جمال حسان: انتابنى شعور كاسح بأننا فى «يوم الحشر»
أكرمنى الله بأداء فريضة الحج مرتين، فى المرة الأولى كنت برفقة عدد كبير من أفراد الأسرة والأصدقاء. سافرنا من القاهرة، وجرى ترتيب مفردات الرحلة والإقامة بقيادة اثنين من الأطباء فى الفوج، ما وفر لى جوًا من اليسر وعدم القلق بشأن التفاصيل.
فى يوم رمى الجمرات تهت أنا وزوجى فى عودتنا إلى محل الإقامة بين آلاف مؤلفة من التائهين. انتابنى شعور كاسح بأننا فى ما يشبه «يوم الحشر» تمامًا، فى انعدام الرؤية بسبب الغبار، والكل تائه فى يوم قائظ، ولا دليل يرشدنا، وعلامات الطريق لا تفيد، بكيت كثيرًا فى صلواتى بساحة الحرم، على الرغم من الأمان النسبى بصحبة الأهل، وأمى بجوارى تسألنى: «خير يا بنتى... مالك.. حصل إيه؟».
فى المرة الثانية ذهبت إلى الحج بمفردى ضمن فوج من بريطانيا، كان مستحيلًا فى تلك الآونة أن أجد شركة للحج السياحى تقبل اصطحاب سيدة بمفردها، لكن المفاجأة أن نجح وكيل شركة من أصل باكستانى فى استخراج فيزا الحج لـ٣ سيدات بمفردهن وأنا منهن، ضمن فوج من ٥٠ سيدة من خلفيات وأصول مختلفة، رفقة محرم لهن.
طوال تلك الرحلة نعمت نسبيًا بحرية فى تنظيم وقتى، بين ما نقوم به من مناسك فى توقيتات محددة وصلوات ونوم قليل، لازمنى إحساس عجيب بالغربة والاطمئنان فى ذات الوقت، وسط ملايين من كل بقاع الأرض باختلافاتهم فى كل شىء، ما عدا المشقة الظاهرة على الجميع، ورغبة الوقوف بين يدى الرحمن.
فى «يوم عرفة» بلغ منى الإجهاد منتهاه، وكان الحل أن أبقى واقفة طوال الوقت وعيناى مفتوحتان وإلا استسلمت للنوم مثل الأخريات. لمست فى كل ثانية كيف أن الله يمنحنا القوة اللازمة لتحمل مشقة فترة الحج، بما فيها من مفاجآت غير سارة، مثل مرض أو وفاة شخص بجوارك، كل متناقضات النفس بمشاعرها من ضعف وقوة وخوف ورجاء وأمل فى مغفرة وقبول توبة من المولى عز وجل تتبدل بين لحظة وأخرى.
من التجربتين بقى فى وجدانى شعور عميق بوحدة الكون بكل الموجودات من كائنات وطبيعة ندركها ولا ندركها بحواسنا الخمس، وأننا نتآلف ونتواصل لنحيا يومًا بيوم فى فسحة من الأمان، لكن فى ضعفنا حتمًا نبكى وحدنا أمام الخالق.
أتصور أن الناس فى رحلة الحج وكأنهم فى تجربة عملية لمعايشة غرباء فى العادات والتقاليد، للتقريب بين الثقافات وتجديد معرفة النفس وترويضها، التى هى أصل العبادة، وكأن الكل يشبه ذرات فى خلية ما بجسم الإنسان تدور فى فلك نواة بنسق معين لأجل معين، فيصدرون ذبذبات بالحركة والصوت، يتردد صداها بين السماء والأرض، رغم أن كل فرد يحوى بداخله متناقضات شتى كباقى الموجودات.
ربما ينعكس هذا التفكير فى كتاباتى بصورة غير مباشرة. على سبيل المثال فى روايتى الأولى «للحقيقة ألف وجه»، والجديدة «نصفها الغائب»، سنجد شخصيات من أصول وثقافات مختلفة، ينتقلون من بيئتهم المحلية إلى دوائر أكبر، فيتعايشون معا ويتقاسمون أوجاعهم الشخصية وأفراحهم الصغيرة، رغم مناخ التطرف الدينى والطائفية التى ضربت فى مفاصل معظم بلاد العالم.
فى رحلة الحج يصحبنا الأمل لنتحمل المشقة، ونعود بطاقة إيجابية وراحة نفسية فى التآلف مع أيامنا، بقدر وافر من الامتنان للخالق وطموح، لأن نؤدى دورًا ما فى إصلاح أنفسنا، واختبار جديد لقدراتنا فى تحقيق أهدافنا وأحلامنا الباقية.