الإثنين 16 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

سعيد نوح: استقبلت عرفة بـ«اللهم العن الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر»

سعيد نوح
سعيد نوح

«اللهم العن الآمرين بالمعروف التاركين له، اللهم ألعن الناهين عن المنكر، المرتكبين له».. هذا الدعاء الذى حفظته عن ظهر قلب، كان أول ما قلته وأنا أدخل إلى حرم أرض عرفة.

لكن قبل ذلك اليوم كانت لنا أيام. كنا فى بداية سبتمبر من عام ٢٠١٣، ولم يمض إلا شهران على ثورتنا ضد حكم «الإخوان»، حين أخبرنى الدكتور المرحوم عالى القرشى، «وزير ثقافة الظل» كما كان يطلق عليه فى المملكة، أنى سأكون مرافقًا لزوجتى الدكتورة هويدا صالح، التى صارت من المختارين للعمل بجامعة الطائف.

هبطت فى مطار جدة بعد العيد الصغير، لأجد فى انتظارى الصديق الشاعر عماد قطرى، الذى يعمل فى مكة، لأدخل بيت الله للمرة الأولى فى حياتى بمعيته، بعد أن أنزلت الزوجة والابنة الوحيدة فى أحد الفنادق.

مرت اللحظات وأنا مأخوذ بهذا الصرح العظيم، وفى قلبى يتردد كثير من الأدعية. لم أستطع أن أغمض عينى لأستدعى بعض المشاهد المخزنة لهذا البيت من خلال الأفلام والمسلسلات.

بعد ذلك اليوم، وأنا أتجول فى نفس المكان، كثيرًا ما أغمضت عينى ورحت أتحسس بيدى وأرى بعيون قلبى شخصيات غيرت التاريخ، مضت من ذات المكان وتركت وقع خطوها فوق «الصفا» و«المروة».

أتذكر ذلك اللقاء الذى حدث لى أثناء تأدية إحدى العمرات، وبالتحديد فى الشوط الرابع بين «الصفا» و«المروة». كنت قد اندفعت فى السبق واختلت قدمى وتجندلت خطواتى، حتى وجدتنى فى حضن شيخ طاعن فى السن بصحة معتلة، وبالرغم من ذلك أوقفنى، وحمانى من السقوط. حين استقر بى المقر تبين لى أنه أطول منى بكثير، وأنه يشبه أكثر ما يكون الهنود، لكن لحيته الفضية غطت صدره.

ارتويت من زجاجته الصغيرة، وجلست أتأمل قسمات وجهه المرهقة، لا أعرف لماذا خطر على بالى شخصية «أبى ذر»، صاحب الكلمة الجريئة، التى لا تعرف المداهنة ولا الرياء ولا الوجل. رمز اليقظة فى الضمير الإنسانى المتعب، كما هو فى الضمير الإسلامى.

كنت أفتح عينى وأغلقها وكأننى أرى بعين تخيلى «أبا ذر» يجلس بجانبى. رحت أنظر إلى الشيخ الهندى وهو يبتسم لى ويهز رأسه، وكأنه يؤكد لى أنه «أبو ذر».

كنت أتأمل المهرولين فوق «الصفا»، وذاكرتى تستدعى كل ما قرأته فى كتب التاريخ الإسلامى عن تلك الشخصية المميزة. عادت عيونى الراضية أو المرضية إلى وجه ذلك الذى خاطب «معاوية» ذات مرة، مجيبًا إيّاه: «ما أنا بعدوٍ لله ولا لرسوله، بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله، أظهرتما الإسلام، وأبطنتما الكفر، ولقد لعنك رسول الله ودعا عليك مرات أن لا تشبع».

الصفحة الثامنة من العدد الثالث والعشرين لحرف

فقال معاوية: «ما أنا ذاك الرجل».

فقال أبو ذر: «بل أنت ذلك الرجل! أخبرنى بذلك رسول الله، وسمعته يقول، وقد مررت به: اللهم العنه، ولا تشبعه إلا بالتراب..».

وخيّل لجلاديه الحاكمين أن غضبه على «معاوية» إنما كان لنفسه، وأنه ربما كان عن فاقة ألمّت به، أو مطمع يدفعه إلى ذلك، فساوموه رجاء أن يسكت أو يكف، لكنهم وجدوا خلاف ما كانوا يتوقعون. تركنى الشيخ الهندى تاركًا عقلى لا يعرف إن كان ما حدث قد حدث، أم هو موقف قرأته فيما سبق، وتم استدعاؤه وأنا فى معية «أبى ذر الهندى».

قبل أن يبدأ شهر الحج بأسبوع، كان الصديق «عماد» قد أعد لى حجرتين فى شقته العامرة بالخير، فى الأيام المتبقية كنت أصنع خريطة ثلاثية الأبعاد من الدعوات، الأولى لساكنى منشية جمال عبدالناصر، محل سكنى منذ الصبا الأول، ببيوتها وشوارعها الفردية والزوجية، وكل بيت بما يحمله من طيبين وطيبات، دون تفرقة بين مسلم ومسيحى وكافر، وهو أيضًا لابد موجود، فليس كل البشر مؤمنين، وكأنى مبعوث تلك المنطقة النائية بحلوان إلى ملائكة الرحمن الرحيم فوق أحراش عرفة.

الخريطة الثانية كانت لكل معارف العمل والمهنة والمقاهى والصيدليات. وابتعدت تمامًا عن كل أقسام الشرطة، أما الثالثة كانت لأسماء هؤلاء العظماء المبدعين الذين أضاءوا لى ليلى الحالك طوال ما يقرب من خمسين عامًا. لم أترك اسم كاتب أو موسيقى أو فنان أسعدنا إلا وكتبت له دعوة طيبة وحفظتها عن ظهر قلب.

أتذكر جيدا أنى فوجئت بأن الطائفين حول الكعبة لم يكونوا يرددون الدعاء الذى طالما استمعنا إليه فوق شاشة القناة الأولى أيام الحج، فالطائفون لم يكونوا يرددون فى نفس واحد -كما تصورت-: «لبيك اللهم لبيك»، بل كل كان له شأن يغنيه، يدعو الله كما يتراءى له، من دون أن يجمعهم نداء جماعى واحد.