لماذا أحب بيرم التونسى؟
كنت وما زلت كلما قرأت أشعار بيرم التونسى أشعر أن اللغة كانت طيعة فى فمه تهرع إليه حين يطلبها دون عناء، كلمات مصرية خالصة تجسّد لغة الشعب وقتذاك، بل روح اللغة المصرية، تهرع إليه من الشوارع والحارات والمقاهى، من أفواه البؤساء والجوعى، حتى من عند اللصوص والمحتالين، فلم يكن هذا الشاعر العظيم يعنيه أن يكون شاعرًا أنيقًا صاحب أسلوب من النخب «رغم أنه صار صاحب أجمل أسلوب» كان يعنيه أن يكتب شعرًا للناس، فعلى الرغم من النجاح الساحق الذى حققته قصيدة المجلس البلدى التى كتبها باللغة الفصحى، وكان يصف نفسه ويشير إليه الناس بصاحب قصيدة المجلس البلدى، إلا أنه اتجه إلى الشعر العامى، إلى الزجل لأنه كان يعرف أن 95% من المصريين فى بداية القرن العشرين لا يجيدون القراءة والكتابة، فلم يكن مجرد شاعر عامية أو زجّال كبير، فقبله وبعده كثيرون، لكنه وضع قاموس الشارع المصرى بكل أطيافه فى قصائده، ما دفع أمير الشعراء أحمد شوقى أن يخشى على الفصحى منه، وهذه الخشية من جماليات شعر بيرم التى دفعت الجميع حتى أعدائه لحفظ شعره، فقد كانت الكلمات تذهب إلى قصائده عارية تمامًا من كل زخارف البلاغة تذهب بكامل مشاعرها، وكانت اللغة تطيعه لأنه عاش حياة ثرية حقيقية مؤلمة ما بين القاهرة والإسكندرية وباريس وليون ومارسيليا وتونس، وسوريا، وكان إلى جانب اللغة الفرنسية يتقن لهجات عديدة منها الصعيدى، والبدوى، واللهجة التونسية.
لقد قاسى بيرم التونسى «23مارس 1893- 5 يناير 1961» فى حياته كأحد أبطال المآسى الكبرى منذ طفولته وحتى موته مرورًا بكل مراحل حياته، حيث بدأ رحلة الشقاء فى سن مبكرة ليعمل فى عشرات الحرف بدأت بصبى البقال، ثم تجارة السمن والجبن فى الإسكندرية، وفى مارسيليا عمل فى مصانع الصلب، ثم شيالًا يحمل صناديق البيرة وحقائب المسافرين فى مدينة ليون، ثم عمل فى شركة للصناعات الكيماوية وكان هذا بمثابة انتحار بطىء وتم نقله إلى المستشفى بعد أن سقط مريضًا، وبعدها عمل فى مصنع للحرير الصناعى ويمرض مرة أخرى نتيجة للغازات الخانقة، ويتم فصله فى النهاية، كل هذه الأعمال فى مدن وحرف مختلفة، جعلته رغم قسوتها منبعًا لا ينضب من التجارب الثرية والشخصيات الحية التى كانت تزخر بها قصائده، فالحياة عند بيرم التونسى، رحلة للبحث عن الحياة، سلسلة من التجارب الفاشلة فى مظهرها، وكأنه ممثل أدى عشرات الأدوار على مسرح الحياة بحثًا عن الدور المناسب، وكان أداءًا شاقًا وصعبًا، فقد فشل فى دور التلميذ فى الكتاب، ثم فى دور البقال، وفشل فى دور تاجر السمن، لكنه نجح نجاحًا مدويًا فى دور الشاعر حين كتب أولى قصائده لينتقم من المجلس البلدى، ولعب دور الصحفى فى مصر وباريس، حيث بدأ فى الإسكندرية بمطبوعة أطلق عليها «المسلة لا جريدة ولا مجلة» حتى يهرب من التصريح وكان يوزعها بنفسه بعد أن كتبها بنفسه أيضًا وكتب على الغلاف العدد الأول بقلم محمود بيرم التونسى صاحب قصيدة المجلس البلدى ثم ذهب بها إلى القاهرة، وفى العدد الثانى اتهمه الشيخ محمد بخيت، مفتى الديار المصرية بالإلحاد والكفر، بعد أن هاجم تجار الدين والتدين الزائف فى أزجاله، وفى العدد 13 هاجم الملك فؤاد وابنه فاروق، فتم إغلاق المسلة على الفور، وحاول بيرم إصدار مجلة أخرى تحت عناون «الخازوق « وأصدر منها عددًا واحدًا وبعدها تم نفى بيرم حتى عام 1939، وتقريبًا حارب بيرم الجميع، كان ضد العالم، الملك والإنجليز والحكومة وتجار الدين والنصابون وأهل المغنى، والفنانون، كان ضد العالم، وهذا ما يخبرنا به فى شعره «يا أهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقة سكوت للهى وهاجم الفن قائلًا «الفن فى الشرق منه قلبنا ممغوص، من كتر ما بيجلب الأوخام والأوجاع، أصبح هلاهيل لابسها مُدعى بلبوص على المسارح وع الشاشة، وفى المذياع «لدرجة أنه كتب يقول: أهل الفنون كلها يلزمها تتربى هذا عنوان قصيدة وفيها بقت صناعة الأدب يا مؤلفين إجرام، أمريكا شبعت علينا ضحك وأوروبا، لم يكن راضيًا عن المجتمع، ربما حالة المرارة والأسى التى خلفتها سنوات المنفى ورغبته العارمة فى العودة جعلته ناقمًا على المجتمع.
فى شعر بيرم التونسى ليس فقط تاريخ وجغرافيا، سياسة، عادات، تقاليد، بل تشاهد فيها الشوارع والحارات والبيوت، بل وسكانها من الداخل وملابسهم وطعامهم والأثاث والحيطان وأحزانهم وضحكاتهم، فقد رسم بيرم التونسى صورة حية، بل قل مئات الصورالوصفية، والمشاهد الدرامية للمجتمع المصرى فى كل جوانبه، رسمها بالكلمات من خلال انفعاله بتفاصيل الحياة اليومية، فمن يقرأ شعر بيرم التونسى يمكنه دراسة الأزياء التى كان يرتديها المصريون على اختلاف الطبقات الاجتماعية التى ينتمون إليها فى ذلك الوقت، كما يمكنه أن يتعرف على أنواع الأطعمة وطريقة تناولها، وأيضًا العادات والتقاليد فى الزواج والطلاق والأفراح والأحزان، حيث أخذ على عاتقه منذ أول قصيدة كتبها «المجلس البلدى» تسجيل أمراض المجتمع المصرى ورصد مشاكل المواطن وهمومه، فلم يترك وظيفة أو حرفة أو ظاهرة إلا تناولها فى شعره « شاعر فى الشعر متين، يعمل أشعار لبرابرة، وصعايدة وفلاحين، وتلامذة وأزهرية وخواجات ومفتشين».
كتب بيرم الأشعار والمقامات والحكاية الدرامية المدهشة «السيد ومراته فى باريس» بالإضافة إلى أوبريت عزيزة والأعمال المسرحية الأخرى مثل «أوبريت ليلة من ألف ليلة، شهرزاد، عقيلة بنت السلطان أوبريت للعرائس، أوبريت: مدينة الملاهى» وغيرها من روائع المسرح الغنائى الذى كان بيرم التونسى أحد رواده الكبار، ناهيك عن أن قصائده وحدها فرجة مسرحية تشاهد فيها الكلمات تلهو كأنها تؤدى دورًا على مسرح الحياة، ورغم مرور السنوات إلا أن أشعاره مازالت تثير الدهشة، لشاعر هو بحق الفيلسوف الشعبى الذى منح اللغة هوية مصرية خالصة نابعة من أعماق هذه الأرض، وهذا فسر لى ما ذكره الدكتور لويس عوض حين كتب مذكرات طالب بعثة باللهجة العامية أنه كتب باللهجة العامية متأثرًا بكتابات بيرم التونسى ولغته المدهشة!.
بيرم التونسى الذى حفظت أشعاره فى سن مبكرة، ورسمت له صورة من خلال قصائده، ورسم لى هو صورة وصفية للمجتمع المصرى فى النصف الأول من القرن العشرين، وكأنه المؤرخ عبدالرحمن الجبرتى ولكنه يؤرخ للمجتمع المصرى بالشعر ومن خلال تفاصيل الحياة اليومية وعادات وتقاليد الشعب المصرى وقتذاك، أذهلنى قدرته على رصد كل ما يحدث فى المجتمع فى تلك الفترة، وكنت أتخيله جالسًا على كرسى أمام مقهى، يشاهد المارة ويكتبهم،، كتب عن التليفون، البوسطة، الترام، الحرائق، السيارات، الميكرفون، الفوضى، المجارى، الغش فى بيع الدجاج، فساد الموظفين، الزواج والطلاق، مواسم الحج والنصابين، فلوس الست، روتين الحكومة، دوسيهات الدواوين، التحرش الجنسى، وعشرات القصائد التى ترصد أمراض المجتمع المصرى، ففى قصيدة عنوانها «الشياطين» يقول: يا جماعة الشياطين عديتهم ملايين/ فى بيوتنا وأجسامنا وعقولنا ساكنين/ ويسرد أنواع الشياطين والتى هى آفات المجتمع المصرى،، شيطان اسمه بكره، شيطان اسمه «علاوله» شيطان اسمه اشمعنى، وشيطان إسمه ياريت.. وما أرزلها ياريت/ يا ريتنى مابينيت ويا ريتنى ماهديت / وياريت ما اتجوزتش.. ويا ريتنى ما خشيت/ ولا فايده ولا عايده تنفع أهل البيت/ غير أحزان وكآبة يداريها التواليت. وكان نقد بيرم التونسى للمجتمع بعين المحب «يا مصرى أنت اللى هاممنى من دون الكل/ هزيل ويحسبك الجاهل عيان بالسل» وفى قصيدة حاتجن يا ريت ياخونا مارحتش لندن ولاباريز لا يكتفى فقط بالتهكم على أفعال المصريين مقارنة بما شاهده فى باريس، بل يبكى ضياع الهوية المصرية فى الملابس «ولا شفتش ده اللى براسه وده بطربوش/ ملابسنا يا ناس تشكيلة تعد أصحابها مايتعدوش « هذا الوعى بالهوية المصرية كان ملمحًا رئيسيًا فى شعره، وفى قصيدة أخرى يهاجم الانسحاق أمام الموضة الباريسية، «باريس تقول قصّروا الفساتين نقصّرها/ ترجع تقول طوّلوا، حالًا نجرجرها/ وفى الشتا -قوروا القمصان نقوّرها/ وفى الصيف زرروا الأرواب نزررها» ولأنه قاسى فى حياته كثيرًا كتب عن البؤساء بشعور نبيٍّ يرثى لحال الإنسانية، وما أن استقر الحال بيرم فى مصر بعد ثورة يوليو ومنحته الحكومة وسام الفنون والآداب عام 1960، هاجمه مرض الربو وفارق الحياة فى 5 يناير 1961، وهذه النهاية تليق بشاعر عاش فقط من أجل هذا الوطن، نعم دون مبالغة من يقرأ شعر بيرم التونسى يتأكد من هذا، لقد عاش ليصف هذا الشعب وحياته ويحفظه فى نصوصه، فى الشعر، المسرح وفى المقامات.
اقرأ للكاتب
عزيز عيد.. على قلق كأن الريح تحته
اللا منتمى.. لماذا انحاز سمير العصفورى للمسرح الشعبى؟