الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

التعالى «الفشنك» على فن الرواية!

الرواية
الرواية

قرأت تعليقات الكاتب الصديق شريف صالح حول فن الرواية فى ندوة «الدستور»، كما قرأت الحوار الذى نشرته جريدة «حرف»، وبقدر ما أدهشتنى الآراء لكنى أيضًا أعرف جانبًا فى شريف يجعله يردد آراءً يعرف جيدًا أنها ليست معتادة وربما صادمة، لكنه يتمادى فيها حينما تزين له نفسه ذلك. ولن أغفل فى الوقت نفسه أنه يبدو صادقًا مع نفسه فى الكثير مما يقول.

وفى كل الأحوال فأنا أتفق مع الكثير مما طرحه حول «الروايات المزيفة»، أو الروايات «البيست سيللر» التى يمكن أن تكون تقليدًا رديئًا لأعمال محفوظ، أو تلك التى يمكن أن تمرر بها ألوان من الرداءة.

لكنى فى الحقيقة أختلف معه فى أن هذه المآخذ تخرج بالنصوص المشار إليها من دائرة «الرواية» من الأساس، بمعنى أن الرداءة التى تتحقق من عدم فهم شروط النوع الفنى تخرج بالنص من تصنيفه أصلًا وليست مجرد دلالات على «عمل ردئ». وهى حالة تنطبق على أنواع أدبية وفنية أخرى؛ سواء كانت موسيقى أو شعرًا أو مسرحًا أو دراما أو أفلامًا سينمائية. 

أما فى حالة الحديث عن جودة العمل الفنى أو رداءته، على مستوى عدم توفر شروط الجودة أو التدليس على النص بالزيف، فهذا أيضًا لا يمكن أن يكون موضعًا لحكم قيمة على النوع الفنى أو الأدبى نفسه بالتعميم المضلل الذى استخدمه الكاتب. 

وفى تقديرى الشخصى أن الرواية حتى تحظى بوصف رواية يجب أن تتمتع بصفة جوهرية وهى أن تكون نصًا لغويًا مفكرًا. الرواية بمعناها الحقيقى هى نص مفكر يمتلك أفكارًا. وغالبًا ما تكون الشخصيات الروائية والأحداث هى السقالات التى يصنعها المؤلف لكى يبرز أفكار نصه. هى الوسيلة التى يمنح بها الأفكار شكلًا مجسدًا من لحم ودم. وأى نص سردى يخرج عن هذا الإطار يندرج فى إطار آخر ترفيهى، يبتغى إمتاع القارئ، وهو حق مشروع، لكن لا علاقة له بالفكر الأدبى الذى هو جوهر فن الرواية. ولهذا فتعليق الكاتب على أن أعمال نجيب محفوظ تتفاوت فى المستوى، تعليق يتجاهل أن محفوظ وهب حياته لفن الرواية، ولم يكن لديه ترف التوقف عن الكتابة لأن كل مشروع أدبى كان بمثابة تمهيد لمشروع آخر كان نتاجه مجموعة أعماله التى لا أظن أن أيًا منها قد اقتصد فى أو تغاضى عن شرط «الرواية المفكرة»، الفكرة التى اتخذها بديلًا للعمل فى مجال الفلسفة واختار أن يفنن الفلسفة والأفكار الفلسفية والوجودية على النحو الذى أتم به مشروعه الأدبى؛ الذى يعد تقريبا المشروع الأدبى المكتمل الوحيد لكاتب عربى. 

لكن بالرغم من اتفاقى مع شريف صالح حول مظاهر «الرداءة» التى تبدو اليوم جلية بسبب زيادة عدد ما يُنشر من نصوص بوصفه «رواية»؛ جنبًا إلى جنب مع الروايات الجيدة بطبيعة الحال، بل ضربه أمثلة لألحان الموسيقار العبقرى السنباطى مقارنة بغيرها فى مجال الغناء والموسيقى، وأننا نعيش عصر التفاهة، وأن نجوم اليوم فى كل المجالات تقريبًا لا يقارنون بنجوم الصف الأول قديمًا، وأمثلة أخرى، لكنى فى الحقيقة رأيت فى مجمل كلامه تعاليًا غير مبرر على فن الرواية. فأغلب ما قاله قدم نظرة فوقية متعالية حتى على بعض الكتاب المؤثرين فى تاريخ الرواية العربية. كما كشف، ربما، عن بعض الميل لفن القصة على حساب الرواية، ورغم نفيه فكرة التعميم لكن جوهر كلامه يشى بالتعميم بالتأكيد. 

يقول شريف إننا لا نعيش زمن الرواية، فأى زمن نعيشه إذن؟ أنا لا أعتقد أننا اليوم ننتظر أمسية شعرية لنذهب إليها بالمئات عندما كنا نعيش زمن الشعر، ولا نسمع حتى عن أمسيات أدبية تناقش دواوين شعرية لأن الناشرين من الأساس توقفوا عن نشر الشعر، إلا من رحم ربى، وأغلب المنابر الشعرية التى كانت تنشر القصائد توقفت عن الصدور. 

كما أننا لا نعيش زمن القصة القصيرة كما كان الأمر فى الثمانينيات أيضًا لأسباب لها علاقة بالجوائز الأدبية ربما، إضافة إلى غياب المنابر التى كانت تنشر القصص وتوقف الناشرين عن الاهتمام بالقصة التى تشهد اليوم عودة خجول على أى حال. 

تقديرى أن ما تعانى منه الرواية اليوم هو حال ما تعانى منه كل المجالات الأخرى فى حياتنا اليوم؛ بسبب حالة السيولة والشعبوية التى خلطت بين الجيد والردئ، وأوهمت الكثير من مستخدمى الإنترنت بأن امتلاكهم صفحات شخصية يمنحهم صكًا لتوهم أنهم نقاد من دون امتلاك أى أدوات لا لفن القراءة أو لفن النقد، وبين هؤلاء من قرروا أن يكونوا كتّابًا، وساعدهم ناشرون بائسون دخلوا مجال النشر فى غفلة من الزمن. 

أما وصفها بأنها فن هجين فيبدو لى افتئات على طبيعتها التى تتسم بقدرتها على احتضان كل الفنون الأخرى لطابعها الديمقراطى الحقيقى، وهذه سمة من سماتها التى ولدت بها، هى عكس أى فن آخر. فالرواية تهضم أى فن آخر قد يستعين به الكاتب وتمنحه الصك السردى أكان مشهدية السينما أو حوارية المسرح أو شرح الانفعالات الناتجة عن الإنصات للموسيقى، أو وصف الطبيعة والجمال مستعيرة إياه من الفن التشكيلى، فهذه أفضلية وميزة خاصة جدًا وليست نقيصة كما يصورها. 

لذلك يبدو لى كلام شريف مماثلًا لكلام الغربى الذى يصف الإسلام بالإرهاب لأنه شهد عمليات تفجير أو قتل على يد بعض الإرهابيين الذين وصفوا بأنهم مسلمون. أو الطفل الذى يظن أن القطار مخلوق شرير لأنه كان ينصت لصوت القطار فى الليل فيصيبه بالخوف والرعب. 

أظننى قرأت له بين تعليقاته كلامًا حول بورخس الذى ظل يعد بكتابة رواية تقليدية ولم يفعل فى النهاية، ولا أعتقد أن قارئًا نموذجيًا مثل بورخس ومؤسس لنماذج سردية خارج التوصيف، أغلبها يتراوح بين السير وتاريخ الأدب، قد يصلح دليلًا للإشارة إلى شىء أكثر من افتقار بورخس نفسه القدرة على كتابة الرواية ببساطة، ربما لأنه قارئ فائق للرواية ولكل الأنواع الأدبية، خصوصًا الشعر، فى ثقافات العالم بسبب معرفته بأكثر من لغة، بشكل يجعله، فى تقديرى، ليس مشغولًا بأن ينتج نصًا روائيًا بالمعنى التقليدى لفن الرواية بقدر انشغاله بتلاقح قراءاته مع أفكاره. وإنتاحه الأدبى يظل علامة فى تاريخ الأدب. مع الأخذ فى الاعتبار أن المثال المطروح يبدو به «شريف» أنه من معسكر بورخس، والحقيقة أن «شريف» بعيد تمامًا عن هذا المعسكر، لأن بورخس كاتب استثنائى فى تاريخ الأدب، وفهمه للأدب بعيد تمامًا عن فهم «شريف» بالإضافة إلى أن مقارنة ما قرأه بورخس مقارنة بقراءات شريف سوف يكون أمرًا مثير للشفقة ولن أقول الضحك. 

فى مقابل بورخس توجد كتابات عديدة تصل إلى حد الأسطورة فى تأثيرها على وعى البشر ومعارفهم وإلهامهم والقيم التى يتبنونها فى حياتهم، وأحيانًا تغير مصائرهم تمامًا من مثل أعمال سرفانتس أو دوستويفسكى وتولستوى أو هرمان هسه أو توماس مان أو محفوظ أو ماركيز أو هان شاو غونغ، أو منيف وساراماجو أو مئات غيرهم ممن شكلوا وجداننا وقيمنا الأدبية وفهمنا للعالم والحقيقة. بل إن رواية «لا تلمسنى» للطبيب والكاتب الفلبينى والبطل القومى خوزيه ريزال كانت سببًا، بين أسباب أخرى، فى سجنه وإعدامه ثم فى تفجير الثورة ضد الاحتلال الإسبانى للفلبين، ولا أظن أن عاقلًا يمكن أن يصف مثل هذه النماذج الأدبية بالراداء ولا بالفن الذى تمثله. 

صحيح أن هذا الاجتراء العام على فن الرواية الذى شهدناه فى العقد الأخير أساء لفن الرواية كما لم يحدث له من قبل، لكن الواجب هو التشديد على القيمة الأدبية الحقيقية للأدب، ودعوة المؤسسات الأدبية لتوسيع مساحة النقد من خلال تأسيس المزيد من المنابر النقدية للنقاد الجادين، وتشديد القواعد العامة الواجب الالتزام بها من قِبل اتحاد الناشرين قبل منح الناشر عضوية جديدة، وربما ابتكار وثيقة مهنية للناشرين يتوجب الالتزام بها بسبب الدور الخطير للنشر فى المجتمع ودوره فى ترسيخ قيم أدبية وأخلاقية وتنويرية أو العكس. 

شريف صالح متابع مجتهد لفن السينما، وموسوعة أفلام سينمائية متنقلة، وناقد سينمائى رفيع المستوى، وكذلك له آراء جيدة فى الموسيقى والغناء، إضافة إلى أنه أحد المتيمين بفن القصة. لكن فى الرواية أعتقد أنه يفتقر المتابعة والحساسية الواجبة لهذا الفن الرفيع. فلدى شريف مثلًا نموذج راسخ دائمًا يشير إليه وهو الكاتب الراحل عبدالحكيم قاسم وروايته الجميلة «أيام الإنسان السبعة»، وهى رواية فاتنة بطبيعة الحال، لكن هذه الإشارة المستمرة لهذه الرواية دون غيرها، ولن نغفل إشارته للحرافيش وزوربا حتى لا نظلمه، تشعرنى بأن «شريف» متوقف عن متابعة الرواية منذ زمن بعيد، من الأساس، وذوقه الفنى فى الرواية محدود. وفى حالات كهذه يمكن القول إن الرواية ليست له؛ كتابة أو قراءة ربما. 

الرواية، وهى بالمناسبة الفن الذى تسبب فى نشأة فن السينما أيضًا ورواجه، هى فن أدبى شديد الرقى، وأحد أبرز ما شكل وجدان المدنية المعاصرة، ربما قد لا تكون مناسبة للبعض وبينهم شريف صالح، وهذا حقه المؤكد.

لكن الذوق الشحصى لا يمكن أن يبرر الاجتراء عليها بما ليس فيها.