الأحد 24 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

بائع الفخار لـ محمود محمد طبل

بائع الفخار
بائع الفخار

اختار لنفسه مكانًا ومكانة، هو الذى قبع بدكانه الطينى فى ملتقى شارعين متباعدين؛ أحدهما طريق الذهاب إلى السوق وهو مكتظ جدًا، والآخر يمثل طريق العودة وهو سهلٌ ميسر.

أىُّ ذكاء اختاره لنفسه كى يختتم المتجول والمتسكع والحالم جولته بشراء ما يلزمه من أوانى الفخار المتباينة فى اللون والحجم والشكل والغرض المرجو منها. كان الشراء متعة وما زال؛ كأنى أهادى بيتى بمزيد من وسائل المتعة والرخاء.. هكذا يفرض العرف شروط البيع والشراء، ليعلن بصوت مسموع: عيب أن أعود خاوى الوفاض.. إنه يوم السوق حيث لا يتكرر الترحال إليه إلا كل خميس.

يحمل الرائح منه والغادى ما تشتهى الأنفس مودعةً ظمأ أسبوع كامل، يستقبل آخرَ من الإطعام والرى.

كان لتجوالى فى سوق الخميس دلالة عشق ومهارة، ونفس تواقة إلى كل جديد.. أشتم الطازج منه، وأبخس البائت ثمنه؛ تارةً مُتلذذٌ وتارةً مُشفقٌ.

أما سيدات السوق فترى منهن العجب؛ كيف لا وهن يضعن ما صنعته أيديهن طوال أسبوع كامل أو أكثر وربما شهور، روعة الصنعة وتناسق الألوان بين المطرز المزركش وبين اللامع والخافت والصارخ ما يلهب النفس والعين معًا، وربما الجيوب الخرقة، فتفغر فاك إعجابًا وإشفاقًا.

أما صاحبى فعهدى به منذ كنت فى السابعة من عمرى؛ أراه فى غدوى ورواحى، لم يحرك فىَّ ساكنًا.. افترقنا طويلًا وتاهت منى المسالب والمشارب حتى غدوت فى عقدى الخامس.. التقينا على جدار عيادة طبيب للعيون بشارع على بن أبى طالب وبميدان شهير من ميادين المحروسة الجديدة.. كانت صورة بائع الفخار تتصدر قاعة الاستقبال، تجلس أسفلها تمامًا سيدة فى عقدها الثالث أو يزيد، يشغلها ابنها الذى يشبهها فى حركاتها وانفعالاتها، وإلى جوارها ابنتها التائهة بين أن تضع هاتفها المحمول على جانبها الأيمن أم الأيسر.. كنت أسترق النظرة تلو الأخرى، أفتش عن ضالتى؛ أعايش الزمن الماضى، أبحث عن التفاصيل الدقيقة.. تعكر صفوى جلسةٌ خاليةٌ من الحياء، وطفلٌ نَكِد.

لكن صاحبى لم يكترث بكل ما حوله، بل بدا كسابق عهده كريمًا حانيًا؛ يلمس الفخار براحتيه، يقربه منى، أشتم رائحة الطين اللازب، أعود إلى ذاتى.. إلى سِفْرِ تكوينى.