فضائح الباطنية.. كيف كشف «الغزالى» أكاذيب الحشاشين وفساد معتقداتهم؟
- مذهب الباطنية هو نتاج تعاضد جماعة من المجوس والمزدكية والملحدين
- هجوم الغزالى على جماعة الحشاشين كان عنيفًا مخلصًا متحمسًا
- يعتقد الباطنيون بإلهين قديمين لا أول لوجودهما من حيث الزمان
- عُرف عنهم استباحة المحظورات واستحلالها وإنكار الشرائع
- دعاة الحشاشين اعتمدوا على «التلبيس» حيث كانوا يسعون إلى قلب الحقائق لدى المدعو فيوافقه على مقدمات مشهورة ومقبولة عند الناس ثم يستدرجه منها بنتائج باطلة
- الباطنية تدعى أن النبوة استعداد فردى لفيض العلم الإلهى تُنال بالمثابرة
- ينقض الغزالى مذهبهم باتباع نفس أسلوبهم وبالاطلاع على حيلهم فى تلبيس الألفاظ
أخذ الإمام أبوحامد الغزالى على عاتقه الكشف عن فساد المذهب الباطنى وتهافت حجج أصحابه ومعتقداتهم فى عدد من مؤلفاته، بيد أن الكتاب الأول والأكثر تركيزًا على المسألة كان كتابه «فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية» الذى انتهى منه فى عام 665هـ، فى وقت كان أمر هذه الفرقة قد استفحل إلى حد تهديد استقرار الخلافة العباسية، ما جعل الشيخ الغزالى يشعر بأهمية إظهار فضائح «الباطنية» وفساد عقيدتها، وفى الوقت ذاته بيان فضائل المستظهرية، أى خلافة المستظهر بالله العباسى، درءًا للفتن التى كانت تعتمل فى ذلك العصر.
نسخ مختلفة
ظهرت نسخ شتى من كتاب «فضائح الباطنية وفضائل المستنصرية»، بعضها مكتمل والبعض الآخر كان منقوصًا، غير أن واحدة من هذه النسخ كانت بتحقيق الفيلسوف عبدالرحمن بدوى، التى كانت مقدمته للكتاب إضافة أخرى له، ففيها أبان عن الكتب التى من المرجح أن يكون الغزالى قد اطّلع عليها قبل كتابة هذا الكتاب، والكتب الأخرى له التى اهتم فيها بالقضية ذاتها، وكذلك أوجه القوة والضعف فى الكتاب كما رآها.
يشير بدوى، فى مقدمته، إلى أن اعتماد الغزالى على كتاب «الفرق بين الفرق» لأبى منصور عبدالقاهر بن طاهر البغدادى المتوفى عام ٤٢٩هـ يظهر بوضوح، فالفصل الطويل الذى عقده فى ذكر «الباطنية» وبيان خروجها عن جميع فرق الإسلام، يعد أوفى ما كُتب قبل الغزالى فى هذا الباب، ففيه تاريخ الفرقة الباطنية وبيان عقائدها وطرقها فى الدعوة، ومعظم ما فيه جاء فى كتاب الغزالى، ثم يتلوه فى الأهمية الفصل الذى كتبه الشهرستانى فى «الملل والنحل»، الذى طُبع فى مصر ١٣٤٧هـ، وفيه بيّن مبادئ الباطنية وطرقها فى التأويل.
يذكر بدوى فى مقدمته المهمة الكتب التى استدعت كتاب «فضائح الباطنية» بأوقات تالية، كما يوضح المؤلفات التى اهتم فيها الغزالى بالرد على الباطنية التى تلت هذا الكتاب، منها «المنقذ من الضلال»، و«حجة الحق»، و«مفصل الخلاف»، و«الدرج المرقوم بالجداول»، و«القسطاس المستقيم».
ولم يكتفِ بدوى بذلك، لكنه يوضح رأيه صراحة فى الكتاب حين يقول: «كان الغزالى على وعى تام بخطر الباطنية على الإسلام، ولهذا كان هجومه عليها عنيفًا مخلصًا متحمسًا، بينما جاء الفصل الخاص بإقامة البراهين الشرعية على أن القائم بالحق والواجب على الخلق طاعته فى عصرنا، هو الإمام المستظهر ضعيفًا لا يتناسب فى قوة حجاجه مع قوة حجاج الفصول الأخرى.
عشرة ألقاب للباطنية
يشرع الغزالى فى مقدمة كتابه والباب الأول منه بالكشف عن المنهج الذى سيتبعه فى الكشف عن ضلال الباطنية وفساد منهجهم وفنون مكرهم واحتيالهم، وذلك بنقل خصائص مذهبهم التى تفردوا باعتقادها عن سائر الفرق، وبيان خصائصها، ومدارج حيلهم، وتوضيح بطلان شبههم ثم إقامة البراهين الشرعية على صحة الإمامة المستظهرية بموجب الأدلة العقلية والفقهية.
يبدأ الكتاب بتبيان ألقاب الباطنية والسبب وراء كل لقب، فيلفت إلى أن ألقابهم التى تداولتها الألسنة، هى: الباطنية والقرامطة والقرمطية والخرمية والخرمدينية والإسماعيلية والسبعية والبابكية والمحمرة والتعليمية. ففيما يخص الباطنية فقد لقبوا بها لقولهم إن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تُجرى فى الظواهر، وأن لها لدى العقلاء والأذكياء رموزًا وإشارات إلى حقائق معينة، أما القرامطة فنسبة إلى أحد دعاتهم، وهو حمدان قرمط، وهو رجل من الكوفة كان يميل إلى الزهد، استقطبه أحد دعاة الباطنية وصار أصلًا من أصول الدعوة فسمى أتباعه بالقرامطة.
أما الخرمية فقد أطلقت عليهم نسبة إلى مذهبم فى حط أعباء الشرع عن المتعبدين، ودفع الناس إلى اتباع اللذات والشهوات؛ فخُرّم لفظ أعجمى ينبئ عن الشىء المستلذ المستطاب الذى يرتاح الإنسان إليه بمشاهدته ويهتز لرؤيته. فيما كانت البابكية اسم لطائفة منهم بايعوا رجلًا يُدعى بابك الخرمى واعتقدوا بنبوة رجل كان من ملوكهم قبل الإسلام يُدعى شروين زعموا أنه كان أفضل من النبى محمد ومن الأنبياء قبله.
وجاءت تسمية الإسماعيلية نسبة إلى زعيمهم محمد بن إسماعيل بن جعفر، الذى زعموا أن أدوار الإمامة انتهت به، إذ كان هو السابع بعد محمد، ولاعتقادهم بأن أدوار الإمامة سبعة جاءت تسميتهم بالسبعية، وإن كان ثمة تفسير آخر لذلك يكمن فى قولهم إن تدابير العالم السفلى منوطة بالكواكب السبعة. أما المحمرة فسموا بها لصبغهم ثيابهم بالحمرة، ولتأكيدهم أن كل من خالفهم من الفرق «حمير». فيما أطلق عليهم التعليمية لقولهم إن الحق لا يُعرف بالرأى، وإنما بالتعليم من الإمام المعصوم.
ينوه الغزالى إجمالًا إلى أن مذهب الباطنية، هو نتاج تعاضد جماعة من المجوس والمزدكية والملحدين الذين رفضوا هيمنة أهل الدين، فكذبوا دعواهم واستعانوا على ذلك بفك الالتزام بالتكليفات الشرعية؛ بحجة أن من ارتقى إلى علم الباطن انحط عنه التكليف واستراح من أعبائه، وأن من عجز عقله عن إدراك الخفايا والبواطن ظل تحت أغلال التكليفات الشرعية، فكان غرضهم الأقصى إبطال الشرائع.
حيل الباطنية التسع
فصّل الغزالى بدءًا الحيل التسع التى لجأ إليها الباطنيون لاستقطاب أتباعهم، وهى تباعًا «الخداع، التفرّس، التأنيس، التشكيك، التعليق، الربط، التدليس، التلبيس، والخلع والسلخ». ففى الحيلتين الأولى والثانية، وهما الخداع والتفرس، يتعين على الداعى التمييز فى اختيار من يرغب فى استدراجه لقبول ما يخالف معتقده، وأن يتسم بالذكاء فى رد الظاهر إلى الباطن، فإن لم يقبل منه المدعو تكذيب القرآن والسنة، عليه أن ينزل اللفط على معنى يناسب ما يدعو إليه، إذ أكدوا أن الداعى لا ينبغى أن يتبع مسلكًا واحدًا فى الدعوة، بل يبحث أولًا عن معتقد المدعو وميله، فإن أنس منه الميل إلى الزهد والتقشف دعاه إلى الطاعة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإن كان طبعه مائلًا إلى المجون يخبره بأن العبادة لا طائل منها، وأنه لا داعى إلى العذاب بالتكاليف، وأن الذكاء فى اتباع الشهوة ونيل اللذة، وإن كان من الشيعة يقنعه بأن الأمر كله بُغض فى بنى أمية وبنى العباس وأشياعهما، وفى تولى الأئمة الصالحين وانتظار خروج المهدى، أما إن كان من اليهود والمجوس والنصارى، فحاوره بما يوافق مذهبهم من معتقداته.
تتعلق حيلة التأنيس بالتفرس، إذ يتعين على الداعى أن يوافق المدعوين فى أفعالهم وما تميل إليه نفوسهم، وفى سبيل استئناسهم يبيت الداعى كل ليلة عند واحد من المدعوين، ويجتهد فى استصحاب من له صوت طيب فى قراءة القرآن ليقرأ عندهم ويتبع الداعى التلاوة بكلام رقيق ومواعظ لطيفة، ثم يبدأ فى طعن السلاطين والعلماء، ويذكر أن الفرج منتظر ببركة أهل بيت رسول الله، وأن لله سرًا فى كلماته لا يطلع عليه إلا من اختاره الله من عباده.
بعد ذلك تأتى حيلة التشكيك، وفيها يسعى الداعى إلى تغيير اعتقاد المستجيب بأن يزلزل عقيدته، فيسأله عن الحكمة فى مقررات الشرائع وعن معنى المتشابه من الآيات، ويشكك فى الأحكام وأخبار القرآن وخلق العالم، لتأتى الحيلة التالية «التعليق» وفيها لا يُجيب الداعى عن الأسئلة السابقة، وإنما يترك المدعو فى شكوكه ويسعى لإقناعه بأن الأمر مهول، وأن الدين لا يُكشف لغير أهله، وأن الأسرار مكتومة لا تودع إلا لدى من أخذ عهد الله وميثاقه على كتمان السر.
من هنا تأتى حيلة «الربط»، وفيها يُربط لسان المدعو بأيمان مغلظة وعهود مؤكدة لا يجرؤ على مخالفتها بصيغة معروفة من العهد يوردها الغزالى كاملة فى كتابه، ونورد هنا جزءًا منها لأهميتها فى توضيح مذهبهم، ففيها يقول الداعى للمستجيب: «جعلت على نفسك عهد الله وميثاقه وذمة رسوله عليه السلام وما أخذ الله على النبيين من عهد وميثاق، أنك تسر ما سمعته منى وتسمعه، وعلمته وتعلمه من أمرى وأمر المقيم بهذه البلدة لصاحب الحق الإمام المهدى وأمور إخوانه وأصحابه وولده وأهل بيته، وأمور المطيعين له على هذا الدين ومخالصة المهدى ومخالصة شيعته من الذكور والإناث، والصغار والكبار، ولا تظهر من ذلك قليلًا ولا كثيرًا تدل به عليه إلا ما أطلقت لك أن تتكلم به، أو أطلق لك صاحب الأمر المقيم فى هذا البلد أو فى غيره، فتعمل حينئد بمقدار ما نرسمه لك ولا تتعداه. جعلت على نفسك الوفاء بما ذكرته لك وألزمته نفسك فى حال الرغبة والرهبة والغضب والرضا، وجعلت على نفسك عهد الله وميثاقه أن تتبعنى».
بعد العهد تأتى حيلة «التدليس»، فلا يسمح بدفع الأسرار دفعة واحدة ولكن يتدرج فيها، فى البداية يذكر الداعى له قاعدة المذهب، وهى الدعوة إلى التلقى من أصفياء الله الذين أودعهم أسراره والمطلعين على معانى القرآن، ثم يسعى لإفساد النظر العقلى بالدعوة إلى الاتباع للتعلم، ويدعوه إلى التجمل بحب أهل البيت وعدم إظهار الانسلاخ عن الدين، والقول إن الباطل ظاهر والحق دقيق، وإن القائلين بالحق أفراد وقلة، ويستقطبه بإقناعه بأن ثمة سرًا لا يعرفه سواه وعليه حفظه، ثم يمنيه باستقواء الطائفة وانتشارها وعلو رأيها والنصر على الأعداء، كما يراعى ألا تطول إقامة الداعى ببلد واحد حتى لا يتضح أمره فى هذا البلد.
فى الحيلة التالية «التلبيس»، يسعى الداعى إلى قلب الحقائق لدى المدعو فيوافقه على مقدمات مشهورة ومقبولة عند الناس، ثم يستدرجه منها بنتائج باطلة. أما «الخلع» فيتعلق بدعوة المستجيب إلى ترك حدود الشرع، وفى «السلخ» فيختص بالاعتقاد وفيه يدعى المستجيب إلى خلع الدين.
وعلى الرغم من التدليس الذى حملته تلك الفرقة، فإنها نجحت فى استقطاب أتباع كثر، وهو ما يرده الغزالى لعدد من الأسباب، فمن جهة راجت حيلة الباطنية لدى المعتقدين بمكانة مغايرة للإمام على، ولدى من اضطرم الحقد فى صدورهم بعد أن انقطعت الدولة عن أسلافهم، مثل أولاد المجوس والأكاسرة وغيرهما، علاوة على مخاطبتها رغبات مختلف الأفراد والطوائف، إذ وعدت بالتسلط لطائفة من الطامعين للاستيلاء والسلطة، ووعدت بالتميز عن العامة بزعمها الاطلاع على الحقائق، كما وجد فيها من استولت عليهم الشهوات سببًا لتحقيق ما يرغبون فيه. واستقطبت الباطنية، أيضًا، أطيافًا أخرى من الشيعة والروافض الذين اعتقدوا التدين بسب الصحابة، وكذلك من الملحدين من الفلاسفة الذين اعتقدوا أن الشرائع مؤلّفة.
بماذا يؤمن الباطنيون؟
يقر الغزالى بوجود الكثير من اللبس حول مذهب الباطنيين؛ نظرًا لما اتبعوه من الاحتيال فى استتباع المدعوين وتعدد خطاباتهم بتعدد الأفراد، ولكنه يشير إلى أن مبدأ دعوتهم عمومًا هو إظهار ما يناقض الشرع ومخاطبة كل فريق بما يوافق رأيه، وحصر العلوم فى قول الإمام الذى يقرون بعصمته، وكذلك عزل العقول عن التفكير وإدراك الشبهات.
فى الإلهيات، يعتقد الباطنيون بإلهين قديمين لا أول لوجودهما من حيث الزمان؛ إلا أن أحدهما سبب لوجود الثانى، وقد يسمى الأول عقلًا والثانى نفسًا، وفى سبيل إقناع العامة بأفكارهم عن وجود إلهين استدلوا بآيات كقوله تعالى «إنا نحن نزلنا»، «نحن قسمنا»، «سبح اسم ربك الأعلى»، زاعمين أن ذلك إشارة إلى وجود أكثر من إله واحد، وعلى وجود إله سابق وآخر تالٍ.
وفى رؤيتهم الأنبياء، يرى الغزالى أنهم أكثر اتفاقًا مع بعض الفلاسفة فى النظر إلى الأنبياء على أنهم أشخاص فاضت عليهم قوة قدسية صافية لا تستكمل إلا بالانتقال إلى أشخاص بعد بعض، وأن القرآن تعبير النبى «محمد» عن المعارف التى فاضت عليه من «جبريل»، وأنه سمى كلام الله مجازًا، ويشير الغزالى إلى أن الباطنية تدعى أن النبوة استعداد فردى لفيض العلم الإلهى تُنال بالمثابرة، ومن ثم فهى ليست اصطفاء من قبل الله لبعض البشر.
ويبين الغزالى اتفاق الباطنيين على أنه لا بد فى كل عصر من إمام معصوم قائم بالحق يرجع إليه فى تأويل الظواهر وحل الإشكالات فى القرآن والأخبار، وأن النبى يساوى الإمام فى العصمة والاطلاع على حقائق الحق فى كل الأمور إلا أنه لا ينزل إليه الوحى، كما أنه فى كل زمان إمام واحد فقط، ولكن يمكن للإمام الاستعانة بالدعاة المتفرقين فى البلاد.
وفيما يتعلق بيوم القيامة، يشير الغزالى إلى أن الباطنية أنكروا القيامة واتفقوا على أن معناها يقتصر على انقضاء دور الإنسان فى الحياة، فأنكروا المعاد والحشر والجنة والنار، ورأوا أن المعاد عود كل شىء إلى أصله، فالإنسان يتكون من جزء روحانى وآخر جسمانى؛ يتكون الجزء الجسمانى، أى الجسد، من أخلاط أربعة: الصفراء والسوداء والبلغم والدم، وحينما ينحل الجسد يعود كل خليط إلى الطبيعة، فيصير الأصفر نارًا، والأسود ترابًا، والدم هواء، والبلغم ماء، وهذا هو معاد الجسد. أما معاد الروح فيكون بعودتها إلى العالم الروحانى الذى عنه انفصلت وهى الجنة؛ باعتبارها رمزًا لكمال النفس بموتها.
أما فيما يخص التكاليف الشرعية فقد عُرف عنهم استباحة المحظورات واستحلالها وإنكار الشرائع؛ إلا أنهم كانوا ينكرون ذلك إذا نُسب لهم، فيقولون إنه لا بد من الانقياد للشرع فى تكاليفه على النحو الذى يفصله الإمام إلى أن يصل المدعو لرتبة الكمال فى العلوم، فإن أحاط بحقائق الأمور واطلع على بواطن الظواهر انحلت عنه القيود والتكاليف.
كشف الغزالى حجج الباطنية
يرد الغزالى على ادعاءات الباطنيين ومعتقداتهم بحجج وأساليب متعددة، فإجمالًا يرد على دعاواهم بإنكار القيامة وقدم العالم وإنكار بعث الأجساد وإنكار الجنة والنار؛ رغم ما دل عليه القرآن ووصفه بسؤاله: من أين لكم هذا؟ هل تفوق ثقتكم بإمامكم الثقة بما جاء فى القرآن وما قاله النبى محمد وما يقتضيه حتى النظر العقلى الذى تنكرونه؟ وكيف يمكن الوثوق بمعتقداتكم تلك آنذاك؟
تدفع تلك القاعدة إلى إقرار الغزالى بأن الباطنية «أخس من رتبة كل فرقة من فرق الضلال»، فمذهبها هو إبطال النظر وتغيير الألفاظ عن موضوعاتها بدعوى الرموز، وإبطال النظر العقلى، ورد الألفاظ إلى غير موضعها واللعب بمقاصدها، وهو ما يسعى الغزالى فيما بعد إلى الرد عليه بالفصول التالية من كتابه.
يورد الغزالى الكثير من الأمثلة التى جرى من خلالها إبطال الباطنية معانى الشرع بالتأويلات الفاسدة، فمن ذلك قولهم إن معنى الزنا إلقاء نطفة العلم الباطن فى نفس من لم يسبق معه عقد العهد، وأن الطهور هو التطهر من كل مذهب سوى مبايعة الإمام، والصيام هو الإمساك عن كشف السر، كما أنهم أوّلوا المعجزات بما يحقق أغراض مذهبهم، فقالوا إن الطوفان هو طوفان العلم، أغرق به المتمسكون بالسنة، وأن الجن الذى ملكه سليمان كان باطنية ذلك الزمان.
ويحاجج الإمام الغزالى هذه المعتقدات والتأويلات الفاسدة باتباع أساليب ثلاثة، هى الإبطال والمعارضة والتحقيق، ففيما يتعلق بالإبطال ينطلق الإمام من سؤال منطقى عن مصدر المعرفة الباطنية بالمراد من الألفاظ إن كانوا لا يؤمنون بنظر العقل، مستنكرًا الوثوق بقول إمامهم الذى يحصر الألفاظ فى دلالات محددة، ويبطل ما سواها.
ولا يتوقف الغزالى عند ذلك، ولكنه يحاجج بأسلوب «معارضة الفاسد بالفاسد»، فيثبت لهم بالأدلة سهولة تنزيل كل لفظة من كتاب أو سنة على نقيض معتقدهم، مثلما هم ينزلونها وفق معتقدهم، ويضرب العديد من الأمثلة من هذا المنطلق فيقول: مثلًا قوله «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة» يمكننا تأويله بأنه لا يدخل العقل دماغ فيه التصديق بالمعصوم، وقوله «كل نكاح لا يحضره أربعة فهو سفاح» معناه أن كل اعتقاد لم يشهد له الخلفاء الأربعة أبوبكر وعمر وعثمان وعلى فهو باطل، وعلى هذا المنوال ينقض الغزالى مذهبهم باتباع نفس أسلوبهم، وبالاطلاع على حيلهم فى تلبيس الألفاظ الذى يوصلهم إلى إبطال الشرع.
وأخيرًا يحقق الغزالى فى صحة ما يزعمونه بالنظر فى البرهان الحقيقى بعلوم الشرع، ويسأل إن كانت الـتأويلات والبواطن التى يزعمونها صحيحة ويحب إفشاؤها؛ فلماذا كتمها النبى محمد ولم يذكرها للصحابة من قبل؟، وإن كان ينبغى إخفاؤها فكيف يحل لهم إفشاء ما قرر الرسول إخفاءه؟
جانب آخر من الدلالات التى سعت إحدى الفرق الباطنية إلى الحديث عنها، هو الاستدلال بالأعداد والحروف، فقد قالوا إن السموات سبع والأرضون سبع والنجوم سبعة وأيام الأسبوع سبعة، وهذا يدل على أن دور الأئمة وفقًا لمعتقدهم يتم بسبعة، وقالوا إن فصول السنة أربعة وهذا يدل على الأصول الأربعة: السابق والتالى الإلهان، والناطق والأساس الإمامان.
يرد عليهم الغزالى بالسؤال من أين عرفتم هذه الدلالات؟ أعرفتم صحتها بضرورة العقل أو نظر أو سماع من إمامكم المعصوم؟ فنظر العقل عندكم باطل لاختلاف العقلاء فى نظرهم، وإن عرفتم ذلك من قول الإمام المعصوم فما الدليل على أن هذا الإمام معصوم؟ هل ثمة أى خبر متواتر عن الرسول يورث العلم لإمامكم؟ وكيف يجوز أن تعرفوا إمامته وعصمته بمجرد قوله؟
يحرص الغزالى فى كتابه على تحديد موقف حاسم لموقف الشرع فى الباطنية، فيفرق بين من جرى تضليله من العامة، فاعتقد بالإمام المعصوم عن الخطأ، ومن تبنى معتقدات الباطنية المخالفة للشرع الإسلامى، ففى الحالة الأولى لا يستحق المُضلل التكفير أو الحكم بسفك دمه، وإنما ينبغى هدايته إلى الحقيقة والصواب، أما المتبنون لمعتقدات الباطنية من القول بإلهين وإنكار القيامة، فهم ما يحكم عليهم بالكفر ويسلك بهم مسلك المرتدين فى الدم والمال والزواج وغير ذلك.
فضائل المستظهرية
درءًا للفتن التى كانت تعتمل آنذاك بسبب المعتقدات الباطنية الفاسدة، يورد الغزالى فصلًا عن «الفضائل المستظهرية»، ذاكرًا فيه الأسباب الداعية لنصرة الإمام المستظهر بالله ردًا على دعوات الخروج عليه، وذاكرًا عددًا من النصائح لكل إمام كى يتحقق العدل فى إمامته.
بشكل عام يورد الغزالى عددًا من الصفات الفطرية والمكتسبة التى يتعين توافرها فى الإمام، ومن الصفات المكتسبة؛ النجدة أى قمع البغاة والطغاة ومجاهدة الكفار، والكفاية أى الفكر والتدبر والفطنة والذكاء والاستعانة بذوى البصائر، والعلم والورع أى متانة الدين وصفاء العقل وإفاضة الخيرات على الرعايا، ويرى أن هذه الصفات وغيرها تتوافر فى الإمام المستظهر بالله أمير المؤمنين، وأن إمامته وفق الشرع، وأنه يجب على كل عالم الإفتاء بوجوب طاعته ونفوذ أقضيته بالحق وبصحة توليته الولاة وتقليده القضاة.
ويورد بختام كتابه عددًا من النصائح للإمام، منها التمسك بالورع والتقوى، والابتعاد عن جعل الدنيا غايته، وإصلاح الخلق، ونهى النفس عن الهوى، وأن يتمسك بالصفات الملكية وينأى عن الصفات البهيمية، فمشابهته الملك بالعلم والعبادة والعفة والعدالة والصفات المحمودة، ومشابهته البهائم بالشهوة والغضب والحقد والصفات المذمومة، وأن يحكم نفسه فى كل قضية يبرمها فما لا يرتضيه لنفسه لا يرتضيه لغيره، والاهتمام بنصائح العلماء والعمل بها، والاهتمام بأمر المسلمين، وترك الشهوات والترف، والاهتمام بالعبادة، والرفق فى الأمور، وأن يكون أهم المقاصد عنده تحصيل مرضاة الخلق ومجبتهم بطريق يوافق الشرع.
تبقى محاولة الغزالى فى فضح العقائد الباطنية واحدة من أهم الكتابات بهذا الصدد، وإن كان الكتاب وما ورد به محل استشكال لا يزال قائمًا، فالمعتقدات التى جزم الغزالى بتبنى الباطنية لها غير مؤكدة وثمة ما يناقضها بكتابات أخرى، لا سيما تلك المتعلقة بالقول بوجود إلهين وإنكار القيامة، ولكن تظل الحيّل التى اتبعها الباطنيون لخداع أتباعهم والتى فصّل الغزالى القول فيها هى ما تستحق التأمل والنظر بكل زمان ومكان يجرى فيهما إلباس الدين بأردية براقة وخادعة؛ بهدف قلب الحقائق وتضليل البسطاء.