«ماما» عطيات التى قاطعنى الأبنودى لأننى اخترتها
لم تكن مأساة وفاة والدى أمام عينى فى حادث سيارة، وكان عمرى خمس سنوات فحسب، إلا لحظة فارقة تغيرت معها حياتى بشكل لا يمكن تخيله بفضل أمى مخرجة السينما التسجيلية «عطيات الأبنودى» التى تمكنت من نسج حياة جديدة لى مختلفة ومتفردة من قلب المأساة ذاتها.
رحل والدى فى التاسع من أبريل ودفن فى الحادى عشر منه، ليترك أصدقاءه وأحباءه فى صدمة شديدة، على مصير البنتين اليتيمتين وعلى خسارة المبدع المتفرد والصديق الاستثنائى. وكعادة «عطيات الأبنودى» فى الصدمات لم تستغرق فى الحزن والحسرة بل فكرت سريعًا فى أولويات التعامل مع الصدمة. لذا ذهبت فى اليوم التالى من الدفن إلى عائلة أمى «مديحة تليمة»، حيث يوجد ما تبقى من «يحيى»، مدفوعة بغريزتها التوثيقية، لتلملم أوراق وقصص «يحيى» المتناثرة قبل أن تضيع كصاحبها. وعادت إلى بيت زوجها الشاعر «عبدالرحمن الأبنودى» تحمل يحيى فى كفيها: فى الكفة اليمنى أعماله الإبداعية، وفى الكفة الأخرى «أنا»، لتكون «عطيات» هى الحافظة لحياة يحيى بعد موته، فقد أشرفت على إعداد وتنسيق ونشر الأعمال الكاملة «الكتاب الوحيد ليحيى الطاهر حاليًا»، كما احتضنتنى كابنة لها.
منذ ذلك الحين شكلت ماما «عطيات» تلك الحياة الجديدة التى أتاحتها لى، بداية من محاولة سد فراغات كل الأدوار المفقودة فى حياتى، الأب «يحيى» الذى رحل، ثم الأب «الأبنودى» الذى قطع علاقته بى عندما اخترت الحياة مع أمى «عطيات» بعد انفصالهما، مرورًا بأدوار الأعمام والأخوال، لتتولى بنفسها إنبات جذور جديدة لى من الأصدقاء والمقربين الذين التقطوا عدوى محبتهم لى منها، لتصبح حياتى سلسلة من الاختيارات وقدرة على التأقلم أينما ذهبنا، وأن تنبت لى جذور جديدة من العدم أينما غرست.
لم تكن رحلة هينة ورومانسية كما تبدو الآن، فقد كنت فتاة برية عنيدة تمامًا مثل أبى، ولكنها كانت تملك المفتاح السحرى القادر على تحويل كل معضلة بيننا إلى روابط أقوى؛ الحب غير المشروط والبنوة التى نبعت من الروح لا من خروجى من رحمها. كان لها طاقة صبر على تعليمى أدق التفاصيل بالمنطق وبالتفكير العلمى كما كانت تقول فى كل مناحى الحياة من ترتيب السرير والطبخ ونظافة المنزل حتى التفكير فى المسائل العلمية، فلم أكن أقلد ما تفعله إنما تعلمت «منطقة» الأفعال كما كانت تفعل، وربما هذه الخبرة على وجه الأخص هى التى تجعلها حاضرة معى فى كل ما أفعله اليوم، حيث أستحضر طريقة التفكير التى علمتنى إياها.
ورغم واقعيتها الشديدة، إلا أنها تمكنت من جعلى شخصية تبدو وكأنها داخل حكاية مثالية تطرح من خلالها نموذجًا للأمومة والعطاء بلا حدود، ولقنتنى ببراعة أن أزهو بحكايتى رغم غرابتها، لا أن أخجل منها أو أفقد القدرة على الشرح، فكنت وأنا طفلة أختال فى المدرسة وأنا أكرر على مسامع زملائى كيف أنا محظوظة أن لى «أُمين» و«أبّين»، وأن أشب وأنا أحس بأمان أن هناك من يعتنى بى ولن يتخلى عنى أبدًا.
على المستوى المهنى، فأمى لها عظيم الفضل لما أنا عليه الآن، رغم أنه لم يكن هناك أى خطط أن أصبح أستاذة جامعية، ولكنها كانت هناك توجه بوصلتى كلما اختلط علىّ الأمر وتحتوى ثوراتى المراهقة فى التعامل مع المتغيرات التى لا تعجبنى حتى وصلت لما أنا عليه الآن، أتذكر جيدًا أننى أصررت على دراسة الشعبة العلمية بالثانوية العامة، وعندما لم أحصل على مجموع عالٍ، التحقت بكلية الزراعة أملًا فى استكمال تصوراتى عن محبتى للعلوم أكثر من الأدب، أو تصوراتى المحدودة وقتها أن الدراسة العلمية تعنى دراسة العلوم فقط وأن هذا لا ينطبق على كل مجالات الدراسة، وأنه يمكننى أن أتفوق وأتميز فى أى مجال وتكون لى قيمة به. تعاملت مع الأمر بهدوء كعادتها وناقشتنى كثيرًا فى قيمة العقلية الأدبية التى يمكن أن تكون مجالى الأنسب خاصة مع نشأتى فى بيت أدبى بامتياز وتشربى لمجال الثقافة والفنون، وسعت فى التحاقى بفرقة «الورشة» المسرحية المهتمة بإعادة إحياء التراث الشعبى، ومن هنا حولت توجهى إلى دراسة الآداب بداية من علم الاجتماع ثم دراسة المسرح، إلى جانب اهتمامى بالفنون وخاصة الشعبية، مما شكل وعيى وثقافتى وانحيازاتى بشكل كبير. وكانت سعادتها غامرة وهى تشاهدنى أحكى وأمثل السيرة الهلالية خلال انضمامى لفرقة «الورشة»، وخاصة أنها كانت قد ساهمت بشكل كبير فى جمع وتفريغ المادة الشعبية من رواة السيرة من أجل توثيقها، ذلك التوثيق الذى صدر فى خمسة أجزاء هى المرجعية اليوم لأشعار السيرة الهلالية، والتى لم تحصل على ما تستحقه من تقدير لدورها المشارك فى هذا الجهد الذى كنت شاهدة عليه، وكأننى بشكل ما حققت لها رضا بأننى أستكمل هذا المشروع معها حتى لو بشكل مختلف، وأن جهودها تتجسد فيما أحكيه. تمردت مرة أخرى عندما جاءنى خبر تعيينى معيدة بقسم المسرح كلية الآداب جامعة حلوان، وكنت قد انغمست فى أحلامى أن أكون نجمة وأننى لم أخلق لوظيفة ولا للتدريس- بنفس محدودية التفكير مرة ثانية. بنفس الهدوء والصبر أعطتنى رأى يبدو أنه أصبح الحكمة الأهم فى حياتى الآن: «باب انفتح لك ما تقفليهوش بإيدك، لما يقفل لوحده يبقى دى النهاية»، إلى الآن لم يغلق هذا الباب، وليس ذلك فحسب وإنما فتح وراءه أبوابًا وأبوابًا، وكلها تأتى إلىّ بلا سعى وإنما نتيجة التزامى بالباب الأول وحصولى على رسالة الدكتوراه فى تخصص المسرح فانفتحت الأبواب المغلقة بشكل سحرى.
هكذا هى أمى «عطيات الأبنودى»، من أول لقاء بيننا بعد ثلاثة أيام من رحيل أبى «يحيى الطاهر» رأت بابًا لم تتردد لحظة فى فتحه، موقنة بأنه يفتح كل الأبواب السحرية لها ولى، وكلى يقين بأن هذا الباب هو ذاته ما يجعلها الآن فى مكان أجمل بكل ما تحمله الكلمة من معنى.