الفيلسوف السوري خلدون النبوانى: العرب لم يخرجوا من الماضى وليس لديهم مشروع
- المثقف العربى لم يبلور رؤى كبيرة إزاء تغيرات سريعة فى عالم يعاد تشكله من جديد
- بعض العرب ما زالوا يعيشون السلفية الوهابية وآخرون مع ابن تيمية وفى نصوصه وفتاويه وبعضهم الآخر زمن الخوارج
- السلفيات تفشت فى العالم العربى وقضت تدريجيًا على كل منجزات الحداثة على هشاشتها وهجانتها بل وقويت شوكة الإسلام السياسى عند الإخوان
- أنا ضد التوجه الذى يشوه دور الفلسفة وقيمتها ودورها فى تغيير الواقع
- على الفلسفة اليوم بناء ملاجئ فكرية وروحية لعالم يسير بسرعات مرهقة
- هناك إنتاج فكرى عربى سياسىّ حاضر لكن المشكلة ليست فى التنظير وإنما فى خطط الدول الاستراتيجية التى لا تلقى بالًا لعمل المفكرين والمثقفين
- المطلوب من المفكرين رسم خارطة طريق ممكنة وعملية قادرة على قيادة الشعوب دون صدام مباشر بالضرورة مع الأنظمة
يراكم الباحث والفيلسوف السورى خلدون النبوانى، مذ ترك بلده سوريا ليستقر فى فرنسا، جهدًا بحثيًا وفكريًا رصينًا تجسد بعدد من الأعمال التى كتب بعضها بالعربية والفرنسية، وترجم بعضها الآخر. فمن أبرز مؤلفاته «فى بعض مفارقات الحداثة وما بعدها»، و«نصوص أدبفلسفية- فى بعض مفارقات الحداثة وما بعدها»، و«هابرماس- ما بعد نظرية الفعل التواصلى»، ومن ترجماته المهمة «الفلسفة فى زمن الإرهاب»، و«فى السعادة- رحلة فلسفية». وصدر أخيرًا للنبوانى، عضو معهد العلوم التشريعية والفلسفية وأستاذ الفلسفة فى السوربون، كتاب بعنوان «الغريب»، والذى يضم حوارات وتأملات فى الفلسفة والسياسة والمنفى، وأيضًا كتاب «الحداثة المحافظة: قراءات نقدية فى أفكار هابرماس».
فى ضوء بعض الأفكار المطروحة بمؤلفاته، ينطلق هذا الحوار مع النبوانى نحو النظر فى قضايا عالمنا المعاصر وانشغالاته، وكذلك نحو مساءلة مسار الفكر العربى حتى اليوم والنظر فى أسباب إخفاقاته، كما نتطرق إلى واقع الفلسفة اليوم ودورها فى الاشتباك مع معضلات العصر.
■ فى أحدث إصداراتك؛ كتاب «الحداثة المحافظة: قراءات نقدية فى أفكار هابرماس»، انتقدت دعوة هابرماس لاستعادة الدين والدفاع عنه مستدعيًا الفارق بين الإيمان الفردى والدين. ما أهمية هذا الفارق؟
- أُميّز منذ فترة وبشكل دقيق بين الإيمان والدين، هذين المصطلحين اللذين يبدوان مترادفين بينما هما ليسا كذلك. فعندى أن الإيمان، على خلاف الدين، يظل جانبًا شخصيًا محصورًا بالفضاء الخاص بعيدًا عن الجموع وطقوس الجماعة وتقاليدها، فى حين أفهم الدين بوصفه مؤسسة اجتماعية- ولو استحضرنا سبينوزا- إكراهًا روحيًا مفروضًا على الفرد من الخارج بحيث يصبح دين المجتمع قمعًا مُنظّمًا للإيمان الفردى. الإيمان أوسع من الدين الذى يؤطر المؤمن بعقيدة ما ويأسر صورة الإله فى تصورات وعقائد خاصة. الإيمان شخصى، فردى جدًا بينما لا يمكن للدين أن يوجد إلا جماعيًا يمأسس الإيمان ويقنونه فى طقوس وشعائر وعبادات وصلوات ومقدسات ومحرمات.. إلخ. حين يتمأسس الدين جماعيًا واجتماعيًا يُصبح شأنًا أرضيًا، أى سياسة. يظل الإيمان كونيًا مهما كان فرديًا، ويظل الدين خاصًا بجماعة مهما كان كونيًا فهو يقتصر على جماعة المؤمنين به والتى تجد نفسها فى مواجهة أديان أخرى لها بدورها آلهتها المُطلقة.
حين يتمأسس الدين، فإنه ينتقل بدوره من جانب الروح واللاهوت إلى جانب التفاسير والقراءات الفقهية مما يجعله مهدّدًا بالانقسام إلى جماعات من المؤمنين تؤمن كل واحدة منها بتفسير معين مما يهدد بحروب آلهة فرعية انقسمت عن الإله الكلىّ للدين، وهذا ما تشهد عليه الطوائف الدينية التى راحت تتحارب باسم إلهٍ واحد وقد تشظى إلى آلهة وجماعات بعد أن اختلط الدينى بالسياسى، وتحوّل المقدّس إلى تجسيد رمزى للإله على الأرض: البابا، خليفة المؤمنين، رئيس الدولة.. إلخ، وتحولت «مملكة السماء» إلى سلطة الأرض. كل هذه الانحرافات لا يعرفها الإيمان، اللهم إلا بتحوله إلى دين، وهذا ما عاشته أوروبا ما قبل الحديثة على الأقل فى حروب دينية طاحنة وما أغلقت الباب عليه عبر علمانية الدولة التى ضمنت حق تعايش المعتقدات والتصورات دون صراع بقوة القانون المدنى.
■ على صعيد الممارسة العملية، كيف يمكن تطبيق ذلك الفصل؟
- أدرك سبينوزا الفرق الخطير بين الإيمان والدين، وكان مارتن لوثر قد أدركه من قبله فحرَّر الإيمان من ربقة الدين، وخلّص المسيحيين من سلطة الكنيسة التى حبست الإيمان فى الكاثوليكية و«تاجرت بالأرواح»، بحسب كلماته، وعينت نفسها وكيلة حصرية للدين، مؤمنًا بأن خلاص الروح الذى يمر عبر الإيمان بالإله «ممثلًا عنده بالمسيح» لا يحتاج إلى توسط الكنيسة. كان يكفى لهذه الفكرة أن تكسر لاحقًا سلطة الكنيسة الكاثوليكية- لا كسلطة روحية فقط وإنما كسلطة لها نفوذ قوى على السلطة الزمنية ومشاركة فيها- وتفتح بابًا أمام البروتستانتية التى يتكشف تمردها على الدين المؤسس كسلطة فى اسمها (protestantisme). هكذا حرّر لوثر المؤمنين من هيمنة الكنيسة وفك هيمنتها على الإله واحتكار الحديث باسمه متحديًا بذلك سلطة البابوية، التى خشيت من شعبيته عند حشود المؤمنين الباحثة عن الخلاص.
وبمحاولته إعادة الدين إلى الفضاء العام وميدان السياسة يجازف هابرماس بفتح صندوق باندورا المغلق وإعادة أوروبا الحديثة إلى القرون الوسطى حين اصطدمت الحداثة بالكنيسة التى أرادت احتكار الحقيقة والسياسة والسلطة والثروة.
■ فى هذا الصدد، إلام تُرجع الهجوم الذى ما زال الفكر العلمانى يجابه به إلى اليوم بالعالم العربى؟
- لم يخرج العرب فعليًا من الماضى الذى قد يتدرج زمنيًا، فبعض العرب ما زالوا يعيشون السلفية الوهابية وآخرون مع ابن تيمية وفى نصوصه وفتاويه وبعضهم الآخر زمن الخوارج وبعضهم زمن الصحابة والرسول أو علىّ والحسن والحسين وكربلاء، وهذا رغم كل تقنيات الحاضر التى «بحوزتهم» أو هم بحوزتها بالأحرى.
لم نشهد لليوم حقب تمدين وعلمنة جذرية حصل فيها تحرير للدين والدنيا معًا بعقلانية علمانية قادرة على فصل الدين عن الدولة، وتحرير الإيمان من سجون الدين. العلمانية بهذا المعنى الذى أتبناه ليست فقط فصلًا بين الدين والسياسة، وإنما بين الدين والمجتمع.
الفترات التى عرف العرب فيها «نهضة» حضارية أو مدنية كانت قصيرة، غير جذرية يتم الانقلاب كل مرة عليها منذ عصر المأمون وصولًا إلى يومنا هذا مرورًا بفترة محمد على باشا وما رافقها من نهضة مدنية وفكرية. لم نشهد عربيًا «حربًا» على الطريقة الفرنسية بين الكنيسة والقوى العلمانية والمدنية، وإنما معارك قصيرة غير متوازنة يدافع فيها العلمانيون عن أنفسهم بالأقلام والكتب دون حصون ولا دعم ولا مساندة شعبية فى مواجهة جيوش من العامة التى تركض عمياء وراء فقهاء لديهم سيوف وخناجر وأيديولوجيا جهادية وفتاوى بالقتل والتكفير. باستنثاء التجربة «العلمانية» التونسية الخاصة مع بورقيبة، فقد انتصر عندنا السيف على القلم والنقل على العقل والداعية الجاهل على المفكر والفيلسوف. كما لم يحصل عندنا سيرورة توافق بين القوانين المدنية والدين كما فى تجربة الولايات المتحدة الأمريكية التى لم تعرف «حداثتها» حالة صراع حاد ورأسى مع الدين والقوى الدينية كما حصل فى أوروبا عمومًا وفرنسا على وجه الخصوص.
ما حصل عندنا عبر التاريخ هو تحالف السلطة السياسية والفقهية فكثيرًا ما حكم الفقهاء خلف الكواليس وأملوا أوامرهم على الناس، بل وحتى أحيانًا على الملوك والسلاطين والأمراء. وحتى لو كانت السلطة فى يد الحاكم أكثر منها فى يد الفقيه فقد وجد الحاكم فى الفقيه أداة مهمة جدًا فى السيطرة على الناس وتنويمهم أو تجييشهم بحسب الحاجة والظرف السياسى.
■ هل يمكننا إرجاع ذلك الإخفاق إلى ممارسات بعض العلمانيين العرب الصدامية أم بسبب توغل الفكر الدينى بالعقليات العربية وهيمنته عليها؟
- توجهات المفكرين فى صراعهم التاريخى مع فقهاء النقل ومحتكرى الحقيقة ليست واحدة، فبعض المثقفين العرب اشتغل بهدوء على الإصلاح الدينى أو أكد على أن الدولة المدنية الحديثة لا تتعارض مع الدين، بينما انطلق البعض الآخر بحماس صدامى شبه انتحارى «وأحيانًا استعراضى سخيف للأسف» فى مواجهة من يسميهم قوى الظلام. أسماء كثيرة قُتِلت أو لوحقت وكُفّرت فى هذه المعركة غير المتكافئة ليس فقط بين العلمانيين الجذريين وإنما أيضًا بين الأصوات المعتدلة، فالفقهاء لا يقبلون شريكًا لهم فى إدارة «سلطة الحقيقة». منذ السبعينيات تقريبًا، تفشت السلفيات فى العالم العربى وقضت تدريجيًا على كل منجزات الحداثة على هشاشتها وهجانتها، بل وقويت شوكة الإسلام السياسى عند الإخوان المسلمين ومشتقاتهم أو ما ذهب فى التطرف الجهادى حدودًا لم يعرفها التاريخ الإسلامى قبلًا مثل القاعدة وداعش.. إلخ.
اليوم ومنذ أكثر من عقد اكتشفت السُّلطات العربية خطر الإسلام السياسى على الدول التى يحكمونها وهذا ما وضعها فى مواجهة مباشرة أحيانًا ومحتجبة أحيانًا أخرى مع جماعات وأيديولوجيا الإسلام السياسى. هكذا ينقلب اليوم التحالف التاريخى بين السطوىّ والدينىّ إلى مواجهة، لكنها لحد الآن مواجهة من فوق أدواتها السلطة والجيش والأحكام الأميرية، والصراع على تقديم صورة منفتحة للإسلام على خلاف الصورة المغلقة والرجعية التى تقدمها السلفيات والأصوليات.
فى هذه الفسحة يمكن للفكر المدنى العلمانى أن يمر وأن يجد دعمًا من قبل الدولة، لكن استراتيجيات السلطات العربية قصيرة ومزاجية وغير مضمونة. ورغم أهمية ما تقوم به بعض دول الخليج تحديدًا من تحديثات فى القوانين وفتح المجتمع، لكن كل ذلك لا يترافق بما يكفى بتجذير الفكر المدنى فى المجتمع وفى التعليم والمجتمع والتشريعات. الأمر يحتاج إلى الذهاب إلى العمق لا مجرد تقديم صورة شكلية وهنا كل المشكل فى العديد من الاستراتيجيات العربية الخليجية.
■ قلت فى حوار سابق لك، نُشِر لاحقًا بكتابك «الغريب» الصادر حديثًا، إن العالم اليوم بحاجة إلى يسار جديد.. ما ملامح هذا اليسار الذى ذكرته؟ وما إمكانات تحققه بالعالم العربى؟
- لننطلق من الواقع الحالى اليوم ولنلاحظ كيف راحت المظاهرات الطلابية تعم أنحاء العالم الغربى تحديدًا، فى الولايات المتحدة الأمريكية، وفى أوروبا ليس فقط رفضًا لسياسات إسرائيل الوحشية وجرائم الحرب والتصفية العرقية التى تقودها حكومتها اليمينية المتطرفة بقيادة نتنياهو وجالانت، وإنما ضد مواقف دول الغرب نفسها أيضًا وبخاصة أمريكا فى دعمها اللامشروط لإسرائيل كما لو كانت أهم ولاية أمريكية. لا شك أن الاحتجاج فى أوروبا وأمريكا ظاهرة معروفة وهى من صلب الديمقراطيات، لكن مدى اتساع احتجاجات اليوم ورفضها لسياسات تلك البلدان المتمركزة على مصالحها وتفوقها وهيمنتها هو ما يُذكِّر بحركات اليسار والاحتجاج العالمى فيما عُرف فى فترة ما بالمعسكر الرأسمالى.
اليوم تغير الواقع وتغيرت المعطيات على مستوى العالم، فلم تعد المجتمعات الغربية مثلًا رأسمالية بالمعنى الماركسى الكلاسيكى وإنما ما بعد رأسمالية وما بعد كولونيالية وما بعد ليبرالية وما بعد حداثية.. إلخ. ومع ذلك، ورغم كل ما يتغير على الأرض، فالفوارق الاجتماعية لا تزال موجودة وتتسع أبعادها ويتفاحش استغلال وتهميش وانتهاك البسطاء وفئات المجتمع الفقيرة سواء داخل المجتمع الواحد أو فى صراع الدول على الثروات ومراكز النفوذ والهيمنة والسيطرة على الأسواق، أما على مستوى القانون الدولى فيتوالى انتهاك الأنطمة والقوانين والقرارات الدولية ويتراجع احترام المؤسسات الدولية.
الكثير من الدول التى كانت مُستعمرات فرنسية سابقًا وظلت تابعة لمصالح فرنسا الاقتصادية والعسكرية والأمنية بعد الاستعمار راحت تتمرد اليوم عليها وتخرج من سيطرتها مثل نيجر ومالى وبوركينا فاسو وهناك تململ شعبى فى السنغال والجزائر، بل وحتى فى المغرب من العلاقات والسياسات ما بعد الكولونيالية الفرنسية. شهد العالم العربى بدوره ثورات عديدة، وبغض النظر عن مآلاتها إلا أنها عكست حالة تململ الشعوب من الواقع القائم المفروض.
لا يمكن حصر الدلائل على تغير التاريخ اليوم ورغبة الأفراد والمجتمعات والشعوب بالتخلص من الظلم الاجتماعى أو السياسى. وفى حين يزداد عدد سكان الأرض تتعاظم أعداد الفقراء وتستفحل الفوارق بين الشعوب كما تجلى ذلك مثلًا فى أزمة كورونا. كل ذلك يخلق حالة مقاومة ورفض وغليان شعبى وتوترات دولية مما يرسم ملامح أشباح يسار غامضة. وهنا أتحدث عن أشباح لعدم وضوح الصورة ففى الوقت الذى تتوافر فيه كل مقومات الاحتجاج والتمرد والثورات إلا أنها تفتقر جميعًا للأيديولوجيا التى تقودها والمثال الذى يمكن أن تطمح إليه وخارطة الطريق التى يمكن أن تقود إلى بر الأمان والتقدم والحرية.
فى فترة الثورة البلشفية كانت هناك الاشتراكية الشيوعية والماركسية اللينينية كدليل، وحين انقسم العالم معسكرين شرقى وغربى أخذ اليسار الهوية الماركسية اللينينية، لكن اليوم هناك فى الجنوب والشرق رفض لسياسات الغرب والشمال ومصالح دوله الضيقة ورغبة ملحة تتجسد يوميًا فى حروب وصراعات كالحرب فى أوكرانيا أو الصراع الأمريكى الصينى الصامت على الاقتصاد، كل ذلك حاضر وقائم وفاعل، لكن دون أى خريطة طريق.
لا شك أن روسيا تعمل فى السر والعلن ضد مصالح الغرب، وتدعم عسكريًا وإعلاميًا ولوجستيًا كل طموحات الدول المُستغلة غربيًا كما فعلت وتفعل فى إفريقيا مثلًا، لكنها لا تقدم أى أيديولوجيا. فلا هى قادرة على إعادة إحياء الاشتراكية الشيوعية التى تكشفت عن وجه شمولى أسوأ من كل مساوئ الرأسمالية ولا هى تقدم نظرية سياسية لأنظمة سياسية عادلة أو ديمقراطية ولا تطرح حتى يوتوبيا جديدة. اليسار الجديد هو للآن مجرد شبح غير واضح المعالم، يمسك بقوة بمعاول الهدم لكن رأسه فارغ من أى خطو ولا يعرف ماذا يمكن أن يحصل فى اليوم التالى.
فى كل هذا الاضطراب الدولىّ ليس للعرب مشروع حقيقى وإنما نحن مجرد بلدان وأقطار لكل منها مصالحه الخاصة. وحدها دول الخليج العربى بما تمتلك من ثروة هى القادرة على خلق نواة مشروع عربى، لكنها لا تزال للأسف تفكر على نحوٍ جزئى خاص لا يتعدى أبعاد إدارة الصراعات الإقليمية الطارئة فى أحسن الأحوال.
■ فى ضوء ذلك، كيف تقيّم دور المفكرين العرب بالعقدين الأخيرين؟ هل من أسئلة فكرية نجحوا فى استشكالها برأيك أم أنهم ما زالوا أسرى الإشكاليات القديمة؟
- المثقف العربى فى كل هذا، مثله مثل مثقفى الغرب أصلًا، لم يبلور رؤى كبيرة ولم يضع نقاطًا واضحة فى هذا النهر الجارف من التغيرات السريعة ومن عالم جديد يعاد تشكله من جديد. لكن دعينى أعترف، قبل ذلك لك، بأن اطلاعى على إنتاج المفكرين العرب فى السنوات الأخيرة فقير ومتواضع وأنا خجول جدًا بهذا. يمكن تبرير هذا الجهل بانشغالات أكاديمية مختلفة وبإقامتى فى فرنسا بعيدًا عن العالم العربى، ومع أن كل ذلك صحيح إلا أنه غير كاف. اشتغلت كثيرًا فى العقدين الأخيرين على الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة وبعض من الفلسفة العربية الإسلامية، وعكفت بشكل جيد على قراءة بعض ما فاتنى فى الفكر العربى الحديث والمعاصر، بخاصة عند الطهطاوى وطه حسين والجابرى، لكن فاتتنى متابعة الكثير من الأقلام المهمة فى هذا الميدان.
مع ذلك يمكن لى تقديم رأى سريع فيما اطلعتُ عليه من إنتاج لبعض الأسماء أو بعض الأعمال فى الفكر العربى فى العقدين الأخيرين: يظل ما ينتجه المفكر اللبنانى على حرب مهمًا جدًا على المستوى الفلسفىّ، رغم أنه- وليعذرنى فى هذا- صار كثير التكرار وأقل أصالة. ومع ذلك لا يزال صوتًا فكريًا متابعًا وخلّاقًا، وأن ما أنجزه فى العقدين الأخيرين، سواء فى أطروحاته عن عوالم ما بعد الحداثة وأزمنة التكنولوجيا والإرهاب وأزمات المثقف وتفكيكه نصوصًا لمفكرين عرب من أهم ما قُدِّم ويُقدّم عربيًا من وجهة نظرى.
قرأت أيضًا معظم ما أنتجه الدكتور عزمى بشارة فى العقد الأخير، ولعل أهمية ما يقدمه بشارة هو جدية البحث وسعة الاطلاع على التاريخ السياسى والاجتماعى والنظريات السياسية والعلوم الاجتماعية، ومقاربة كل ذلك مع مشكلات الواقع العربى الحاضر مثل مسائل الدين والطائفية والعلاقة الإشكالية بين المثقف والسلطة وفكرة الدولة، والديمقراطية وإمكانية تحققها عربيًا... إلخ. وسواء اختلفنا أو اتفقنا مع توجهاته العامة إلا أنه قدّم أبحاثًا مهمة نظريًا حول واقع الشعوب العربية وسبب ثوراتها وخارطة طريق حول الانتقال الديمقراطى ومشاكل العلمانية والطائفية وأنظمة الحكم فى العالم العربى. كما أن كتاب المفكر برهان غليون الأخير «سؤال المصير» أحد أهم التنظيرات فى واقع العرب الحديث والمعاصر فى أسباب إخفاقهم السياسىّ واستعدادهم للحداثة وإجهاض الغرب المستمر كل محاولات نهضتهم وتحررهم.
لا شك أن هناك الكثير من الأفكار والتأملات فى واقع الحرب واستشراف حلول قد قدمت من قبل آخرين لم أطلع على أعمالهم، وبالتالى هناك إنتاج فكرى عربى سياسىّ حاضر، لكن المشكلة ليست فى التنظير، وإنما فى خطط الدول الاستراتيجية التى لا تلقى بالًا لعمل المفكرين والمثقفين، ولهذا نحن فيما نحن فيه.
■ فى ظل بزوغ فكر ما بعد الحداثة الكاشف عن أوجه العلل الحداثية.. هل يمكن أن نأمل بتحقق حداثة عربية تنطلق من الإشكاليات العربية ومن الوعى بالإشكاليات التى رافقت الحداثة الغربية؟ وما الدور الذى يتوجب اليوم على المثقف العربى القيام به فى ظل الاستقطابات التى يحيا فى خضمها؟
- فى المركزية الأوروبية تفهم الحداثة بوصفها «الحداثة الغربية» فقط أى محصورة فى التاريخ والجغرافيا الأوروبيين. هكذا فهم «فيبر» الحداثة مثلًا ولم يخرج تصور هابرماس فى العمق عن هذه الحدود الضيقة للحداثة وما حديثه عن الحداثة بوصفها مشروعًا لم يكتمل إلا ضبطًا لحدودها وحرصًا على استمرار الهيمنة الأوروبية ومركزية حضارتها. فى حين أننى أفهم الحداثة بوصفها تجاوزًا أو قطعًا مع قديم صار معطلًا حضاريًا وعائقًا أمام التقدم حتى ولو مارس دورًا تحفيزيًا أو رافعة للتغيير والتطور فى زمن مضى. فلا توجد أفكار كوصفات جاهزة صالحة لكل زمن ومكان وأن ما كان عامل تقدم قد يصبح مع الزمن باليًا صدئًا يعيق الحركة، من هنا أميز مثلًا بين التحرر والحرية فقد تتحول الحرية إلى قفص مفاهيمى مغلق وضيق.
لا شك أن تجارب الحداثة الغربية وغير الغربية مهمة وعلينا الاستفادة منها لا القطيعة معها بسبب هيمنة الغرب على العالم باسم قيمها الكبرى وتوسعه خلف قناعها واستعماره للعديد من الشعوب واستمرار تعامله المتعالى معها. كل أسباب التغيير موجودة اليوم فى العالم العربى وهى لا تزال حاضرة ولم تنتهِ بقمع الشعوب العربية فى ثوراتها فلا يزال الاستبداد قائمًا والفساد مستشريًا والقمع مستأسدًا ولا يزال الفقر يتسع وفئات المجتمع المهمشة كبيرة فى معظم دول العالم العربى. لكن التغيير لا يعنى دائمًا التقدم أو التطور فقد يكون سقوطًا أو تراجعًا أو مزيدًا من الانحدار والتفكك والقمع والفقر، ولا تقوم الثورات سوى بالشق الأسهل من عملية التحديث وهو الهدم فى حين الأصعب هو البناء ووضع خطط مستقبلية للتغيير وتحرير الإنسان والمجتمع دون القضاء على الدول والسياسة بوصفها نظامًا للحكم. عانت ثورات العالم العربى الأخيرة من نفس مأزق اليسار الجديد فقد اتسمت بأنها قوة تمرد على كل الشروط الظالمة والمجحفة وعلاقات الاستغلال والتهميش.. إلخ لكنها دون أيديولوجيا. وهنا يبرز الدور الأبرز للمفكرين والمنظرين العرب فى رسم خارطة طريق ممكنة وعملية قادرة على قيادة الشعوب دون صدام مباشر بالضرورة مع الأنظمة. لا بد من توافق الجميع حكومات وشعوبًا وأنظمة سياسية على أهمية الصالح العام على المصالح الخاصة وأن السلطة تكون بأمان حين تكون فى يد الشعب، لكن فى دول قوية فى نفس الوقت. لا بد إذن من حلول شاملة وجذرية طويلة الأمد لا تجميلية وقصيرة النفس.
■ فى السياق، يمكن الحديث عن توجه بعض الباحثين فى الفلسفة عربيًا وعالميًا نحو ما أطلق عليه «فلسفة الشارع»، أو «الفلسفة التطبيقية»، فما تقييمك لهذا التوجه؟
- يتوقف الأمر على المعنى والاستخدام. ففلسفة سقراط كلها مثلًا هى فلسفة شارع بالمعنى الإيجابى للكلمة أى بمعنى «إنزاله الفلسفة من السماء إلى الأرض» والتحدث مع الناس فى الشارع والساحات مثل الأغورا والأماكن العامة والبيوت.. إلخ. كما أن هاجس كانط «فى الاستخدام العمومى للعقل»، وفلسفات التواصل ولغة الكلام اليومىّ عند أوستين وسيرل وهابرماس هى طموح فى جعل العقل والفلسفة فى متناول الجميع. ولا بد من الإشادة بمحاولات تبسيط الفلسفة وتقديمها للناس فى قوالب ممتعة أو أدبية كما يفعل الكثيرون مثل الروائى النرويجى جوستن غاردر فقد قدم خدمة كبيرة للفلسفة التى بدت متعالية وعصية على غير المختصين بها.
لكن الفلسفة التطبيقية بالمعنى الضيق للكلمة والذى يعكس أبعادًا براجماتية ضيقة جيدًا ويطالب الفلسفة بترجمة نفسها فى تطبيقات سريعة ومباشرة يفسد الفلسفة ويلحقها بلغة السوق والمردودية المادية الملموسة. بل لعل سياسات التعليم فى الغرب المنشغل، بعقلية الربح، والقائمة على الربط بين الجامعة والسوق حولت ميادين العلوم الإنسانية بما فى ذلك الأدب والفلسفة إلى مصانع تقنية بلا روح فصرنا نتحدث عن الأخلاق التطبيقية والمنطق التطبيقى وفلسفة الدين التطبيقية.. إلخ. بهذا المعنى الأخير أنا ضد كل هذا التوجه الذى يشوه دور الفلسفة وقيمتها ودورها فى تغيير الواقع من خلال نقده على نحو مثالى، كما أنه يقلِّم أظافرها ويقضى على قوة السلب فيها.
■ يقودنى هذا إلى سؤالك عن أهمية دور الفلسفة.. ما الذى يمكن أن تسهم به فى عالم اليوم؟
- لا أظن أن هناك دورًا واحدًا للفلسفة أو رسالة وحيدة لتقّدمها عبر التاريخ. من الصحيح أن الفلسفة قد تأتى فى غير زمنها وهناك أفكار فلسفية أصيلة كونية تخترق الزمن، لكنها مع ذلك تظل الفلسفة ابنة عصرها وزمنها كما يؤكد هيجل. فمثلًا فى فترة كان هم الفلسفة بناء العقل وتأسيس الميتافيزيقا وتنظيم العالم الفوضوى عقليًا حتى يتسنى للمرء فهمه والعيش فيه، لكن مهمة الفلسفة تحولت بعد ذلك بقرون إلى تفكيك كل تلك البنيات العقلية والميتافيزيقية حتى تستطيع أن تؤسس بداية جديدة تعيد علاقة الإنسان بعالمه أو الموجود بالوجود وتحرر الإنسان من سجون نظرية (بعضها سجون الحرية التى كانت تحررية فى زمن ما ثم تجمدت وتحولت إلى أقفاص نظرية خانقة). من ناحية ثانية حتى الفلسفة فى زمنها هى فلسفات بأوجه متعددة أحيانًا تبلغ حد الاختلاف والصراع. فغالبًا ما تحدث الصراعات الفلسفية فى نفس العصر وبين فلاسفة متجايلين من ذلك مثلًا الجدل الفلسفى الكبير المهم والمثمر بين المذهب العقلانى والتجريبى الذى شغل مساحة القرن السابع عشر وجزء مهم من الثامن عشر. وإذا ظل مثل هذا الخلاف محصورًا فى الإطار النظرى (الإطار المعرفى) فإن هناك وجوهًا نظرية ووجوهًا عملية للفلسفة.
نظريًا أعتقد أن المهمة الأكبر التى قد يكون على الفلسفة التنطح لها وربما التأقلم مع متغيراتها هو وضع نقاط واضحة وبناء ملاجئ فكرية وروحية لعالم يسير بسرعات مرهقة تجعلنا مثل الورق اليابس فى الإعصار أو مثل القش الطافى فى الفيضان. كل شىء يتغير حولنا بسرعة مذهلة يصعب ضيطها. سرعة العالم اليوم خلّعت كل أبواب المعرفة وملاجئها التقليدية، لا شىء لنتمسك به فى هذا الفيضان ولا ندرى إلى أى أرضٍ يمكن أن يرمينا الإعصار. كل شىء سريع: الأخبار، المعلومات، إيقاع الحياة. كل شيء متاح إذن نحن وجهًا لوجه أمام اللا شىء أو العدم، كل شىء ملقى أمام ناظرينا ومع هذا لا نرى شيئًا. نحن نعيش اليوم ما يسميه الفيلسوف الفرنسى بودريادر «زمن البورنو»، حيث اللذة أقل رغم فيض الإباحة، بل بسببها، وعميان أو شبه عميان، رغم قوة الصورة وعنفها، بل بسببها، وأقل معرفة وأكثر جهلًا، رغم توافر كل شىء مثل سهولة الوصول لما نريد من كتب ومراجع ومعلومات ومصادر ومخطوطات.. إلخ، ونحن نغدو أقل ذكاء رغم توافر الهواتف الذكية بل بسببها. نحن فى عصر لا ننظر فيه أبدًا داخلنا وإنما نعيش فى عوالم افتراضية أقوى من الواقع وأصلب، نتابع حياة الآخرين، وننسى أن نعيش. كل ذلك يتطلب من الفلسفة مواجهة هذه الوقائع دون رفضها بالكامل. فهذا هو الواقع وسيكون على الفلسفة إن أرادت البقاء أن تتأقلم مع كل هذه التغيرات السريعة دون أن تفقد عقلها، كما هو حال الوعى العام الغارق اليوم فى العوالم الافتراضية ونسيان الوجود والحياة.
من الناحية العلمية، سيكون على الفلسفة، بالإضافة إلى رسم الطريق وعقلنة عالم فلت من عقاله، التنبيه لما قد ينتهى إليه عالم دون رأس مثل طائرة مات كل طاقمها ولا تدرى أين ستسقط وتتحطم، كما سيكون عليها خلق مرجعية نظرية لليسار الذى يعيش بلا رأس وفضح السياسات الكبرى لشركات التكنولوجيا التى تحولت إلى آلهة جديدة تحمل كل ميزات الآلهة من قدرة على التجسس والتحكم بالحياة وتنميطها.