منعم عبدالرحمن العبيدى يكتب: البَرُّ
فى نجعِنا العزيز بقلب الصحراء، وفى الصباح الباكر، يخرج مسعود ويتجه للبئر ويلقى الدلو فى أعماقها ثم يرفعها ببطء.. يشعر بثقلها أثناء صعودها، يطرب لوقع تلك القطرات المتساقطة منها طوال الرحلة، ويهيم مع ذاك الصدى الذى يتردد بين أركان غياهبها.
يتوضأ.. وعندما يفرغ من صلاة الصبح يخرج مسرعًا يُسابق شعاعًا أحمر وحيدًا؛ وُلِدَ للتو من رحم الأفق. وما أن يقترب من كلبه الأحمر الراقد أمام باب الحظيرة، يجده متأهبًا يهش بذنبه ويرفع أذنيه، ثم يقف نافضًا التراب عن شعره الكثيف قبل أن ينبح نبحتى الصباح.
يحلب إحدى عنزاته، ويشعر بدفء الحليب داخل القدح..
يتدفق الحليب وترتفع الرغوة أكثر فأكثر مع كل قرصة، حتى يمتلأ، فيربت على ظهر عنزته، قبل أن يخرجها أمامه ويخرج وراءه القطيع.
تلتقط زوجته «هنيَّة» عود حطب، وتقلب مكان جمر البارحة، ثم تضع فوقه خبزة يابسة؛ لتنزع عنها برودة الصباح قبل أن تعيد إشعال النار فى الكانون من جديد.
ترتفع يدها المُحنَّاة، حاملة براد الشاى إلى أن تتخطى مستوى رأسها، وترتفع معها رغوة الشاى فى الفنجان ببطء.
يجلسان على الحصيرة بمقدمة البيت للإفطار.
ثم يبتسم مسعود.. فيضحك.. فيقهقه على تقافز الجديان من فوق السد الصغير المسيَّج أقصى حديقة التين التى ترتدى زى الخضار، بوادٍ صغير جنوب النجع..
أثناء سرده يغلبه السعال فيقاطعه صديقه: كفى يا مسعود.. استرحْ قليلًا ولا ترهق نفسك بالكلام.
ثم يخرج الصديق إلى أبنائه- الواقفين بزيِّهم الإفرنجى الأنيق- خارج حجرة العناية الفائقة، ويقول: قتلتم أباكم ببيعكم النجع، وإجباره على العيش فى شقق المدينة اللعينة الضيقة.