كوالا بشرية فى مديح المواطن البيتوتى
فى علم النفس هناك تصنيفان للشخصية، فالواحد منا إما يكون انطوائيًا أو انبساطيًا، والانطوائية باختصار هى تفضيل الانعزال وتجنب الآخر والتقوقع داخل الذات، كسلحفاة أدخلت رأسها داخل صدفتها مكتفية بعالمها الداخلى دونًا عن المحيط الخارجى.. وعلى النقيض يوجد الشخص الانبساطى أو قل الاجتماعى وهو شخص منفتح على الآخر، مقبل على الحياة بجرأة، وهو فى مثالنا كسلحفاة تخلت عن صدفتها للأبد، وراحت تواجه العالم بجسارة وتستكشفه..
واتفق علماء النفس على أنه لا وجود للانبساطى الكامل ولا الانطوائى المحض، وإنما كل منا يحمل قدرًا من هذا وذاك، ووفق الكفة الراجحة فى سلوكك يتم تصنيفك لأى من الفريقين، فمن يتخيل مثلًا أن مارك زوكربيرج، مؤسس فيسبوك، الذى ربط العالم ببعضه عبر الفضاء الإلكترونى، هو شخص انطوائى بالأساس، وكذلك باراك أوباما، رئيس الولايات المتحدة الأسبق، الذى نجح فى إقناع ملايين الأمريكيين لانتخابه رئيسًا لأقوى دولة فى العالم لفترتين متتاليتين، فهو «بارد للغاية وانطوائى، ولا يهتمّ إلا بشكل هامشى بمن حوله» حسب وصف رئيس فرنسا الأسبق ساركوزى فى كتاب مذكراته بعنوان «زمن المعارك».
وسواء كنت اجتماعيًا أو انطوائيًا، فلا مشكلة، لا يوجد أفضلية هنا لفريق عن الآخر، ورغم أنها تصنيفات تضع الإنسان فى قالب، إلا أنه يظل إنسانًا.. إنسانًا عاديًا.. لا إنسانًا مقوّلبًا، والعالم يستوعبك فى الحالتين.
خذ عندك مثلًا فى وظيفة العلاقات العامة يبحثون عن الشخصية الانبساطية، وفى مجال البرمجة والتقنية يبحثون عن الشخصية الانطوائية «عشان ماحدش يزعل».
كل ما سبق شبه متعارف ومتفق عليه فى دوائر علم النفس.. فما الجديد؟
أقولك أنا.. الواحد منا قد يكون انطوائيًا أو اجتماعيًا- تمام مافيش مشكلة- أما أن يكون «بيتوتى» جديدة دى!
والبيتوتى هو مصطلح دارج اتخذ صفة التصنيف والقالب بل والوصمة لصاحبه، ففلان بيتوتى أى أنه ملازم بيته لا يخرج منه إلا للشديد القوى، حتى لو وقع الشديد القوى «واتطربقت السما ع الأرض» قد لا يبرح صاحبنا فراشه ولا يحرك ساكنًا.
ولقد اعتدنا تشبيه مثل هؤلاء بأوصاف عدة كـ الباندا والكوالا وحيوان الكسلان وحتى فرس النهر.. اختارلك حيوان من دول مش فارقة.. تصور أن ينعتك أحدهم بـ سيد قشطة لمجرد أنك تفضل المكوث فى منزلك عن صحبته!
وأنا هنا أسأل ما المشكلة فى الشخص البيتوتى؟ ولم نتعامل مع تفضيله المكانى والشخصى على أنه عيبة يجب التخلص منها، وسُبة فى حقه تستجلب العار؟
أحدهم جاوبنى ذات مرة بآية من القرآن «وخلقكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا» فرددت عليه بحديث من السنة «إلزم بيتك، وأمسك عليك لسانك» وكدنا نمسك فى خناق بعض.. كل هذا لأننى رفضت دعوته الكريمة للقهوة البلدى ولعب جيمين طاولة!
ولتسمحوا لى بوقفة هنا من باب الإنصاف، وبصفتى كائن بيتوتى صِرف، أود أن أتحدث بلسان كل كوالا بشرية.. كيف يرى هو العالم؟ لا كيف يراه العالم؟
دعونا نبدأ بما لا يحبه البيتوتى، فهو ينفر من الزحام بكل أشكاله، زحام السيارات والأشخاص والمهام وحتى زحام الأفكار، يبغض الضجيج والضوضاء والصخب والدوشة بكل أشكالها، وبداهة فهو ينعم بالهدوء والبراح والوسع الذى يوفره له منزله مهما كانت مساحته.
البيتوتى شخص يحترم حدوده النفسية، ولا يسمح لأحد بانتهاكها مهما كان، ولزومه بيته يحمل رمزية لتلك الحدود التى ضربها عند عتبة بابه، والبعض يرى فى ذلك أعراضًا لرهاب اجتماعى، وهو افتراض خاطئ بالكلية، فنحن لسنا أمام شخص متوحد كما يبالغ البعض، وإنما شخص انتقائى لأعلى درجة، يختار بعناية من يسمح له بالدخول لعالمه عبر فلاتره الخاصة تمامًا كفكرة بوابات المترو، لا عبور إلا لمن يحمل التذكرة.
أما عن تهمة السلبية التى تطوله، فربما ترجع للخلط بين الشخص البيتوتى والشخص الـ «مأنتخ»، فالبيتوتى ليس حيوانًا كسلانًا، ولكنه على سبيل المثال لا الحصر، يفضل العمل من منزله وقد يتقاضى ضعف راتبك من عملك الميدانى أو المكتبى، نحن نتحدث هنا عن تفضيلات شخصية للبيئة المحيطة وليست اضطرابات نفسية، ويكفينا أن ندلل بالمقارنة بين العملاقين نجيب محفوظ وعباس العقاد؛ فالأول- أديب نوبل- الذى كان يروقه الكتابة على مقهى ريش وسط الزبائن وصياح النادل وخلافه، وفى المقابل كان العقاد حبيس بيته أو صومعته كما كان يحلو له وصفه، لا يخرج منه إلا نادرًا كأن يحضر صالون مى زيادة الثقافى، كى يمارس طقوس الحب من طرف واحد، ثم يعود أدراجه ثانية..
نحن هنا أمام شخص مسالم، كافى خيره شره، بعيد كل البعد عن اضطرابات نفسية مستشرية كـ حب الظهور وأخذ اللقطة، وبالتالى فهو يستمد رضاه من داخله.
ينعم بدفء البيت والمساحة الآمنة التى يوفرها جدرانه ومنسجم مع أركانه ومساحته الخاصة، يختفى عن الأنظار لينفرد بذاته فيعالج أفكاره ويمحصها، وهو بالتالى لا يستبعد أن يكون أكثر وعى ذاتى من غيره وأقل عرضة للوقوع فى الأخطاء الناتجة عن التسرع والعجلة وغياب التأنى وعامل الزمن الذى تختمر فيه الأفكار.
وأخيرًا أود أن أطرح سؤالًا لكل من يرفض هذا الطرح: لماذا تطلق على حمّامِك بيت الراحة، وتستكثر علىّ أنا أن يكون فى بيتى.. راحتى!