أن تكون مبدعًا كـ«لص».. العبقرية على طريقة أينشتاين
من بين آلاف الاقتباسات الملفقة للسان أينشتاين بسبب خلل فى أمانة الترجمة من الألمانية للغات أخرى أو استغلال شهرته فى ترويج الأفكار حتى الشاذ منها، هناك اقتباس مؤكد قاله ألبرت وشائع بصيغة موحدة تقريبًا فى كل اللغات؛ ألا وهو «سر الإبداع أن تعرف كيف تخفى مصادرك».
وأنا طفل صغير لم يكمل الرابعة، اعتاد والداىّ أن يحفظّانى جدول الضرب، لا أعلم لماذا أو فيما استعمله، ولكن بحُكم أننى كنت ولدًا مطيعًا، حفظته.. أبى يقول: اتنين فى اتنين بأربعة.. أردد خلفه بأرباااعة.. اتنين فى تلاتة بستة.. أردد: بــ ستااااه، لم أفهم الفكرة، ولكنى حفظته بحكم الذاكرة الفولاذية التى تكون لدينا ونحن صغار قبل أن نكبر نوعًا ما ويأتينا ألزهايمر العشرينات، أعلم أنه لا يوجد ما يسمى بألزهايمر العشرينات، ولكن هذا ما أنا عليه الآن.. نسّاى من الدرجة الأولى. المهم.. كبرت قليلًا، وارتدت المدرسة الابتدائية، وفى إحدى حصص الحساب، كتب أستاذنا بخط كبير فى منتصف السبورة «جدول الضرب».. لتلمع عيناى على الفور، قائلًا فى سرى بخبث طفولى شديد جدًا: «جيت فى ملعبى»، ولم يلبث أن بدأ فى الدرس؛ حتى وجدت صديقى فى الجوار يتثاءب بفتح فمه عن آخره، كثقب أسود كاد يبتلعنا جميعًا فى إشارة منه تعنى أنه لم يفهم شيئًا، لأقول له مطمئنًا: «ما تخافش ده ما بييتفهمش ده بيتحفظ»...
وفى نهاية الحصة سأل المدرس: حد فهم حاجة؟.. الصمت يخيّم على الجميع.. طب حد عاوز يسأل فى حاجة، هنا رفع زميلى يده، ليسأل: «يعنى إيه جدول الضرب ده يا مستر؟».. لم يجب المدرس، وبدأ فى لملمة أغراضه بحقيبته السوداء فى صمت تام.. علمت وقتها أنه بصدد ترك التعليم لحال سبيله، بعدما اصطدم بقدر لا بأس به من الغباوة..
ثم سألنا بيأس، كمحاولة أخيرة منه قبل أن يغادر: طب اتنين فى اتنين بكم.. الصمت يخيم مرة أخرى فيما عدا صوت خافت لتلميذ نحيل، أظنه كان صوتى: بأربعة يا أستاذ.. لم يصدق نفسه المسكين، ليكرر: طب اتنين فى تلاتة، وأنا أرد بـ٦... طب ٢ فى أربعة.. بتمانية؛ ليعيد وضع حقيبته على «الديسك» ويسألنى متهللًا: أنت اسمك إيه يا بنى؟.. فصلان دراسيان بأكملهما، ولم يتذكر اسمى مرة واحدة، والآن قد حان دورى لأنتقم.. اسمى: محمد..
هنا تابع: يا ريت كلكوا تبقوا زىّ محمد وتركزوا فى الحصة.. ليفلت لسانى كعادة الأطفال السُذّج: أنا ماركزتش فى الحصة يا مستر ده بابا هو اللى محفظهونى، طأطأ المدرس رأسه أرضًا، ذاب فى ملابسه من الخجل.. لم يعلّق بكلمة، لملم أوراقه.. ثم خرج ولم يعد- لا ليس اسم فيلم يحيى الفخرانى ومحمد خان- وإنما فعليًا لم أصادفه مرة أخرى فى المدرسة حتى نهاية العام، والأعوام الأربعة اللاحقة.. ولا يستبعد أنه ترك التدريس وأجرى «شيفت كاريير» بسببى..
وعند عودتى للمنزل رويت لأبى ما وقع، فقال لى بحكمة استعصى علىّ فهمها: «يا بنى لما تبقى عارف حاجة ما ترفعش إيدك أكتر من مرة واحدة فى الحصة، لا تتفاخر بما تعلم.. عشان زمايلك ما يحقدوش عليك من ناحية، وعشان المدرس ما يتعودش على كده ويسألك فى الرايحة والجايّة، وأخيرًا ما تقولهمش إنك محضر الدروس.. إنك حافظ جدول الضرب.. عشان تحافظ على الدهشة فى عيونهم.. فهمت؟
ولكننى هززت رأسى بالموافقة دون أن أفهم كلمة؛ عشان ما بوظش الحكمة.
بعد ١٢ عامًا من هذا الموقف، ولا تسألنى ماذا حدث خلالها.. أُعجبت بفتاة عن بعد، ولأنى أفضل الحلول السهلة، بحثت عن أى خيط يربطنى بها؛ فلم أجد.. سوى حسابها الشخصى على الـ«فيسبوك»، صرت أتفحصه بدقة، كانت توثّق فيه كل شىء عنها، ظنًا منها بأنه دفتر يومياتها، لم يكن أحد يتابعها أو يهتم بما تهزى به، ولكنى كنت مهتمًا حد الثمالة، لدرجة أننى أحضرت ورقة وقلمًا.. وصرت أدوّن ملاحظاتى عنها، كما لم أفعل منذ مذاكرة مادة الجيولوجيا فى الثانوية العامة، قرأت كل كلمة كتبتها منذ ميلاد حسابها الإلكترونى.. على مدار ٦ سنوات تقريبًا.
وأخيرًا وصلت لمرحلة أننى أعلم عنها أكثر مما تعلم هى عن نفسها.. لقد استعنت بقراءاتى فى علم النفس، وحللت كل موقف دوّنته، كل حالة مزاجية تشعر بها، حتى تفضيلاتها الموسيقية والفنية، كنت ويكيبيديا الخاصة بها..
ويومًا ما قررت الاقتحام.. لقد ذاكرتها- كما فعلت مع جدول الضرب- وفى أول تعارف بيننا صرت أستعرض مرة أخرى بمعلوماتى.. كنت أتكلم كثيرًا.. تقريبًا كنت الوحيد الذى يتكلم.. كانت تقول: أنا أحب.. فلا أمهلها الوقت، وأسارع: ثانية واحدة أنا هقولّك بتحبى إيه.. ثم أرصّ قائمة بمفضلاتها، لأجد اللمعة فى عينيها العسليتين برّاقة..
كنت أسألها من هو كاتبك المفضّل؟.. ثم أعقّب بسؤال آخر.. هل هو فُلان؟.. تقول لى: مش معقول: أنت عرفت منييين؟ فكنت أضحك بغرور تافه قائلًا: أنا أعرف عنّك كل حاجة.. تسأل مرة أخرى: إزاااى.. ده إحنا لسه عارفين بعض؟ أنت تحفة، لأجدنى أتسحب من لسانى: «لا تحفة ولا حاجة.. أنا قريت عنّك أكتر منّك» ثم فضحت لها سرى.. ومصدر معلوماتى، لتمتعض، وينقلب وجهها، ذات قلبة وجه المدرس إياه.. وتذهب دون أن تعلق بكلمة.. وهذا يعنى شيئًا من اثنين، إما أنها على صلة قرابة بالمدرس إياه، وتحمل نفس طباعه.. وهذا مستحيل، وإما أننى ارتكبت الحماقة ذاتها ثانية بالكشف عن مصادرى.. وهذا هو الأرجح.
ولنذكر هنا أن مارك زوكربيرج مؤسس فيسبوك، المنصة التى استقيت منها معلوماتى عن فتاتى، هو بالأساس لص مدان بحكم قضائى، لاتهامه بسرقة فكرة «فيسبوك» من زميليه فى جامعة هارفارد الأخوان كاميرون وتايلر وينكليفوس، فى قضية استمرت ٦ سنوات، وبالرغم من إنكار مارك التهم المنسوبة إليه انتهت بحصول الأخوين على ٦٥ مليون دولار كتعويض أدبى لهما.. أى أن ابن زوكربيرج الذى غيّر العالم فعل ما لم أستطع بإخفاء مصادر تطبيقه الذى غزا العالم، وكأنه واحدة من بنات أفكاره.
والآن لنعد لأينشتاين، صاحب أهم اكتشاف علمى فى القرن العشرين بوضعه نظرية «النسبية»، الذى إذا ما تتبعنا سيرته ومسيرته نجده حتى يومنا هذا- بعد ما مات وشبع موت- ملاحق بسيل من تهم السرقة والسطو العلمى على جهود من سبقوه لاكتشافه المدوى.
فالبعض يرى «ونقصد بالبعض هنا أسماء ذات ثقل فى حقل الفيزياء، من أمثال ماكس بورن الحاصل على جائزة نوبل سنة ١٩٥٤ والفيزيائى الشهير بورنستون براون، وكذلك العالم إدموند وايتكر» كل هؤلاء شككوا فى نزاهة أينشتاين وأجمعوا على أن دوره فى النظرية النسبية اقتصر على الصياغة والدمج فقط لأفكار كل من «هندريك لورانتز» و«هنرى بوانكريه» المنتسبين للقرن الـ ١٩، بل وطال سطوه لبخس جهود معاصره «هلبرت»، الذى استضافه فى بيته لمدة أسبوع للعمل سويًا على النظرية النسبية، وبعدما دب خلاف بينهما هم أينشتاين مسرعًا لنشر مقاله حول النظرية دون أى إشارة من قريب أو بعيد لشريكه البحثى هلبرت.
ورد أينشتاين فى حياته على تلك الادعاءات- بالثبات على المبدأ فى إخفاء المصادر- بأنه لم يطَّلع مثلًا على إسهامات «بوانكريه» من قبل، ولأن «الكذب مالوش رجلين» اعترف موريس سولوفين «الصديق الحميم لأينشتاين» أنهما انكبا على دراسة كتاب بوانكريه الصادر عام ١٩٠٢، وأن محتواه حبس أنفاسهما لمدة أسابيع، كان ذلك قبل ٣ سنوات من مقال أينشتاين الشهير الذى أسس فيه لنظريته النسبية عام ١٩٠٥.
ولكى لا يتململ أينشتاين فى قبره، فلنذكر أن حاله كحال كل العلماء فى كل العصور، فنيوتن متهم بسرقة اكتشاف الجاذبية من العالم المسلم الحسن بن يعقوب الهمذانى، وأديسون مكتشف المصباح الكهربائى متهم بسرقة أليساندرو فولتا، وجوليمو ماركينى سرق اختراع الراديو من نيكولا تسلا، فالسرقة والسطو، أو لنقل بتعبير أقل فجاجة «الاقتباس» القاعدة لا الاستثناء، وكأنه سلو الحقل العلمى منذ فجر تاريخه.
ولنخلص الآن من تلك السردية الذاتية جدًا والعلمية إلى سؤال فلسفى حول جوهر العملية الإبداعية، هل يعقل أن الإنسان المبدع فى حقيقته هو مجرد إنسان عادى وقع على كنز ثمين فقرر إعادة تقديمه للعالم فى قالب ممهور بتوقيعه الشخصى، وكم من براءات الاختراع تحمل فى حقيقتها إدانات لأصحابها الذين هضموا حقوق آخرين سبقوهم لاختراعاتهم التى ليست باختراعاتهم، ولما وقع الاختيار على لفظ «براءة» من الأساس.. وكأن المجتمع العلمى سبق أينشتاين فى تعريفه للإبداع فأراد نفى التهمة عن رواده!!