أسامة عبدالرءوف الشاذلى: هربت من عنف وفوضى 2011 إلى البيت الحرام
لا تفارقنى ذكريات تلك الرحلة أبدًا، وعلى الرغم من أننى قمت بأداء أكثر من عمرة فى حياتى، إلا أن ذكريات رحلة الحج الوحيدة، فى خريف عام ٢٠١١، لا تزال عالقة فى نفسى ولا أنساها أبدًا.
بالنسبة لى كان عام ٢٠١١ من أقسى الأعوام التى مررت بها فى حياتى. أنا على المستوى الشخصى شخص يكره العنف والاضطراب، وكانت حالة الفوضى العارمة التى اجتاحت عالمنا العربى فى هذا العام، وما صاحبها من عنف غير مسبوق، سببًا فى إقدامى على أداء مناسك الحج حينها، راجيًا من الله أن أنال منها بعض الطمأنينة والسلام. وبالفعل تمت الزيارة على أفضل وجه. رافقتنى أمى وأخى الأكبر، وأدينا المناسك بأريحية بسبب قلة عدد الحجاج نسبيًا فى ذلك العام، وكان الجو المعتدل فى نوفمبر عاملًا مساعدًا للاستمتاع بكل المناسك، خاصة فى «يوم عرفة»، الذى لم أكف فيه عن الدعاء بحفظ بلادنا ودمائنا. ومن المصادفات الجميلة أننى رأيت زملاء لى فى الدراسة لم أرهم لأكثر من عشر سنوات، فإذا بى ألتقى بهم مصادفة، تارة فى «منى» وتارة فوق «عرفة».
أما أجمل اللحظات التى لا أنساها كان يوم «طواف الإفاضة». فلحسن الحظ، كانت الحافلة التى تقلنا أول حافلة تخرج من «المزدلفة»، فرمينا الجمرات ثم توجهنا بعدها إلى «طواف الإفاضة»، فإذا بصحن الحرم يكاد يكون خاليًا. ولا يوجد بينى وبين الكعبة حاجز.
يومها لمست أستار الكعبة لأول مرة فى حياتى، وبكيت بكاءً طويلًًا. ومن شدة تأثرى بهذا المشهد كتبت شعورى فى رواية «أوراق شمعون المصرى»، حين رأى «شمعون» البيت لأول مرة فقال: لم أجده كخيمة الاجتماع! فلا بخور ولا مذبح ولا قدس الأقداس، لم أجد سوى بناء من الحجر تساوت أركانُه، ووضِع فى أحدِها حجرٌ أسود. بناء فطرى بسيط، كبساطة الصحراء من حوله، يتجرَّد من كل أبَّهة وزينة كتجرد الطائفين من حولى.
غمرتنى الصفوف المُترَجِّلة نحوه بأمواج من التراتيل والتسابيح، لم أميِّز منها سوى بعض الكلمات مثل «للحى أُسبِّح» و«للعظيم أسجد»، وتلبيةً تعلو كل حينٍ حتى تصل إلى عنان السماء فتضىء نفسى بوهج من السلام. حفظتها من أول مرة وظللت أكررها: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك».
حتى النداء كان بسيطًا مباشرًا يبلغ مقصده دون زخرفة ولا إطناب. بعد أشواط ثلاثة، كان جسدى يدور فى فلك البيت، وروحى تدور فى فلكٍ أعلى وأرقى، شعرت بها تسبح فى مراتب من النشوة غير مدركة الأجساد المحيطة بها، نشوة لم أشعر بها من قبل فى صلاتى الساكنة، ووصلت ذروتها مع الشوط الأخير.
من المؤكد أن للحركة صنيعها فى تهيئة النفس للخشوع والاستسلام. تذكرت رقصات الأحباش الماجنة فى صلاتهم أمام الإله «عثتر»، وسقوطهم مغشيًا عليهم من النشوة والمجون. كلاهما نشوة، ولكن شتان بين نشوة السقوط ونشوة الرقى.