فى عيد ميلاده الـ87
اللا منتمى.. لماذا انحاز سمير العصفورى للمسرح الشعبى؟
- سافر إلى فرنسا ليكمل دراسته وعاد ليقدم مسرحًا مصريًا بكل أطيافه
- سوف يظل سمير العصفورى أحد أهم مخرجى المسرح ليس فقط المصرى بل والعربى عن جدارة منذ يعقوب صنوع وعزيز عيد وحتى وقتنا هذا
هبط يوسف بك وهبى من سيارة أجرة قديمة مزدحمة بمجموعة من البشر الذين يرتدون ملابس التمثيل، وكان هو يرتدى ملابس بيومى أفندى بعد أن شاخ وتقدم به العمر، هبط بصعوبة من بين الركاب الذين يجهلونه تمامًا، بينما كنت أقف فى شارع عماد الدين الذى كان ما زال يحتفظ بكامل بهائه وعمارته المسرحية فى بداية القرن العشرين، أمسكت بيده وهو يهبط فوضع يده على كتفى، كان جسده الذى تضاءل يكاد يتلاشى فى السترة الطويلة الفضفاضة، ولا يزال محتفظًا بكامل هيئته لهذه الشخصية، الطربوش والعصا، والنظرة الطيبة التى تفيض بالمحبة والرضا، وقال لى مباشرة ودون مقدمات: لا تصدّق سمير العصفورى! كان مرهقًا وحزينًا، وأشار إلى مقهى لم أنتبه لوجوده فى الجهة المقابلة لمسرح الريحانى، رفع عصاه ناحية شخص يجلس إلى جوار النافذة ويصوب عيناه ناحية السماء فى جزء معتم من المشهد رغم أننا كنا فى وضح النهار، وقال لى: أبلغ صديقك أننا لا نجرجر الأكفان فنحن صنّاع النهضة المسرحية إذا كان لا يعلم! وكان يقصد الناقد فاروق عبدالقادر، لم أتكلم كنت فقط أستمع، استيقظت ولم أحكِ هذا الحلم لأحد، لكننى حاولت أن أعرف، لماذا اجتمع الثلاثة فى حلم واحد، ولماذا اقتحموا منامى؟
حدث ذلك تقريبًا عام ٢٠١٤ وكانت تدور بينى وبين سمير العصفورى مناقشات يومية تمتد بالساعات حول أزمة المسرح المصرى، وفجأة قال لى إنه سوف يعتزل الإخراج!- وبالطبع لم تكن المرة الأولى- فلا فائدة هذا ما قاله لى وأكمل: هؤلاء لا يريدون المسرح، صدقنى إنهم يكرهون المسرح، وكان يقصد المسئولين أو بالتحديد من يديرون العملية المسرحية فى مصر/ مسرح الدولة، وقبل سنوات من هذا الحلم أيضًا دار نقاش حاد بينى وبين الراحل فاروق عبدالقادر حول ما كتبه عن يوسف بك وهبى عام ١٩٦٨ حين قدم مجموعة من عروضه فى مسرح الجمهورية، حيث كتب مقالًا شديد اللهجة انتقد فيه هذا النوع من المسرح وصاحبه، وفى نهايته وجه رسالة إلى عميد المسرح العربى: «يا عزيزى يوسف بك وهبى بأعوامك الثمانين، وطربوشك المائل إلى اليمين، تبعث الصور القديمة فى غيبة البديل الحقيقى، وإذا فشلنا فى أن نقدم فكرًا وفنًا جديدين، فلا يجوز أن نلوم أحدًا إذا استبدت الصور القديمة، وخرجت الموتى تجرجر الأكفان». وكان يقصد بالموتى يوسف بك وأعماله! وفى محاولة فهم هذا الحلم سألت نفسى لماذا لم يقم بهذا الدور حمدى غيث الفنان الذى قدم العصفورى إلى عالم المسرح كمخرج محترف، حتى وإن كان بين العصفورى ويوسف وهبى حكايات ومواقف لا تخلو من دلالة، ولماذا استدعى عقلى الباطن يوسف وهبى ليمنع سمير العصفورى من الاعتزال فى الحلم؟ أعرف أنه كما حكى لى أى العصفورى حاول اقتحام عرين الأسد والتعرف على يوسف بك إعجابًا وتقديرًا، وبعد عدة لقاءات عابرة، حيث جمع بينهما المسرح مع المخرج كمال يس فى مسرحية «نور الظلام» وحكى لى أيضًا عن دعوته إلى مسرحية «زنزانة المجانين» فى مسرح الطليعة، ولكن هذا لم يكن كافيًا لبعث يوسف بك فى ملابس بيومى أفندى الساعاتى ليتدخل فى حياة سمير العصفورى المسرحية! فهل لأن قناعتى الشخصية منذ أن عرفته وأنا أشاهده صاحب مسرح وفرقة فى شارع عماد الدين أو هكذا كان يليق به فى عشرينيات القرن الماضى ليقدم مسرحية فى الشهر على الأقل، ربما كان هذا مبررًا للحلم! لقد حدثنى كثيرًا عن يوسف وهبى وهذا الجيل، ومن يتأمل حياة العصفورى ومشواره المسرحى يشعر بأنه ينتمى إلى حقبة الرواد الأوائل، فهو امتداد لهذه النهضة وكان يليق به أن يعمل مع عزيز عيد الذى أدى دوره فى مسلسل تليفزيونى فيما بعد، فهو من الجيل الذى قدم مسرحًا للشعب حتى إذا استعار أحدهم نصًا أجنبيًا أشبعه تمصيرًا ليظن مشاهده أنه ولد وكتب فى مصر، حيث الروح المصرية تسيطر على المسرح، والأعمال فى بنائها العميق تشكيل جمالى مؤقت فى الزمان والمكان والموضوع، يتحقق من خلالها حضور إنسانى يفيد أخلاقيًا واجتماعيًا، ليجسد فى النهاية الفعل الجماعى الشعبى، ورغم انتمائه إلى جيل الستينيات أو السبعينيات الذى اهتم معظمه بتقديم النظريات والمدارس المسرحية الحديثة على المسرح!
فمنذ أن عرفته وأنا لا أستطيع أن أشاهده بمفرده فى الحياة أو على خشبة المسرح، فدائمًا ما ستجد خلفه وإلى جواره وأمامه حشد من المسرحيين لا يفارقهم ولا يفارقونه وكأنه يصافح كل يوم طابورًا طويلًا يبدأ من جورج أبيض وعزيز عيد، ويمر بيوسف وهبى ونجيب الريحانى ووصولًا إلى حمدى غيث ونبيل الألفى وسعد أردش وكرم مطاوع، فقد عاصر وتأثر بكل التيارات الفنية المسرحية التى تعرض لها المسرح المصرى سواء فى النصف الأول من القرن العشرين، أو مرحلة ما بعد يوليو ١٩٥٢ وما يعرف بنهضة الستينيات، فلم يكن كغيره حبيس قالب مسرحى واحد أو مدرسة واحدة، حفظ أسلوبًا وآمن به وارتاح إليه وانتهى الأمر مثل أجيال عديدة ظهرت فى سبعينيات القرن الماضى! واستمرت فى العقود الأربعة الأخيرة تجتر ما حفظته من مناهج أو نظريات فارغة وتقدم مسرحًا للمقاعد الخالية أيضًا وفى أحسن الأحوال للمسئولين ولجان التحكيم! لكن سمير العصفورى ابن المدرسة المسرحية المصرية التى تأثرت منذ نشأتها بكل التيارات الغربية وحاولت أن تجد لنفسها مكانًا فى عالم المسرح من خلال هضم واستيعاب هذه المدارس والبحث عن مسرح مصرى أصيل ذى طابع شعبى يستفيد من فنون الفرجة، ومن التيارات المسرحية الحديثة، ويطرح أسئلة الواقع وأرى أنه «اللا منتمى» الذى لم يقف أو يحبس نفسه فى أسلوب أو اتجاه، إذ قدم بريخت ويونسكو ودورينمات وأحمد شوقى وبيرم التونسى وتشيكوف وت.س إليوت، ثورنتون وايلدر، بيراندللو وصلاح عبدالصبور وميخائيل رومان ولوركا، وشوقى عبدالحكيم ونجيب محفوظ، وقدم أعماله فى مسرح الدولة سواء مسرح التليفزيون أو هيئة المسرح أو الثقافة الجماهيرية، ومسرح القطاع الخاص، وفى كل الأحوال يعتبر نفسه صاحب العرض تأليفًا وإخراجًا وتمثيلًا، فهو شريك فى كل مفردات العرض المسرحى، الكتابة والتمثيل والغناء، ولكن لا يشارك أحد رأس العصفورى فى فكره ورؤيته، إذ يصف نفسه: «أنا رجل أقرأ الحكايات التى يكتبها الآخرون وأعيد قراءتها وأرويها أمام الناس مستخدمًا كل الحيل الفنية التى تجعل الحكاية جميلة ومدهشة»، والعصفورى صاحب حيل عظيمة وقدرات لا يعرفها ولا يمتلكها سواه، وقد استمد هذه الحيل من حياة حافلة بالدراسة فى مصر وفرنسا ومن العمل والتلمذة على يد كبار المسرحيين ومن القراءة المستفيضة والدائمة فى شتى مفردات العرض المسرحى، فهو ينظر إلى هذا الفن على أنه «حرفة وليس قيمة إضافية زائدة للحضارة»، وقد توقفت أمام هذا التوصيف كثيرًا فهو يدل على شخصيته المسرحية، فالمسرح بالنسبة له حياة بكل معناها أو قل بمعناها العميق، والجمهور يذهب إلى المسرح لا ليشاهد نفسه فقط بل ليعيش جزءًا من حياته اليومية، ودائمًا ما يمزج العصفورى فى رؤيته للمسرح بين حملة الشواكيش والمقشات الذين يعملون فى المسرح جنبًا إلى جنب مع حملة الفكر وفلسفة المسرح، وهذا ما جعله يقدم المسرح للجمهور وليس للمقاعد الفارغة، فزمن العرض جزء مستقطع من الحياة اليومية، وليس من المدارس والنظريات التى يطبقها البعض كحمار يحمل أسفارًا. لقد تعلم المسرح فى قاعة الدرس فى معهد الفنون المسرحية وذهب إلى بلاد المسرح ليشاهد عروض الكوميدى فرانسيز والأبديون ومسرح المدينة «سارة برنار سابقًا» والأوبرا كوميك وكل مسارح قصور الثقافة الباريسية، ومن قبل ومن بعد مارس فن المسرح فى المدرسة فى بورسعيد ثم فى جامعة عين شمس فى كلية الآداب قسم اللغة العربية ليدرس اللغة العربية وآدابها على يد د. عبدالقادر القط ومهدى علام والمعيد فى ذلك الوقت عزالدين إسماعيل، وقبل أن يدرس أرسطو وشكسبير ويتعرف على يونسكو وبيكت وسارتر، سافر إلى أسلافه العرب ودرس أبوتمام والبحترى والمتنبى والشعراء الصعاليك وسيبويه وألفية ابن مالك والنحو والصرف، وربما حفظ سينية البحترى ونونية ابن زيدون ومعلقة عمرو بن كلثوم أو حتى أبياتًا من هذا التراث وصولًا إلى الأدب الحديث وشعراء المهجر، جبران خليل جبران وإيليا أبوماضى، وذلك إلى جانب هاملت وعطيل ومكبث وثورنتون وايلدر ودورينمات مع بيرم التونسى وأحمد شوقى، والمخرج المسرحى سمير العصفورى مزيج من كل هؤلاء أو قل ناتج هذه الثقافات المتعددة بكل أطيافها! فحين يقدم ياعنتر ليسرى الجندى يقدم شخصية من التراث العربى من شعراء الجاهلية برؤية معاصرة تجسد شخصية هذا المخرج.. وحين يقدم الإخوة كارامازوف لدوستويفسكى تتحول إلى أولاد على بمبة وهبط الملاك فى بابل لدورينمات تصبح سلطان زمانه، وهكذا فى كل أعماله وجميع مراحله الفنية.
فى سيرته الذاتية «المسرح وأنا» يحكى صفحات عن طفولته التى سوف تحدد شخصيته فيما بعد، فقد نشأ ونما وعيه مع إنزال صورة الملك فاروق من على الحوائط ووضعها فى المخازن أو التخلص منها، وبمعنى أدق التخلص من حقبة تاريخية بكل مفرداتها ليس فقط السياسية بل الثقافية والاجتماعية! وصعود نجم الحركة المباركة كما كان يسميها توفيق الحكيم أو ثورة يوليو فيما بعد بكل أحداثها وأفكارها فهو ابن هذه الحركة، الابن المخلص، اقتحم العدوان الثلاثى مدينته بورسعيد ودراسته الجامعية أيضًا، فهو من الجيل الذى آمن بالمسرح ودوره تحت وابل من قصف ثلاث دول بالمدفعية لمصر، آمن بدور المسرح على ضوء الشموع أثناء الحرب، لقد عرف المسرح فى المدرسة ثم فى الجامعة، مارس الإخراج والتمثيل وقدم العديد من المسرحيات، وقبل أن يلتحق بمعهد الفنون المسرحية كان قد عمل مخرجًا مسرحيًا ودرس اللغة العربية، ثم سافر إلى فرنسا ليكمل دراسته وعاد ليقدم مسرحًا مصريًا بكل أطيافه بدءًا من كلاسيكيات المسرح العالمى وصولًا إلى المسرح الاستعراضى بطولة الراقصة فيفى عبده ومرورًا بكل الاتجاهات والأساليب المعاصرة والقديمة، الشعبية وما بعد الحداثية.
وسوف يظل سمير العصفورى- ٢٧ فبراير ١٩٣٧- أحد أهم مخرجى المسرح ليس فقط المصرى بل والعربى عن جدارة منذ يعقوب صنوع وعزيز عيد وحتى وقتنا هذا، ليس لأنه قدم عروضًا مسرحية مدهشة على المستوى التقنى، ليس لأنه درس وتعلم وقرأ كما يجب وتتلمذ على يد كبار المسرحيين من جيل الأساتذة، وليس فقط لأنه لا يؤمن بالفهلوة والبلطجة والنفاق وهى طرق يستخدمها البعض فى الإخراج والتأليف والتمثيل والكتابة، بل درس وتعلم جيدًا وسافر إلى أوروبا وعاد أكثر وعيًا بقيمة المسرح المصرى، ليس لأنه برع فى المسرح العالمى والمسرح الشعبى المصرى ومسرح القطاع الخاص، وقدم التراجيديا والميلودراما والعبث والكوميديا والمسرح الاستعراضى، بالإضافة إلى كل هذا استطاع سمير العصفورى منذ أعماله الأولى أن يقرأ بعمق الواقع المصرى، وأن يجسّد على خشبة المسرح وينقل ليس فقط قضايا الواقع ولكن إيقاع اللحظة الراهنة، فحين يدخل المشاهد إلى عروضه لا يشعر باختلاف كبير بين زمن العرض والزمن الذى يعيشه فى يومه العادى خارج المسرح، فكل المفردات على مستوى الصورة والحركة والحوار تؤكد على هذا الإيقاع، وأذكر أننى سألته مرة عن أسباب اللجوء إلى التراث والمسرح الشعبى بعد عودته من البعثة الدراسية فى فرنسا ولماذا قدم شوقى عبدالحكيم وبيرم التونسى ويسرى الجندى، وكان قد قدم قبل السفر مجموعة من روائع المسرح العالمى، الدرس ليونسكو ورومولوس العظيم لدورينمات والخاطبة لثورنتون وايلدر، وجسر أرتا لجورج ثيوثاكا، فقال لى: بعد العودة من لحظة تاريخية وهى معايشة ثورة الطلاب فى فرنسا ٦٨، وخاصة فيما يتعلق بالمسرح الذى كان له تأثير كبير ليس فقط فى فرنسا بل فى العالم كان لا بد أن أعيد النظر فى أشياء كثيرة، وأضاف: كنت فى لقاء مع سعدالله ونوس فى ضيافة وحيد النقاش فى باريس وكان هناك مجموعة من العرب، وسألنى ونوس لماذا تقدم مسرح العبث، أين قضايا الواقع العربى، أين القضية الفلسطينية، وشعرت بأن الأسئلة ليست غوغائية، بل تنم عن وعى سياسى، وكان وحيد النقاش منحازًا لى، نعم همى لم يكن تقديم قضايا الواقع كما وصفها ونوس، لم أكن منحازًا للهموم الواقعية، كان همى تدمير ما هو موروث من أشكال لم تعد صالحة لزماننا، وإعادة بناء ما يناسب الواقع، ودار الحديث حول مسرح عربى، ومن يومها وأنا أفكر وكانت النتيجة ما قدمته.. وكانت النتيجة المغامرة غير المحسوبة التى يخوضها فى كل عرض مسرحى.
أقول له فى عيد ميلاده السابع والثمانين:
«إذا كان عزيز عيد قد وضع قواعد للإخراج المسرحى وهو أول من حدد ورسم دور المخرج المسرحى وأهميته فى العرض فى بداية القرن العشرين، فإن سمير العصفورى بلور فكرة المخرج المسرحى المصرى، فثمة هوية للإخراج المسرحى المصرى تبلورت على يد سمير العصفورى وفى أعماله وإن كان آخرون من قبله مهدوا الطريق الذى سار عليه، ففى كل أعماله سواء فى المسرح العالمى، أو العروض القائمة على نصوص مسرحية مصرية أو أعمال القطاع الخاص التى لا تعتمد كثيرًا على النص، ثمة هوية واضحة للعرض المسرحى المصرى الذى يستفيد من كل الظواهر التراثية وأيضًا المدارس الغربية الحديثة».