الأحمر خلص.. قصة لصفاء عبد المنعم
فشلت جميع المحاولات فى ضبط ميزانية البيت!
بداية من مصروف اليد الخاص بى، وانتهاءً بثمن اللحم والخضار.
لقد توفى جمال عبدالناصر فى سبتمبر ١٩٧٠، وأنا بالصف الخامس الابتدائى، هكذا قلتُ للبنت الجميلة الواقفة إلى جوارى فى مترو الأنفاق.
رأيتها تشعر بتعب شديد، وهى تضع كمامة زرقاء على أنفها، كان الأرق باديًا فى عينيها، همستُ فى أذنها: أنتِ تعبانة؟
هزت رأسها إيجابًا: نعم. نظرتُ نحو الشاب الجالس بجوارنا، وقلتُ له: هى تعبانة، ممكن تقعدها.
قام واقفًا مخزولًا. مددتُ يدى، وأمسكتُ بيد الفتاة وأجلستها فى هدوء، ثم وقفتُ أمامها، وأنا أربتُ فوق كتفها: ألف سلامة عليكِ. ثم سألتها: أنتِ نازلة فين؟
ضحكت بضعف شديد: نازلة جمال عبدالناصر.
عندما سمعتُ هذا الاسم ضحكتُ بنشوة طفلة تبلغ من العمر عشرة أعوام، وقلتُ لها: الله يرحم أيامه، أنا نازلة الأوبرا، ممكن أفضل معاكِ لو تعبانة.
وضعت يدها على فمها وقبلتها ثم أرسلتها لى، وهى تربت على يدى بحنو ابنة: شكرًا يا طنط ربنا يخليكى.
نزلتُ فى محطة رمسيس، وأنا أفكر بشدة، لماذا ذكرتُ لتلك البنت تاريخ وفاة عبدالناصر.
هى فهمت مغزى الجملة، ثم واصلتُ ضحكى معها: على فكرة زمان، كان ممكن الشاب يقوم ويقعدك من نفسه، من غير ما حد يطلب منه، لكن نقول إيه الدنيا اتغيرت، وقل خيرها.
ضحكت، واهتز جسدها رغم ما بها من تعب.
ثم واصلتُ حوارى معها: وكان ممكن تلاقى اللى يطبطب عليكِ.
وممكن يجيب لكِ دواء.
اهتز جسدها أكثر وأكثر وهى تحاول السيطرة على ضحكها المتواصل، وكأنها تنفض عن جسدها التعب أو الألم.
قلتُ لها منتشية، وهى تواصل الضحك دون انقطاع من خلف الكمامة الزرقاء الموضوعة على فمها.
أيوة، وكان ممكن تلاقى ناس كتير بتقول لكِ «ألف سلامة عليكِ يا بنتى».
أرتج جسدها بشكل كلى مع اهتزاز عربة المترو، وشعرت كأنها شفيت تمامًا.
فتاة جميلة قد تخطت العشرين تقريبًا، تجلس متعبة فى عربة المترو بمفردها. وأنا أحاول جاهدة أن أصف لها هذا الزمان القديم، بكل سكره وحلاوته التى أراها تتجسد أمام عينى، واشرح لها فكرة التضامن الاجتماعى فى تلك الفترة بشكل ساخر وعميق، بعدها نزلتُ من عربة المترو وأغلق الباب على وجهها المجهد. أشرتُ لها بيدى- مع السلامة- ظلت ابتسامتها المشرقة تلاحقنى حتى اختفيت تمامًا، وذهبتُ إلى المترو الآخر كى أغير خط السير من اتجاه حلوان إلى اتجاه المنيب، وأنا أشعرُ بعذوبة ونشوة، ركبتُ المترو الثانى، وعندما دخلتُ، رأيتُ أمًا تجلس وإلى جوارها طفلان.
قالت لواحد منهما: قوم اقف، وقعد طنط.
وقف الولد متزمرًا.
ربتُ على كتفها وأنا أشكرها وأنظر نحو الولد المتزمر لأنه تركَ مكانه لى.
قالت لى بحنو وهى تنظر نحو ابنها الغاضب: لازم يتعلم يقف للكبير.
ضحكتُ، وشكرتها على حسن التربية، وأنا أتذكر ملامح الشاب الآخر الذى كان يجلس، وأنا واقفة أمامه، ولم يترك مكانه إلا عندما طلبتُ منه أن يُجلس مكانه البنت المتعبة.