الفريضة الغائبة فى وزارة الثقافة
لم تكن الثقافة ولا يجب أن تكون بمعزل عن الحياة العامة، وعلاقة الثقافة بالسياسة علاقة جدلية، ولطالما حملت الثقافة أحلام الشعوب، وعبرت عنها، وخلقت المسارات الممكنة لجعل الحياة أكثر رحابة واتساعًا. إنها علاقة تشبه ما يسمى بجدل الأيديولوجى والفنى؛ حيث الفن كان وسيظل أرحب من الأيديولوجيا.
وفى الآن وهنا، فإن ثمة تحديات متعددة تواجه صانع القرار فيما يتصل بالثقافة، وبكل ما يعرف بأدوات تشكيل العقل العام.
وتنبع هذه التحديات من تغلغل المد الرجعى فى مناح مختلفة، حتى أنه قد طال الأداة المركزية فى تجديد العقل المصرى، وأعنى الثقافة، وما يستتبعه ذلك- لو استشرى- من خلخلة النفوذ الثقافى المصرى المرتكن على بُعد تاريخى ممتد يعتمد بالأساس على فكرة الطبقات الحضارية المتراكمة التى تمتاز بها الهوية المصرية، ويجعلها قابلة لاستيعاب الكل، من جهة، وتعزيز الرصيد الحضارى المصرى فى المنطقة، والإقليم، والعالم، من جهة ثانية.
وربما تصبح من الشواهد الحقيقية الدالة على الرغبة العارمة فى التغيير الثقافى ما تقوم به «المتحدة» للخدمات الإعلامية من جهد إبداعى فارق، ومبتكر، حين حركت المياه الراكدة بحق، بدءًا من الإنتاج الدرامى الخلاق، والمهرجانات الفنية التى تصل لأماكن قطاعات مختلفة، والأهم ما فعلته من وصل الثقافة بالإعلام بالفن، أى الانطلاق من نظرة كلية وشاملة للثقافة، تنفذ ببساطة، وعبر وسائط متعددة، إلى الجمهور العام.
وهذا ما يجب أن تتناغم معه جهود وزارة الثقافة ومؤسساتها المختلفة، بحيث نصبح أمام حراك مؤسسى متعدد الظلال يعزز من قيم الثقافة الوطنية، ويؤكد مركزية الدور الثقافى المصرى فى ظل تعدد مراكز إنتاج الثقافة وتنوعها.
ثمة ضرورة لخطاب فكرى جامع جوهره مشروع ثقافى مصرى شامل، يرتكز على معنى الاستنارة بوصفها دفاعًا خالصًا عن قيم العقلانية، وهذا المشروع يجب أن تتشارك فيه هيئات متعددة، ومؤسسات مختلفة.
لقد بُذلت جهود عديدة فى السنوات الأخيرة الماضية من أجل استعادة القوة الناعمة المصرية، غير أن هذه الجهود بحاجة إلى نماء مستمر، وخيال جديد فى إدارة المؤسسة الثقافية، بحيث تصير الثقافة سلوكًا حياتيًا غايته تبصير الجماهير، وتحفيزها على التفكير النقدى، وتعزيز قيم الانتماء والمواطنة.
إن سياسة الإنجاز اليومى، وجهود العمران، والتشييد التى تنهض بها الدولة المصرية الآن، والمبادرات التى تحاول تأمين الحد الأدنى من حياة كريمة، والقضاء على العشوائيات، وإيجاد طريقة للعيش بكرامة لشعبنا، واستنهاض همم الإنسان المصرى، جميعها مؤشرات لا تخطئها أى عين، وهى من عوامل الدفع للأمة المصرية كى تقف فى المكان اللائق بها.
وتعزيزًا لذلك جميعه، يجب أن يتوازى فعل ثقافى هائل، ومتضافر مع ما يحدث من خطوات متسارعة تصنعها الدولة المصرية فى ظروف دولية معقدة، وفى ظل تحديات جسيمة تحيط بنا.
يجب أيضًا أن نعمل على تدعيم ثقة الإنسان الفرد بذاته، بتحفيز القدرة على الاختيار، ليس عبر صيغة «افعل ولا تفعل»، ولكن عبر الفن والخيال، والقدرة على تأمل الواقع، بحيث يتحقق المبدأ الأساسى للتفكير: كن شجاعًا وحرًا، واستخدم عقلك بنفسك.
ومن هنا فإن كل مؤسسة معنية بصناعة العقل العام تعد شريكًا أساسيًا فى مشروع الاستنارة والتقدم، الذى يجب أن يكون انحيازا كليًا لقيم العقل والتسامح.
كان الناقد والفيلسوف الفرنسى بول ريكور يرى أن الثقافة وهى تؤول العالم، فإنها تغيره، فالفهم المنطلق من تصورات متعددة، والمنفتح على رؤى غير أحادية، يستطيع دومًا أن يقدم تفسيرات مختلفة، ويُحدث تغييرات ناجزة فى بنية أى ثقافة مهما كانت جامدة.
وفى واقعنا الراهن فإن مجابهة الفكرة الظلامية بحاجة إلى جهود مستمرة، ومتتابعة، وهى مهمة التنوير بامتياز، وأعنى التنوير الحقيقى المعتمد على رؤية موضوعية، تنطلق من الرغبة فى التطوير، والبناء، وليس الهدم.
ولكى يتحقق هذا، فلا بد من النظر إلى الثقافة بوصفها حالة مجتمعية بالأساس، تتطرق إلى كل مناحى الحياة، ويصبح التنوير مركز الخطاب الثقافى المصرى المعاصر، ولغته الساعية إلى التكريس للنمط العلمى فى النظر إلى الحياة والعالم.
ولذا فلا بد من وصل الثقافة بدوائر التعليم والبحث العلمى، فالتعليم يجب أن يكون حاضنة حقيقية للثقافة، والثقافة يجب أن تكون إطارًا جامعًا للتعليم، والبحث العلمى يجب أن ينمى القدرة على الابتكار والخيال.
ويعد وعى الثقافة بالعالم الرقمى الجديد خطوة مهمة فى هذا المسار أيضًا، ويجب أن يتقاطع معها على الأرض توسيع القطاعات المستهدفة من الفعل الثقافى، بحيث تخرج الثقافة بشكل كامل إلى كل القرى المصرية، وبما يعنى ضرورة أن تضع وزارة الثقافة خطة محددة المعالم تنهض على توسيع مساحات الجمال من جهة، ووصل الجماهير بالفن والأدب والمعرفة من جهة ثانية.
وربما نحن بحاجة حقيقية إلى إعادة النظر فى مهمة وزارة الثقافة، بحيث تصبح وزارة لتثقيف الشعب المصرى، وتنمية وجدانه العام، ووصله بقيم الجمال والحداثة والاستنارة والتقدم، من خلال الاعتماد على تغليب قيم الكفاءة والنزاهة، والوعى بجدل السياقين السياسى والثقافى؛ لتخوض وزارة الثقافة بثبات معركة الأمة المصرية ضد التيارات المتطرفة، والأفكار التكفيرية. مثلما يجب على الثقافة أن تسعى إلى بلورة الخطاب العام للجمهورية الجديدة، والدولة الوطنية.
وهناك بعدان أساسيان يجب أن يتكاملا معًا: التخطيط الثقافى المتنقل فى وجود نهج واضح ومحدد المعالم للسياسات الثقافية، وآليات قابلة للتنفيذ تخرجنا من حيز الكلام النظرى.
ثمة دور منشود إذن للثقافة، من حيث كونها تمثيلًا فكريًا وإبداعيًا للقوة الناعمة المصرية، وامتدادًا معرفيًا لتعضيد الأبعاد الجيوسياسية للدولة المصرية، ووصلها المؤثر فى محيطها العربى، والإفريقى، والأورو متوسطى، اتكاء على تنوع الجذور الحضارية المتعددة للهوية المصرية بطابعها المنفتح على الآخر، والقادر على استيعاب مجمل الثقافات الإنسانية مع الوعى الكامل بخصوصية الثقافة المصرية ودورها الفاعل فى محيطها متعدد المسارات.
وعلى مؤسساتنا الثقافية أن تلعب دورًا مفصليًا فى كل ما تقدم، فالمجلس الأعلى للثقافة عليه ألا يكتفى بعقد الندوات والمؤتمرات من قبل لجانه المختلفة، وإنما يجب أن تصنع هذه اللجان تصورًا كليًا يعبر عن رؤية شاملة إجرائية الطابع، تستلهم تصوراتها من تفعيل قيم التقدم والاستنارة، ووضع السياسات العامة للثقافة، فيما يخص امتلاك مشروع ثقافى مصرى شامل يتمحور حوله الفعل الثقافى، ويضم داخله تنويعات مختلفة بتنوع اللجان ذاتها، والإدارات المتعددة الكائنة فيه، وصولًا إلى صياغة تصور شامل ومحدد حول الآليات التى تحقق وصل الثقافة بمجتمعها، وتفعيل القوة الناعمة المؤثرة فى محيطها، ووجود مسح شامل لحركة الإبداع المصرى فى جميع المجالات، وعدم المكوث فى الماضى، وفتح النوافذ أمام أجيال الإبداع المصرى الجديدة، وخلق حالة مجتمعية تتجاوز أسوار النخبة، والعمل مع الهيئات الثقافية الأخرى، وفى المتن منها قصور الثقافة؛ لوضع مسارات للوصول إلى الجمهور المصرى كافة، وهذا الدور يجب أن تعمل عليه الهيئة العامة لقصور الثقافة بوجودها المادى فى كل الأقاليم المصرية، والذى يجب أن يتحول إلى وجود حيوى، وفاعل، عبر الاعتماد على تقديم الخدمة الثقافية بتنويعاتها المختلفة، من الموسيقى إلى المسرح إلى السينما إلى الأدب والفكر لكل الجمهور المصرى، واعتماد الهيئة العامة للكتاب على تدعيم صناعة النشر فى مصر، والتوسع الكمى فى مكتبات النشر، والاختيارات النوعية الجمالية والمعرفية للمؤلفات المنشورة، والعمل على صناعة رائقة للكتاب متنًا وشكلًا.
إن رصيدنا الحضارى والثقافى ثرى للغاية، ولا تعوزنا الإرادة من أجل تغيير ثقافى فاعل، وحقيقى، ومنشود.
وبعد.. الثقافة طريق حتمى للتقدم.