فيروز كراوية
يظن الكثيرون إنه الجدية فضيلة «شخصية»، يعنى انطلاقها بـ يكون من دوافع تخص الشخص، ومردوها بـ يكون عائد على الشخص، والمجتمع مالوش علاقة بـ القصة دى، والكلام دا بـ تلخصه ما نعلمه لـ أطفالنا دائمًا بـ عبارة أو بـ أخرى: من جد وجد.
إنما مفهومى الشخصى لـ الجدية غير كدا، بـ أعتبر الجدية هو نوع من الوعى، أساس الوعى هو القدرة على التمييز بين القيم المختلفة، بـ غض البصر عن إعلاء قيمة على أخرى، إنما إدراك الاختلاف بين القيم، والقدرة على قياسها، هو دا ما نسميه الوعى، لـ ذلك مفيش علاقة بين الوعى وحجم القراءة مثلًا، إنما الوعى بـ بساطة إنك ما تخلطش أبو قرش على أبو قرشين.
لما يزيد الوعى دا، بـ تبقى «شايف»، ولما بـ تشوف مش بـ تقدر تتعامل مع الأمور بـ بساطة، وبـ تبقى شايف خطورتها، وأهميتها وتأثيرها، بـ التالى غصب عنك مش بـ تتعامل معاها بـ خفة، حتى لو حبيت تعمل كدا، مش هـ تعرف، ودا اللى بـ يوصفه المتنبى:
وكلمة فى طريق خفت أعربها
فيهتدى لى، فلم أقدر على اللحن.
اللى هو أنا عايز أقول الجمل غلط نحويًا، لـ إنه كان متخفى ومطلوب سياسيًا، فـ مش عايز يبان إنه شاطر فى اللغة والحاجات دى، لكن مش عارف، الأمر هنا لا يتعلق بالصواب والخطأ، إنما بأنه مش قادر يستهتر بـ قواعد النحو، حتى لو عايز.
لـ ذلك، نادرين جدًا اللى قابلتهم، ويمكن وصفهم بـ الجدية كـ سمة أساسية عندهم، صحيح النسبة تتفاوت من شخص لـ شخص، وفيه «س» أكتر جدية من «ص»، لكن إنك لما تفتكر فلان، دا يستدعى لـ ذهنك فورًا كلمة «جادّ»، دا نادر، ومن النادرين دول فيروز كراوية.
أفتكر إنها قالت لى مرة إنها عايزة تتعلم «عروض»، والعروض، هو أوزان الشعر كما صاغها الخليل بن أحمد الفراهيدى، فـ أشفقت عليها، لـ إنه دى حاجة قديمة وممكن تاخد مجهود، ثم ليه؟ ليه؟ إزاى أسأل ليه؟ هو فيه حد ممكن يتصدى لـ الغناء سواء ممارسة أو تحليل ونقد من غير ما يكون عنده معرفة بـ العروض؟
طيب، المشكلة إنه صعب تعرف العروض من غير معرفة النحو والصرف. خلاص يبقى أتعلم نحو وصرف أولًا، وفعلًا قعدنا نذاكر نحو وصرف وعروض وتاخد واجب وتحله، وأظن إنه الموضوع ما كانش بسيط، لكن ثابرت جدًا، والمثابرة مش لـ إنها عندها فائض طاقة مش عارفة توديه فين فى ظل التزامات عملية واجتماعية، إنما هو بـ الأساس جدية، نتيجة وعى حصل عن طريق إدراك القيمة والأهمية.
ملحوظة على جنب: ممكن يكون تقديرك لـ القيم مختلف، وتكون شايف الأمر يستلزم إعلاء قيم أخرى، إنما دا مش موضوعنا دلوقتى.
المهم، مش عايز أختزل فيروز كـ شخص وكـ ذات تجارب ثرية فى الفضاء الثقافى بـ وجه عام، كـ مطربة وباحثة، فى الحتة دى، لـ إنه الكلام عن إنتاجها يطول، فقط عايز أشاور على حاجة مفتقدة جدًا حتى عند نخبتنا، أو بـ الأحرى بـ الذات عند نخبتنا، لـ إنه كتير من صعوبة الحال راجع لـ افتقاد الجدية دى.
افتقاد الجدية يعنى إهدار المعايير، وإهدار المعايير يعنى توسيد الأمور إلى غير أهلها، وتوسيد الأمور إلى غير أهلها يعنى إنتاج قليل، والأمر دا فى الفن أو الثقافة أو فى أى منحى من مناحى الحياة.
ما أرجوه فقط هى إنها ما تزهقش، لـ إنه بـ جد، الجد صعب.