مونودراما فريدة.. أفراح الممثل وأحزانه على خشبة المسرح
«كالخاس» واحدة من قصص تشيخوف الصعبة، التى يتخلى فيها قليلًا عن البساطة من خلال حكاية حافلة بالرموز والدلالات، وشخصية الممثل/ بطل الحكاية لا تخلو من الغموض وبعيدة عن الطابع الكوميدى الذى يغلب على شخصياته، الممثل ودوره فى القصة أقرب إلى قالب المونودراما، على مستوى بناء الشخصية، وهى حكاية عن التمثيل كُتبت عام 1886، ثم صاغها فى قالب مسرحى عام 1887 حافظ على رؤيته وملامح الشخصية الرئيسية، فقط اختلف الشكل/ القالب، حول ممثل يشعر بالفشل، يجسد فيها حال المسرح والممثلين فى ذلك الوقت.
قصة تشيخوف
تبدأ أحداث القصة والممثل «فاسيلى فاسليفيتش» يستيقظ من نومه وكأنه يحلم، ليجد نفسه فى ملابس «الكاهن كالخاس»، إحدى شخصيات «أوبرا هيلينا»، فى غرفة الملابس، ليفتح عينيه على آثار سهرة صاخبة بين إله الخمر والمرح وبين ربة التراجيديا كما يصفها كتعبير مجازى، فقد كان اليوم حفل «البينيفيس» وهو حفل يخصص إيراده أو جزء منه لصالح الممثل فيعيش لحظات أقرب إلى الفنتازيا يحمل الشمعدان ويتجول فى أنحاء المسرح المعتم، يتحدث مع شخصيات درامية وأشباح إلى أن يصل أمام الكمبوشة، الحفرة المظلمة، وفجأة يخرج الملقن من هذا الظلام ويلتقى الممثل، الذى يبث إليه ضعفه وخيباته قائلًا: أنا وحيد ليس عندى أحد، أنا خائف.. ثم يبدأ فى سرد حياته، كان يتحدث بحرارة وهو فى حلة كالخاس عن حبيبته، عن انتصاراته وهزائمه، والمؤلف يعامله فى القصة بهذا الاسم لا اسمه الحقيقى وكأنه تقمص الدور، فقدمه للجمهور وهو متلبّس بالتمثيل وليس فى شخصيته الحقيقية، التقطته بصيرة الكاتب متلبسًا بأحلامه وأوهامه وما يخفيه عن الأعين، وأمامه الملقن فى ملابسه الداخلية على ضوء شمعة.. قالت له حبيبته أن يترك المسرح، وكان فى ذلك اليوم يؤدى دور المهرج «أدركت أننى عبد لعبة، لعبة فى أيدى أناس فارغى البال، وأنه ليس هناك فن مقدس بل هذيان وخداع، فهمت ما هو الجمهور، ومنذ ذلك الوقت لم أعد أصدّق التصفيق أو الأكاليل أو الإعجاب»، ولكن هذا الجمهور يحتقر الممثل فلا يزوجه أخته أو ابنته.. وكأنه فى تلك الليلة انتبه فجأة أنه ضائع وبلا مستقبل وأنه ترك وراءه ٥٨ عامًا بلا جدوى..
دون شك هى قصة مغرية بتقديمها على خشبة المسرح، ليس فقط لأن حبكتها الأساسية قائمة على فكرة المسرح والممثل بل وأيضًا أقرب فى شكل الكتابة إلى المونودراما، التى توفر لها كل العناصر من أغراض فى غرفة الملابس لها صفة دلالية عالية كانت البديل عن شخصيات وأحداث، ممثلة ليس فقط فى الملابس ولكن فى كل ما يحتويه فضاء المسرح إلى ممثل يجتر ذكرياته/ حياته فى مونولوج طويل، يقوم فيه ليس بعدة أدوار كما يحدث فى المونودراما ولكن بدور واحد يجسد حالات متعددة فى أمكنة وأزمنة متنوعة، ليوحى لنا بوجود شخصيات أخرى غائبة يتعامل معها، حتى الملقن وجوده لا يختلف كثيرًا عن الغرض أو الإكسسوار الذى يستخدمه الممثل أو يستعيض به عن الشخصية فى المونودراما.
والكاتب نفسه أدرك بعد كتابتها قصة أنها قائمة على حبكة مسرحية وأشرك الملقن فى الحوار، حيث تدور الأحداث من خلال حوار بين الممثل والملقن، الممثل فى ملابس كالخاس، الكاهن والعراف وهو أحد أفراد جيوش أجاممنون، شخصية تتنبأ بالمستقبل، ولا يخلو اختيار هذه الشخصية وملابسها من دلالة فى لحظة يشعر فيها الممثل بلا جدوى ما قدمه، ثمة مفارقة كبرى فى مقابل الملقن الذى يظهر بائسًا فى ملابسه الداخلية! ويصف تشيكوف فضاء الحكاية، إذ يجرى الحدث على خشبة مسرح ريفى ليلًا بعد انتهاء المسرحية، مسرح ريفى خال غاية فى البساطة، على اليمين ممر به أبواب مرصوصة مدهونة على نحو غير متقن تؤدى إلى غرفة المكياج والملابس بالمسرح، وعلى يسار المسرح تتناثر القمامة، ويوجد وسط خشبة المسرح كرسى مقلوب بلا مسند أو ذراعين.. حل الليل ويسود الظلام. يرتدى الممثل ملابس كالخاس وفى يده شمعة صغيرة وهو يخرج من غرفة المكياج بالمسرح وينفجر من الضحك!
مونودراما فريدة
هذه المقدمة الطويلة كان لا بد منها حول نص تشيكوف حين شاهدت مونودراما «فريدة»، التى تمت إعادة تقديمها فى مسرح الطليعة ثانى أيام عيد الفطر، كتابة وإخراج أكرم مصطفى وبطولة الفنانة الموهوبة عايدة فهمى... لم أشعر بوجود تشيكوف فى العرض إلا من خلال الفكرة، ويمكن القول إن كتابة المخرج كتابة بعيدة عن نص أغنية البجعة، فنحن أمام ممثلة مشهورة انحسرت عنها الأضواء، ممثلة تحققت وأحبت المسرح ولم تندم على عمرها الذى منحته للمسرح، بل تتذكر مشوارها وهى فى حالة من السعادة، ذهبت إلى المسرح لحضور بروفة لعرض مسرحى بعد فترة اعتزلت فيها الحياة الفنية بعد أن تقدمت فى العمر، وهناك قررت أن تبقى فى المسرح شربت وانتشت وتذكرت المجد القديم، تذكرت أدوارها فى عروض مثل «ماكبث، وميديا وطقوس الإشارات والتحولات» وأدوار أخرى كتبها المخرج، شربت واستمتعت وتذكرت الشخصيات التى صفق لها الجمهور، وحين اكتشف أمن المسرح وجودها طالبها بالرحيل... أحدهم يعرفها جيدًا النجمة فريدة حلمى.. فطلبت منهم سيارة حتى تعود للبيت- هذا الحوار تم من خلال أصوات يستمع إليها الجمهور مع الفنانة- تثاقلت خطواتها، تأملت المسرح وطلبت أن تخرج من الكواليس فى إشارة إلى حنينها إلى هذه اللحظة، لحظة تجسيد الحيوات والشخصيات التى قدمتها هنا على خشبة المسرح.
كتب تشيكوف الحكاية ومنحها عنوان «كالخاس» كقصة قصيرة، وحين حوّلها إلى مسرحية من شخصين الممثل والملقن، حملت عنوان أغنية البجعة، وهو المعنى الذى قدمه العرض، البجعة التى تقوم بالغناء قبل لحظات من وفاتها، والمعنى مأخوذ من الثقافة اليونانية القديمة «أغنية البجعة» مصطلح أصبح يُشير إلى الظهور المسرحى أو الدرامى الأخير، أو أى عمل أو إنجاز أخير بصفة عامة، إذ يحمل هذا المصطلح دلالة على أن المؤدى يعى أن هذا هو آخر عرض له فى حياته، وكلاهما كالخاس الذى وضعه تشيكوف، وفريدة التى صاغها أكرم مصطفى يقدم خلالها أغنيته الأخيرة، لكن مع اختلاف جذرى فى بناء الحكاية وملامح الشخصية، حيث طرح العرض الذى قدمه مسرح الطليعة فنانة تحب المسرح، وتاريخها السابق فقط تعاتب الزمن رغم اعتزازها بماضيها المسرحى، فى مقابل شخصية تشيكوف الممثل الذى خدعه المسرح، والذى وصفه بأنه محض هذيان وخداع، وأن الممثل ليس سوى لعبة فى أيدى ناس فارغى البال.
خصوصية المونودراما
تدخل الفنانة عايدة فهمى فى مونودراما «فريدة» امرأة عجوز تدخل إلى فضاء الحكاية فى ملابس عادية تحيط بها أغراض تدل الجمهور على أننا فى المسرح، أى مسرح دون خصوصية للحكاية يمكن استبدالها أو حتى حذفها، وللممثلة أن تتخيل فضاء كل شخصية. فى المونودراما بشكل عام ثمة نقاط ارتكاز للممثل من خلال أغراض لها صفة دلالية تكون البديل عن الشخصيات الأخرى التى لا نشاهدها، بحيث تصبح محاورة الغرض بديلًا يستدعى من خلال المُحاور الغائب، حوار مع لوحة، صورة، كرسى... وفضاء الحكاية الذى صممه مهندس الديكور عمرو عبدالله فضاء خشبة مسرح دال ومعبر، باب ونافذة ومرآة وسرير ومرآة للممثلة ومانيكان، وأشياء أخرى، زحام من المفردات لم يتم استغلالها جيدًا، كان صوت الصديقة عبر الهاتف هو الغرض الذى تحاوره الممثلة وتنطلق منه إلى الرجوع إلى ذاتها، حيث كان مؤثرًا وفاعلًا أكثر من قطع الديكور مثل الباب والنافذة.
المونودراما تعتمد على مهارة الممثل فى الأداء لقيامه بعدة أدوار وقدرته على تقمص حالات متعددة فى أمكنة وأزمنة متنوعة، وأن يوحى شخصيات فى أمكنة وأزمنة متنوعة، وهذا ما قدمته ببراعة عايدة فهمى من خلال التنقل بين شخصيات متباينة قادمة من ثقافات مختلفة عالمية ومصرية، شخصيات تاريخية، أو فلاحة، أو عاهرة، تنقلت بخفة وبراعة ممثلة لا تمتلك خبرات مسرحية فقط بل وإمكانيات صوتية وأدائية، كان ينقصها توظيف جيد للملابس التى غابت عن المنظر المسرحى، كانت ملابس فقيرة ولا أقصد فى النوع ولكن المخيلة.
وكما ذكرت إذا كانت المونودراما تقوم على الأداء التمثيلى فكانت عايدة فهمى، بموهبتها وخبراتها، القوام الأساسى لمونودراما «فريدة»، فعلى مدى ساعة قدمت عرضًا لمواهبها وقدراتها فى أداء شخصيات متنوعة ومختلفة. والفرق بين فريدة التى صاغها أكرم مصطفى، وشخصية تشيكوف.. أن الأخيرة ليست فقط مأساة بطل بل تم وضع هذه المأساة فى نسيج درامى يتجاوز هذه الذات الأحادية إلى قضية عامة، أما فريدة فجاءت مأساة خاصة لممثلة فقدت أضواء النجومية ودون شك كان لهذه الفكرة المحدودة تأثير ليس فقط على الأداء ولكن على كل مفردات المنظر المسرحى.