لتكون زمن الكتاب دون التوغل فى حياتها قبل دخولها من بوابة ماسبيرو، فنجد مثلًا رصدًا دقيقًا لرحلتها الأشهر رفقة أم كلثوم إلى باريس، عاصمة النور، فى أول رحلة خارجية للست بعد النكسة لصالح المجهود الحربى، وقبلها نستكشف الأدوار الحقيقية دون زيادة أو نقصان للشعراء الذين أحاطوا بها وتبنوا موهبتها الشعرية، من أول أحمد رامى الذى كتب مقدمة أول ديوان لها، ومرورًا بنزار قبانى الذى تذوقت شعره الثورى وآمنت به مبكرًا، وكامل الشناوى الذى عرّب لها بعض قصائدها بأسلوبه الفذ، وحتى صالح جودت الذى حاول ألا يخرج سلوى من ملعبه الشعرى بتعظيم غير مستحق لدوره.

ثم فصل آخر عن رحلتها الملهمة فى يونيو ١٩٦٩ إلى بورسعيد، مرتع طفولتها، ثم بعدها بعام رحلتها الأخرى إلى مدينة القنطرة غرب بالإسماعيلية، فى مهمة نبيلة لتسجيل ما جرى فى المدن المهجرة على امتداد الساحل الغربى للقناة، بينما العدو الغاصب يمرع على الجانب الآخر منها.

وكان يمكن للكاتب أن يغلق صفحات الكتاب عند اللقطة الأخيرة الحزينة التى تغلق فيها بوابة المقبرة على ما تبقى من جثمان الشهيدة سلوى حجازى، موضوع الكتاب وهمه الأول، وحينها لا أظن الاحتفاء بالكتاب كان سينقص أبدًا، لكنه أنهى الكتاب بمسك يليق بختامه، وهنا أتحدث عن أهم فصول الكتاب فى رأيى المتواضع، وهو الفصل الذى عنونه صاحب الكتاب بعنوان دال على نبل الغاية «تذكر الغائبين»، وفيه يحكى كريم جمال عن إحساسه كلما طالع صورة لشهيد من الشهداء المصريين الذين كانوا على متن الطائرة الليبية، والذين حفلت بهم صفحات الجرائد المصرية منذ نهاية فبراير ومطلع مارس ١٩٧٣، الأمر الذى دفعه للتساؤل النبيل: «إلى متى تبقى سيرة هؤلاء تملأ خزانة التاريخ بلا ذكر واضح ولا توثيق؟ ولماذا كُتب عليهم أن يموتوا على تخوم الحكاية وليس فى صلب متنها؟ ماتوا فى لحظة درامية مفجعة بعد أن تقاسموا فيما بينهم طعم الموت وحرارة الشهادة، بقيت سيرتهم تعانى المحو والشتات خارج التاريخ وسجلاته، مجرد أرقام زائدة على صفحات الجرائد تدل على غيرهم ولا تدل عليهم».

وإذا بنا أمام كنز توثيقى هام أدرك قيمته جيدًا قدر إدراكى لقيمة الصحافة الورقية.. الكنز عبارة عن خريطة إنسانية لكل ركاب الطائرة المغدورة، واقتراب أكثر لكل شخص على حدة مستخدمًا فى ذلك بشكل أساسى ما كتب بين سطور متناثرة داخل أوراق الصحف والمجلات التى غطت الحدث على مدار أسابيع وشهور تالية للواقعة، فى تأكيد لما هو مؤكد من أهمية الصحافة الورقية كمرجع أساسى وأولى وطازج لتأطير التاريخ الشخصى والقومى للأحداث وفهم السياق العام لها. ومن سطر هنا على فقرة من هناك استطاع الكاتب السير فى مسارات مختلفة لتخليق تلك الصورة الإنسانية الكاملة لأبطال مأساة ظلمهم الموت غدرًا، فلا أقل أن ينصفهم التاريخ بذكرهم فى القلب وليس على الهامش، وهذا ما فعله بالضبط كريم جمال فى كتابه الملهم «سلوى- سيرة بلا نهاية».