الحداثة والمحافظة.. رحلة تحول الفيلسوف الألمانى الحداثى «هابرماس» إلى لاهوتى محافظ
- خلدون النبوانى: نفورى من برود أفكار «هابرماس» دفعنى للتعامل معه بروح نقدية تبدو متحاملة
- مواقف هابرماس الممالئة لإسرائيل هى الأكثر فجاجة فى «خيانته» لما يدافع عنه من قيم
- أثناء انتفاضة الطلاب الشهيرة عام 1968 وصف الطلاب المنتفضين باليساريين الفاشيين
قبل ثلاث سنوات، أعلنت جائزة الشيخ زايد للكتاب فوز الفيلسوف الألمانى هابرماس بجائزة شخصية العام الثقافية، وهى جائزة تُمنح سنويًا لشخصية أو مؤسسة بارزة على المستويين العربى أو الدولى، ليُفجّر الفيلسوف المعاصر مفاجأة وربما صدمة بعد رفضه استلام الجائزة متوجهًا لقرّائه فى العالم العربى بالقول: «أؤمن بقوّة الكلمة.. وكتبى التى ترجمت إلى اللغة العربية تكفينى».
لا يكف هابرماس، الفيلسوف الذى يربو عمره عن التسعين، عن إثارة المفاجئات بمواقفه التى قد تبدو صادمة أو مستهجنة أحيانًا، لا سيما وأنه حريص على الاشتباك مع كل ما يستجد على الساحة العالمية من متغيرات سياسية وثقافية. وعلى الصعيد الأكاديمى يمتاز هابرماس بموقع استثنائى بصفته من الجيل الأخير للفلاسفة الألمان الكبار، وتحظى نظرياته عن الحداثة والتواصل باهتمام عالمى.
فى ضوء ذلك، يأتى كتاب «الحداثة المحافظة: قراءات نقدية فى أفكار هابرماس»، للباحث والمفكر السورى خلدون النبوانى، ليكمل الصورة المعروفة عن الفيلسوف الألمانى، فيركز على مشروعه منذ بداية التسعينيات التى شهدت بداية اشتغاله على أخلاق التواصل وفلسفة القانون ثم فلسفة الدين، كما يناقش أهم المواقف السياسية التى انخرط فيها هابرماس منذ تسعينيات القرن الماضى.
فى هذا الحوار نناقش مع أستاذ الفلسفة بجامعة السوربون خلدون النبوانى بعض من الأفكار البارزة التى وردت فى تعاطيه مع أفكار فيلسوف معاصر بارز.
قراءات نقدية فى أفكار هابرماس
فى كتاب «الحداثة المحافظة: قراءات نقدية فى أفكار هابرماس»، يسلّط النبوانى الضوء على المراحل الأخيرة من فكر الفيلسوف الألمانى.. وبسؤاله عما دعاه للتعاطى النقدى مع أفكار هابرماس على وجه التحديد يقول الكاتب السورى: علاقتى مع أفكار هابرماس قديمة تعود إلى أكثر من عقدين أى منذ أن كُنتُ أُحضِّرُ للماجستير وكنتُ لا أزال فى سوريا آنذاك. كنتُ قد عزمتُ وقتها على الاشتغال فى الفلسفة المعاصرة، وضمن هذه الأخيرة كنتُ أبحث عن فلسفة ما بعد ماركسية تجاوزتها دون أن أقطع معها نهائيًا فمن ناحية كانت الماركسية هى المهيمنة على قسم الفلسفة فى جامعة دمشق التى كُنتُ طالبًا فيها وبنفس الوقت كنتُ أريد التحرر من قفص الإيديولوجيا الماركسى الضيق فقادنى البحث إلى مدرسة فرانكفورت ومنها إلى هابرماس أبرز ممثلى الجيل الثانى فيها. لم أكن أعرف عن هابرماس وأفكاره كثيرًا يومها، بل مجرد تصورات عامة. وصدقينى لو كنتُ أعرف لما كنتُ اخترت هابرماس أبدًا. كنتُ ربما اشتغلت على أدورنو أو ماركوز من الجيل الأول للنظرية النقدية أو لكنتُ اخترتُ فيلسوفًا آخر مثل دريدا أو بودريار فأنا حين فهمتُ هابرماس لم أتفاهم أبدًا مع فكره الإجرائى وأفكاره المحافظة وأسلوبه فى الكتابة والعديد من مواقفه السياسية.
ويتابع: دفعنى ذلك الإحساس بالنفور من بعض مواقفه وبرود أفكاره وإجرائيتها لأتعامل معه بروح نقدية قد تبدو متحاملة أحيانًا. أما خيارى أن أواصل الاشتغال عليه فى الدكتوراه فقد كان لأسباب عملية بحتة منها أن أبقى فى الدكتوراه مع مشرفى نفسه فى الماجستير وأن أتابع العمل فى السوربون.
كتابى الأخير الذى تشيرين إليه هو فى الواقع نصوص كنتُ قد أنجزتها أيضًا لأسباب علمية أكاديمية بحتة منها محاضرة فى مؤتمر عن هابرماس نظمته السوربون عام ٢٠١٤ ودعيتُ إليه بحضوره بالإضافة إلى بحثين محكمين كنتُ قد تقدمتُ بهما لمجلات علمية بقصد التقييم العلمى والتعيين الوظيفى، وبحث أخير عن الدين فقد كان ينقصنى حقيقة دراسة هذا الأمر عنده بتمعن وهو ما لم يتح لى فى الدكتوراه فتفرغت له شهور طويلة بعدها وأنجزته دون أن تفارقنى تلك الروح النقدية وذلك الاختلاف الكبير مع أفكاره ونتائج نظرياته وطروحاته بخاصة فى الحداثة أو فى الأخلاق وفلسفة القانون والسياسة.
فلسفة الدين عند هابرماس
فى الفصل الخاص بفلسفة الدين عند هابرماس بالكتاب يقول النبوانى إن الفيلسوف الألمانى قد انتهى إلى قصور الفلسفة اليوم فى الإجابة عن الكثير من الأسئلة الوجودية، ويوضح ذلك فى حديثه معنا بقوله: هابرماس يجتهد ليكشف قصور العلوم الطبيعية أو ما يسميه بالعلموية عن الإجابة عن الأسئلة الماورائية، قبل أن يصنع قفصًا ضيقًا يسميه الفكر ما بعد الميتافيزيقى يحشر فيه الفلسفة المعاصرة كلها. والفكر ما بعد الميتافيزيقى عند هابرماس له وظائف صغيرة محددة لا يستطيع تجاوزها وهو مشغول فى شئون المجتمع ولا يستطيع أن يذهب أبعد من ذلك.
ويضيف: يقصر هابرماس دور الفلسفة على ترجمة اللغة الدينية فى مصطلحات ومعايير وقوانين مدنية وشرائع سياسية وقيم أخلاقية. وهو لا يكتفى بجعل الفلسفة لغة مدنية موازية للغة لاهوتية دينية هى الأصل، ولا يكتفى بجعلها قاصرة غير مستقلة بحاجة إلى وصاية اللاهوت حتى فى ميادين الدنيا وإنما يجعلها تستنجد بالدين للإجابة على أسئلة هى من صلب الفلسفة منذ نشأتها، وهى أسئلة الميتافيزيقا أو ما وراء الطبيعة بما فى ذلك الموت والروح.
ولأن هابرماس يرتد على الفلسفة المعاصرة فى قفص «الفكر ما بعد الميتافيزيقى» العاجز عن الإجابة عن كل ما هو ميتافيزيقى، بل والمبتعد عنه فإنه يستعيد الميتافيزيقا دون قصد، لكن ليس من باب الفلسفة وإنما من باب الدين القادر، بحسب رأيه، عن إضفاء معنى على مسألة الوجود الموت.
وعن رأيه بهذا التوجه يقول النبوانى: باستعادة الدينى فى الفلسفة وبدعوته لفتح الأبواب أمامه فى السياسة والفضاء العام ينقلب، هابرماس على قيم الحداثة الغربية التى طالما دافع عنها وعن ضرورة استمرار مشروعها. هكذا ينتهى هابرماس العجوز برأيى إلى نوع من اللاهوتى المحافظ، موسعًا من أهمية الدين ومقلصًا من دور وأهمية وقيمة الفلسفة.
ويضيف: لحسن حظ الفلسفة أنها لم تتجسد يومًا بشخصية فيلسوف واحد مهما بلغ هذا الأخير شأنًا وأهمية، وبالتالى كان للفلاسفة المعاصرين تصورات مختلفة. من الصحيح أن الحداثة فى الغرب قد قطعت مع أجوبة الفلسفة المسيحية التى سادت فى العصور الوسطى وأفرغت السماء من الآلهة والمجتمع من الدين ومظاهره، إلا أن فلاسفة الحداثة وما بعدها قد قدموا تصورات موازية أنتجت فى كثير من الأحيان نوعًا من اللاهوت السلبىّ فى عالمٍ لم تعد الآلهة تسكنه. فقد قدّم نيتشه فلسفة موازية تمامًا لغياب المسيح وما عنوان أحد كتبه «ضد المسيح» أو «أنتى-كريست» إلا تصورًا رمزيًا لفلسفة قامت على النقيض أى بالتوازى المقابل تمامًا للمسيح والمسيحية فما موت الإله عنده سوى رمزية مقلوبة لموت المسيح نفسه الذى هو الإله نفسه وفق بعض التصورات المسيحية، وليست عودة ديونيزوس لإنقاذ العالم سوى محاكاة لعودة المسيح المنتظر. خطاب زرادشت النبوئى فى «هكذا تكلم زرادشت» وتوجهه إلى مريديه ليست سوى استعادة لأقوال المسيح وحديثه مع حوارييه، تأكيد نيتشه أنه المريد الأخير لديونيزوس ثم تخيل نفسه الإله نفسه حين فقد عقله ليس إلا استعادة لثنائية المسيح المترددة بين ابن الرب والرب نفسه. ما بقى هو قلب للمسيحية فمقابل التسامح والشفقة والإيمان بالخلاص المسيحى هناك القوة والإزدراء والالحاد والقيم الأرضية. أقام هايدجر فلسفة أنطولوجية تقوم على لاهوت مقلوب وراحت تفكيكية دريدا تنظر إلى الكتابة بوصفها قصاصات متناثرة وناقصة فى محاولة استعادة كتاب الإله المفقود الخ. هكذا أعطت الفلسفة وأنتجت عبر تاريخها تصوراتها عن العالم وما وراءه.
مواقف نبيلة وأخرى مشينة
تحدث النبوانى عن مواقف إنسانية نبيلة اتخذها هابرماس ومنها دفاعه عن حقوق اللاجئين، وبسؤاله كيف تقرأ إذًا مواقفه المؤيدة لإسرائيل وللعدوان على الفلسطينيين؟
يجيب النبوانى: من الأكيد أن لهابرماس مواقف سياسية قويّة لكن قد نختلف فى تقييمها. لا شك أنه أحد أهم منظرى الديمقراطية والتضامن والعدالة الاجتماعية ومدافع كبير عن السلام وحقوق الإنسان وحق اللجوء والهجرة، لكن خلف كل تلك المواقف تكمن عنده نزعة مركزية أوروبية متصلبة لا ترى إلا ضمن إطار الجغرافيا والتاريخ الأوروبيين أى، فى النهاية، ضمن إطار المصالح الأوروبية ونظرية التفوق الحضارى. وبالتالى ما قد يبدو كونيًا عند هابرماس يظل محكومًا فى العمق بدوافع عرقية بيضاء، بل ومسيحية بروتستانية مكبوتة وعقدة ذنب مزمنة تجاه الهولوكوست وتاريخ ألمانيا النازية. سبق وانتبه إدوارد سعيد إلى تلك المركزية الأوروبية عند هابرماس، وهذا ما استنتجته شخصيًا أثناء اشتغالى على كتاباته حول الحداثة التى ظلت عنده حداثة أوروبا الغربية.
ويستطرد: هناك مواقف لهابرماس يحتفل بها البعض بوصفها مواقف نبيلة وشجاعة، لكنى لم أرها كلها شخصيًا - أنا القادم من حضارة أخرى - بنفس تلك النظارات. لاحظتُ مُبكرًا مثلًا وبقلق شديد نَفَسه الممالئ لإسرائيل وتبريره المتكرر لسياساتها وإن بحذر فطِن، لكن بشكلٍ لا يُمكن أن يخفى نفسه تمامًا وهو توجه لم يتوقف عنده (رغم أنه يحاول تجنبه تغطيته وتجميله ما استطاع إلى ذلك سبيلًا).
يظل هابرماس - ربما تحت ثقل عقدة الذنب التى تحولت إلى نوع من المازوخية الألمانية المَرَضية- أحد الوجوه الثقافية البارزة على مستوى العالم فى الدفاع عن إسرائيل تحت غطاء الدفاع عن حق اليهود الذين اضطُهدوا بخاصة فى ألمانيا ومورست عليهم أبشع أنواع العنصرية والتصفية العرقية. لكن أن يكون الدفاع عن حق اليهود فى الحياة الكريمة مثلهم مثل باقى البشر والحرص على منع تكرار الهولوكوست (الذى قامت به ألمانيا مدعومة من أهم دول أوروبا الحديثة والحداثية) موقفًا نبيلًا نقدِّره لهابرماس فهذا لا يعنى وما كان له أن يقوده أخلاقيًا وفكريًا إلى التبرير لسياسات إسرائيل العنصرية تجاه الفلسطينيين الذين دفعوا ويدفعون بالكامل وبشكل وحشى ثمن ما اقترفه الأوروبييون بحق اليهود. لا يتعلق الأمر فقط بتصريحاته الأخيرة بعيد هجوم السابع من أكتوبر (الذى لا يمكن تبريره أصلًا لا وفق القوانين الدولية ولا حقوق الإنسان) بل الأمر متجذر فى وعى ولا وعى هابرماس منذ أن شرع بالكتابة وهو فى الدفاع عن إسرائيل ملكى أكثر من الملَك وهذا ما يفسر ذلك الاحتفاء الكبير به فى الدولة العبرية وجامعاتها.
ويتابع النبوانى: لا شك أن مواقفه هذه سيُنظر لها فى إسرائيل وفى معظم مؤسسات الغرب الثقافية والفكرية المعمية بحق اليهود التاريخى على أرض فلسطين على أنها مواقف نبيلة وشجاعة، لكنها لا يمكن أن تكون كذلك ليس على المستوى العربى فقط، الذى يجد نفسه على الضفة الأخرى فى هذا الصراع، وإنما أيضًا وبخاصة ضمن منظور القانون الدولى وحقوق الإنسان والترسانة النظرية للحداثة الغربية فيما يخص حقوق الحرية والسيادة وحقوق الشعوب فى تقرير مصيرها ومقاومة الاحتلال... إلخ.
وإذا كانت مواقف هابرماس الممالئة لإسرائيل هى الأكثر فجاجة ووضوحًا فى «خيانته» لما يدافع عنه من قيم ومثل وقوانين فإن اختلافى معه فى مواقف سياسية وأخلاقية يذهب أبعد من ذلك فهو بالعمق مفكر سياسى محافظ لم يعرف له مواقف ثورية، بل رجعية كموقفه أثناء انتفاضة الطلاب الشهيرة عام ١٩٦٨ حين وصف الطلاب المنتفضين آنذاك باليساريين الفاشيين. كما يفضح ذلك مواقفه القتالية والمتشنجة ضد المؤرخين الألمان الذين طالبوا بإعادة تقييم التاريخ الألمانى المعاصر للتخلص من عقدة الذنب التى ألزم الأمان أنفسهم فيها على نحوٍ أخلاقى وقانونى ومالى تجاه دولة إسرائيل، مقدمًا بذلك خدمة هائلة بالمجان لإسرائيل على حساب ألمانيا وعلى حساب الحق الفلسطينى.