الإثنين 25 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

«قلب الظلام».. وأكذوبة العالم الحر

أكذوبة العالم الحر
أكذوبة العالم الحر في رواية "قلب الظلام"

فى البدء كان «مارلو» عند جوزيف كونراد، بحارًا عجوزًا يخوض غمار تجربة مدهشة فى أدغال إفريقيا، يعاين عالمًا جديدًا فى رواية «قلب الظلام» للروائى البولندى البريطانى الشهير، الذى قدم تحفة أدبية خالدة تعد من كلاسيكيات الأدب العالمى من جهة، وعملًا فريدًا دافعًا للكتابة الروائية إلى أفق جديد حينها من جهة ثانية. فالرواية التى نشرت مُسلسلة فى العام ١٨٩٩، ثم استوت فى مؤلف واحد فى بدايات القرن العشرين «١٩٠٢»، اتكأت على جغرافيا سردية واسعة امتدت من نهر التايمز إلى نهر الكونغو.

تتناسل الحكايات من رحم ما يرويه السارد الرئيسى عبر بطله المركزى تشارلز مارلو على متن السفينة «نيللى»، فى تدفق حكائى يكشف عن مصادر تجارة العاج، والناهضة على قتل الأفيال الإفريقية، حيث تمثل حكايات القبطان مارلو لزملائه من البحارة ذلك الإطار السردى للعمل الفنى.

وتتعدد وظائف السرد فى «قلب الظلام»، بدءًا من السرد الخبرى الذى ينبئنا عن هذه الرحلة القلقة لاستعادة تاجر العاج الأوروبى «السيد كورتز»، بعد أن شاع خبر مرضه، وأصبحت عودته للعلاج فى أوروبا حتمية، فالسيد كورتز يحظى بمكانة لافتة فى الشركة الأوروبية المهيمنة على تجارة العاج.

يستخدم جوزيف كونراد تكنيك عين الكاميرا camera eye، حيث نرى العالم عبر عينى بطله مارلو، الذى يعاين عالمًا مختلفًا عما عاشه فى أوروبا، لتتعزز المفارقة الدرامية؛ جوهر «قلب الظلام» بين عالمين: أحدهما متحضر ومتقدم، والآخر همجى ومتخلف، غير أن هذه المفارقة الظاهرة كانت تخفى داخلها جوهرًا استعماريًا محضًا، يمثله على نحو أكثر دقة «السيد كورتز» تاجر العاج، والرامز إلى أسطورة التفوق النوعى المزعومة للرجل الأبيض، والذى يحمله مجموعات من العبيد فى مشاهد دالة داخل الرواية عبر موكب تنفتح أمامه الطرق، وتتوقف المشاجرات الدائمة بين أبناء المكان، لقد أوقفنا جوزيف كونراد أمام عالم لا إنسانى، تختصره الكلمات الأخيرة التى تأتى على لسان كورتز قبل وفاته: «الرعب.. الرعب.. الرعب». 

وهى الكلمات التى لم يرد مارلو أن يذكرها لحبيبة كورتز، التى سألته عن آخر الرسائل التى نطق بها، ليخبرها مارلو، المرتبك الرقيق معًا، بأن كورتز قد نطق باسمها حبًا. 

تنهض الرواية أيضًا على توظيف الحوارات الخارجية بين الشخصيات، والتى تأخذ سمة الخطاب كما نرى فى المقطع التالى: «وكما تعلمون، إنى أمقت وأحتقر ولا أتحمل أى كذب، ليس لأنى أكثر استقامة، لكن ببساطة لأن الكذب يرعبنى. ثمة مسحة من موت، طعم من الفناء فى الكذب، وهذا ما أمقته وأحتقره فى العالم وهو نفسه ما أود نسيانه، لأنه يجعلنى تعيسًا ومريضًا كما يسببه تناول طعام عفن فاسد». 

وقد يعبّر خطاب الشخصية الروائية أحيانًا عن مكنونها، وما تخبئه: «لا.. لا أحب العمل، لا أحد يحب العمل، لكنى أحب ما فى داخل العمل. الفرصة بأن تجد نفسك، تحقيق ذاتك الشخصية، لنفسك، وليس للآخرين، ما يمكن ألا يعرفه أى شخص آخر. يمكن أن يروا مجرد العرض فقط، لكن ليس باستطاعتهم أن يخبروا ماذا يعنى». 

يترك تاجر العاج تقريره عن القمع الوحشى مع مارلو، وهو التقرير الذى ينتظره ممثل الشركة لا لدواعٍ إنسانية، ولكن لأسباب براجماتية خالصة تتعلق بمعرفة أماكن العاج. 

وتكشف الرواية فى جانب أصيل منها عن علاقة المستعمِر بالمستعمَر، عن جدلية السادة والعبيد، فكورتز نفسه قد أصبح مقدسًا لدى القبيلة التى تتعاون معه، وتعمل تحت إمرته، إن هذا المنحى يعد تعبيرًا عن تلك الثنائية الشهيرة عن الاستعمار والقابلية للاستعمار من جهة والتى طرحها مالك بن نبى، وفى بعدها الأكثر عمقًا فإنها، ومن جهة ثانية، تتماس مع ما أورده المفكر الفلسطينى العالمى «إدوارد سعيد» فى كتابه «الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء» الذى حوى ضمن ما حوى نقدًا لخطاب الاستعمار، ومعاينة لفكرة التنميطات الجاهزة التى يريد الغرب تدشينها فى الذاكرة الجمعية للآخرين، وهى الفكرة التى اكتست بطابع محدد فيما أسماه إدوارد «شرقنة الشرق»، حيث الشرق كما يريده الغرب، وكما يغرسه فى المخيلة العامة للشرقيين أنفسهم. 

حوى خطاب إدوارد سعيد نقدًا للأدب الكولونيالى، وأصبح صنيعه الفكرى من الأسس التى انبنت عليها دراسات ما بعد الاستعمار. 

وربما تأتى القيمة الجمالية والفكرية لرواية «قلب الظلام» من حيث كونها أيضًا كاشفة لتلك التمايزات، وهذا ما جعل سعيد يعلن بوضوح بأن جوزيف كونراد: «يجعلنا نحس بأنه يحاول أن يخرج من الدائرة التى وضع نفسه فيها، ليصل بنا إلى واقع ملموس خارج الوصف البشع للاستعمار الذى ينشغل به ذلك الواقع، الذى يمكن فى الوقت نفسه أن يكون مناهضًا للاستعمار ذاته». 

لقد كان لافتًا أن كونراد يتعامل مع معتقدات الأفارقة وطقوسهم وأفراحهم بأنها ليست أكثر من صخب بلا معنى، وهى نظرة استعلائية، افتقدت إلى محاولة تأمل السياق الاجتماعى والميثولوجى الذى تحيا فيه القبائل الموغلة فى واقع قديم، وربما كانت التوصيفات النفسية التى أحاطت بمسارات السرد فى الرواية هى ما منحتها جدارتها مع الغموض المدهش الذى أحاط بالرحلة ككل، فتاجر العاج الأبيض كان واعيًا بسيكولوجية الأفارقة المحيطين به، وكان يومئ ويأتى بحركات وإشارات تجعلهم فى حال من الخضوع لتلك القوة المتوهمة التى أضحت لديهم من خوارق الطبيعة، وقد مثلها كورتز، وعبّر عنها السرد بديناميكية هائلة: «يجب أن نأخذهم بالقوة كالآلهة». 

لم يكن نص جوزيف كونراد كتلة واحدة، وكانت تجربته الروائية «العميل السرى»، على سبيل المثال، مغايرة عما صنعه من قبل، فقد خرج فيها بكتابته من أجواء حميمة وإنسانية، ومفعمة بالقسوة والاستغلال فى الآن نفسه، بطلها بحاره العجوز دائمًا مارلو، وإذا كان البحث عن «العاج» فى قلب الظلام محاولة لاستكشاف الإنسان المقموع بفعل العنصرية والتمييز، فإن العميل السرى لم يكن سوى شخص يضع نفسه فى خدمة فكرة غوغائية أيًا كانت، تستولى عليه، وتحيله إلى مهووس بها، فيفعل أى شىء فى سبيلها، فالبطل المركزى فى الرواية «أدولف فيرلوك»، ينخرط فى جماعة فوضوية، وحينما تقوم إحدى المنظمات الإرهابية بتفجير مرصد جرينتش يسعى للتأثير غير العادل فى سير التحقيقات التى تجريها السلطات حول الانفجار، أما زوجته الوديعة التى تستنفرها تناقضات زوجها، وشبكة العلاقات الاجتماعية المحيطة بها وبأخيها المريض، فتبدو جميعها كاشفة عن عالم ثرى فنيًا ودلاليًا، لكنه يظل على المستوى الإنسانى مأزومًا بامتياز، يقوده الشر والتوظيف الممنهج للبشر واستخراج أحطّ ما فيهم.

وبعد.. تسعى الرواية إلى معاينة فكرة الإنسان، إلى البحث عن ذلك الداخل الثرى، وتلمس العصب العارى داخله، ومساءلة الجاهز والنمطى، واستكشاف مناطق مجهولة فى الذات والعالم معًا، وهذا عين ما فعله جوزيف كونراد بجدارة، وشغف معًا.