فى عرض «السيرة سيرتنا».. ماذا يتبقى من السيرة الهلالية على خشبة المسرح؟
«السيرة سيرتنا» عنوان مثير لمسرحية مستلهمة من السيرة الهلالية فى قاعة صلاح جاهين، من إنتاج قطاع الفنون الشعبية والاستعراضية. ودون شك سوف يتساءل المشاهد كيف تكون هذه الحكاية الشعبية التى رواها شعراء الربابة، وأشهرهم جابر أبوحسين وسيد الضوى، هى سيرتنا نحن الآن، والسيرة بوقائعها وأحداثها وشخصياتها معروفة تقريبًا للجمهور وتمت معالجتها من قبل مسرحيًا مع حسن الجريتلى وعبدالرحمن الشافعى ويسرى الجندى، والأخير قدمها أيضًا فى الدراما التليفزيونية، وأن تكون سيرة بنى هلال سيرتنا من المفترض أن تطرح معالجة معاصرة تتماس وقضايا اللحظة الراهنة على مستوى الشكل والمضمون، وهذا ما يفرضه العنوان ونحاول البحث عنه من خلال قراءة العرض.
الكاتب محمد الشاعر، الذى كتب النص، قدم رؤية تبدو مختلفة عن السيرة، اختار حدثين أفاض فى روايتهما الشعراء، وهما رحلة أبوزيد الهلالى مع يحيى ومرعى ويونس إلى تونس لاستكشاف المدينة والطريق قبل الغزو، والحدث الثانى حصار العرب لتونس ومقتل الزناتى على يد دياب ابن غانم، لتقديمها خلال ساعة تقريبًا، ودون شك من لا يعرف السيرة الهلالية لن يستطيع متابعة الأحداث والتفاعل معها جيدًا، حيث نزع الكاتب عن شخصيات السيرة وأحداثها الإثارة والتشويق حين تخلى عن تفاصيل حياة وأفعال هذه الشخصيات وملامحها، وركز على فكرة النزاع والتناحر بين القبائل وإبراز الخلافات الشخصية وعنصر الخيانة والمصالح لإضفاء طابع سياسى على الأحداث. ودون شك السيرة الهلالية الحكاية الشعبية العربية الحافلة بتناحر الفبائل مغرية بإسقاط أحداثها على الواقع السياسى فى أزمنة متعددة، وهذا ما فعله ببراعة يسرى الجندى من قبل فى النص المسرحى وأيضًا الدراما التليفزيونية، وهذا أيضًا ما اختاره فريق عرض «السيرة سيرتنا» الذى يتم تقديمه هذه الأيام ولكن برؤية مختلفة ومعالجة درامية اعتمدت على الغناء والاستعراض فى محاولة للجمع بين المعاصر والشعبى، خاصة على مستوى الشكل.
فى قاعة صلاح جاهين تخيل المخرج أشرف عزب مع مهندس الديكور محمد خبازة فضاء الحكاية من خلال عدة مستويات تجسد رؤية المخرج والمؤلف؛ إلى اليمين فضاء بنى هلالى ممثلًا فى ديوان السلطان حسن، وإلى قصى اليسار الأعداء/ ديوان الزناتى خليفة فى تونس، وإلى جواره فى مساحة أقل مقر العلام الذى يلعب دورًا كبيرًا فى الأحداث، وفى مواجهة الجمهور فضاء يقبع فيه شاعر الربابة مع عازفين على الطبلة والربابة، سوف يبدأ برواية الحدث ويتدخل بين الحين والحين، وسوف تكون المساحة الفارغة بين هذه الفضاءات للاستعراضات الغنائية التى تقوم بدور الجوقة التى تسرد وتعلق على الأحداث، بالإضافة إلى المعارك وأحداث أخرى، وعلى الجمهور أن يتابع الشخصيات والرواة بين هذه المنصات التى تجسد أطراف الحكاية، والتى تدل بقوة على رؤية العرض التى هى مزيج بين الشعبى والمعاصر. استعار محمد الشاعر لغة شاعر الربابة التى تعتمد على المجاز والسجع حتى لو كان بعيدًا عن المعنى، وأضفى طابعًا بدويًا على اللهجة، وهو تقليد شائع فى رواية السيرة أول من قدمه بيرم التونسى حين قدم أوبريت «عزيزة ويونس» فى الإذاعة باللهجة البدوية التى يعرفها جيدًا ليس فقط بحكم أصوله التونسية ولكن لمعاشرته القبائل القادمة من مرسى مطروح والصحراء الغربية إلى الإسكندرية، وتعامله معها وفقًا لما ذكره فى حوار إذاعى جاء على لسانه، واختار الكاتب جزءًا من السيرة ما بين التغريبة، تغريبة القبائل الأربعة التى انتهت بغزو تونس والاستيلاء عليها، وأيضًا رحلة أبوزيد من قبل إلى هذه البلاد، وبالطبع يحتاج ما سبق إلى ساعات وأيام لروايته، ولكن على مدى ساعة ما بين الغناء والاستعراض والسرد، ومن خلال مشاهد تحاول تلخيص الرحلة والاستيلاء على المدينة، قدم المؤلف شخصيات تونس فيما عدا الزناتى والمقاتل الداعم له الهصيص، وهو أخ الزناتى، الجميع خونة للمدينة/ للوطن فى مقابل مصالحهم وأطماعهم الشخصية، بدءًا من سعدى ابنته، وصولًا للعلام أحد أهم الأمراء فى المدينة، ومرورًا بعزيزة بنت السلطان معبد من خلال خطاب صريح فى التعاون مع بنى هلال/ الأعداء، ولم يقدم العرض مبررات درامية مقنعة لهذه الخيانات التى بدت مجانية فى أحيان كثيرة ربما لاختصار الأحداث والتفاصيل والصراعات، وركزت المعالجة الدرامية فى هذا العرض على علاقات الحب بين سعدى ومرعى، وبين عزيزة ويونس، وإن كانت علاقة ابنة الزناتى مع مرعى هى الأهم فهى تنتظره وتعرفه من خلال جاريتها الهلالية مىّ، بل وحين تلتقى به تسلمه خرائط تونس وأسرارها فى سبيل الحب دون تردد أو مقدمات! وهذا يتطلب معرفة المشاهد بوقائع وأحداث السيرة كما ذكرت فى البداية، ولسعدى فى هذا الجزء الذى تم تقديمه دور مهم ومثير من خلال الحلم الذى تنبأ بسقوط المدينة ومقتل والدها الزناتى، والذى جاء ضعيفًا يخلو من الإثارة، سواء على مستوى اللغة أو تقديمه من خلال الأحداث يصفه فى السيرة الشاعر جابر أبوحسين من خلال البحر أو الفيضان الذى جاء فى غير موعده فأغرق تونس، وأربع مآذن سقطت فهدمت المدينة، ويختمه بقوله: «يا ابا سبع الغرب كله ديب هدومى قصّرت وأصبحت يتيمة»، ويفسره العلام: البحر بالجيوش القادمة من الشرق، والمآذن الأربع بالقبائل القادمة للحرب، والديب الذى أكل السبع فى إشارة إلى مقتل الزناتى على يد دياب بن غانم.. هذا الحلم المثير على مستوى اللغة والتخيل جاء فى العرض عابرًا على مستوى اللغة والصورة أيضًا، رغم أنه جزء أساسى مع حلم الزناتى الأقرب أيضًا لهذا الحلم الذى وصفه الأبنودى بأنه يلخص السيرة بكاملها، فهذه السيرة الشعبية قائمة فى بنائها العميق على الأحلام، فبطلها الذى يحمل اسمها ولد وفقًا لرؤية فى المنام، وأغلب الأحداث يحلم بها البعض قبل حدوثها، ولكن كانت وجهة نظر المؤلف التى بدأت من العنوان هى إسقاط أحداث السيرة على الواقع، لينتهى العرض بعد أن يقتل دياب بن غانم الزناتى، ثم يقتل السلطان حسن وأبوزيد الهلالى، ويقتله مرعى، كل ذلك فى لحظات فى مشهد واحد مع ختام المجموعة «جولى لولادك يا خضرة يهدوا كفاية فضايح/ ده الكل من أم طاهرة والكل فى بعض طايح/ جولى لولادك تعالوا، لسه وطنكوا ماضاعش/ سيبوا التناحر لحاله، واصحوا لمكر الدواعش»، ورغم أنها نهاية ملتبسة ولم يفهم مغزاها المشاهد إلا أن رؤية المؤلف تقوم على هذه السطور؛ أن هناك خطرًا وعلينا أن نبتعد عن التناحر! وبالطبع معالجة المؤلف رؤيته للسيرة وفقًا لوجهة نظره وقناعته بالسيرة لا نعترض عليها، ولكن علاقة الناس بالسيرة الهلالية وغيرها من السير الشعبية وانحيازهم لها أمر لا يمت بصلة للأيديولوجيا والثقافات المتباينة فى اللحظة الراهنة، ولكن بوجدانهم وبعلاقتهم بالحياة متمثلًا فى صراع الرغبة الإنسانية ضد الطبيعة الإلهية الذى يتجلى فى هذا الحكى المأساوى بقوة من خلال الأقدار التى تسيّر حياة البشر وتتحكم فى مصائرهم، وهذا البناء العميق فى السيرة، سواء ما حدث بالفعل أو ما تطور فى عقل الجماعة التى شكلت السيرة عبر العصور المختلفة وانحيازها إلى الحس المأساوى الذى هو ضالتهم المنشودة فى مجتمعاتنا الحالية أو بأشكالها السابقة، حيث يعتبر «شوبنهاور» أن المأساوية جزء من الطبيعة الإنسانية وهى تعطى للإنسان تميزه الفردى، وذلك من خلال ربطه بين حتمية العذاب فى الوجود الإنسانى الذى يحمل قدرًا من المأساوية وبين صراع الإنسان مع العالم.
المخرج أشرف عزب الذى حاول أن يجمع بين طبيعة السيرة الشعبية من خلال مفردات المنظر المسرحى، فهناك استعراض ورواة للحدث وشاعر ربابة يقدم السيرة وإن كان دوره غير مؤثر مع مشاهد اعتمدت على التحطيب، فقد حاول الاستفادة من إمكانات الفرقة القومية للموسيقى الشعبية التى يعمل معها، وبالفعل بها مجموعة من المواهب الجيدة، وحاول توظيف الرواة الشعراء، سواء من كان على الربابة أو المجموعة التى تسرد وتعلق على الأحداث، ففى مشهد تدخل عزيزة وسعدى فى مشهد قتل أبوزيد لعبد من عبيد الزناتى، ودفاعهما عنه، الرواة يخاطبون الشخصيات، أقرب إلى الجوقة، وتكرر الفعل فى مشاهد أخرى لكن تأثيرها كان ضعيفًا، فثمة تناقض بين هذه المجموعة التى تعلّق وصوت الأغانى المسجلة والموسيقى البعيدة عن الطابع الشعبى، والتى كان تأثيرها فى أحيان كثيرة بالسلب، والنقطة المهمة هى توزيع المشاهد فى القاعة التى كانت غير مناسبة للعرض والبناء الذى ذكرته فى البداية، وأعنى بالمستويات مستويات الحدث والفضاءات المتعددة التى كانت تحتاج مسرحًا كبيرًا لا قاعة صغيرة ومحدودة، وتأثير هذا كان واضحًا على الحركة والاستعراضات! ودون شك تأثر العرض الذى أخرجه أشرف عزب بحبس المشاهد فى فضاء هذه القاعة، وأيضًا بالأيديولوجيا والإسقاط السياسى الذى لم يكن مناسبًا للسيرة الهلالية. فالجماليات التى تطرحها هذه الحكايات، جماليات السرد المأساوى بين الحكى والغناء على مقام الصبا الحزين ومن السرد باعتباره يشكل الأساس الذى انبثقت منه هذه الحكاية الشفاهية.
ورغم الاختلاف مع رؤية المؤلف للسيرة إلا أن العرض لا يخلو من جهد ملموس فى جميع عناصره، بدءًا من الكتابة، ووصولًا إلى المخرج، ومرورًا بمجموعة الممثلين ومنهم سيد جبر فى دور الزناتى خليفة، أحمد أبوعميرة فى دور دياب، أحمد الشريف «السلطان حسن»، إيمان رجائى «سعدى»، والمواهب التى قدمتها الفرقة القومية للموسيقى الشعبية، من الشباب، وفى النهاية عندى سؤال طرحته مرارًا على رؤساء قطاع الفنون الشعبية والاستعراضية: لماذا يتم تسجيل الأغانى والموسيقى والقطاع يمتلك القدرة على تقديمها حية للجمهور؟ وأطرح نفس السؤال على الرئيس الحالى للقطاع وهو فنان أعرف قدراته جيدًا وأثق فى وعيه، وهو الفنان أحمد الشافعى.