الإثنين 16 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

أحمد أبودياب يكتب: أَزْياء فِرعونِيِّة لسَمَك النِّيِل

أَزْياء فِرعونِيِّة
أَزْياء فِرعونِيِّة

 

تهادى المركب بثقة على صفحات النيل، ومقدمته تشق المياه ببطء وانتظام كأنها تقلّب المياه بحثًا عن شىء، كنا قد قاربنا على هويس مدينة إسنا جنوبى الأقصر، وما زلنا مأخوذين بسحر الطبيعة الأقصرى الممتد على ضفافها، وعبق المكان الساكن فى آثارها وناسها، وخصوصًا ونحن نجرّب نهارًا خريفيًا من نهارات نوفمبر خلال رحلتنا من القاهرة إلى الجنوب، فكان الجو أروع ما يكون والحياة أجمل وأبسط وأوضح، اقتادنى الجمال برفق إلى خارج الكابينة، ثمّ منها إلى السطح، ووقفت أتأمل الأجواء بانبهار، دخلنا فى الحيّز المائى الضيق استعدادًا لِولوج البوابة الصغيرة، ثم الخروج مرة أخرى إلى مجرى النيل لاستكمال الرحلة متجهين إلى أسوان.

وبينما نعبر ممر الهويس فإذا بزوارق صغيرة، أو فلائك على وجه التحديد، تظهر فجأة وتحيط بالمركب محاولة اللحاق به، خصوصًا عندما خفّف سرعة اندفاعه فى الممر الضيق، لا أدرى مصدر هذه الفلائك التى باغتتنا، وكأنها من كائنات مدينة أطلنطس الأسطورية الغارقة التى تظهر فجأة من تحت الماء، ربما كانت موجودة فى مكان ما بجانب الهويس، ولم نلحظها لصغر حجمها، فبدن المركب الكبير الذى نستقله قادر على حجب بيت كامل لا زورق أو فلوكة، بينما كل فلوكة من التى تقصدنا، كانت بمجدافيها كسلحفاة تحرك أطرافها بعبث لتحاول النجاة من الغرق.

كان الأمر أشبه بماراثون مائى، كلّما تقدم المركب تقلّص عدد الفلائك بفعل فرق السرعة والقدرة؛ بين الفلائك وبعضها من جهة، وبين الفلائك والمركب السياحى من جهة أخرى، إلى أن تقلّص العدد إلى اثنتين خلال هذه المغامرة الغريبة، إحداهما قد استطاعت أن تلقى بحبالها وتتصل بالمركب، ثم تسبح خلفنا كطفل عالق بجلباب أمه وهى تسير، والفلوكة الأخرى أفلتت وظلّ صاحبها يضحك لزميله وهو يبتعد عنه ويقترب من المركب، كأنه فاز بالسّبق أو بينهما رهان قد استوفاه الثانى لصالحه.

كل هذا يحدث ولم أفهم ما السرّ وراء هذه الفلائك، ولا نيّة أصحابها، قد يرى البعض أن الأمر برمّته مزاح، أو رياضات عنيفة يمارسها هؤلاء الجنوبيون المعرفون بقوّتهم وعنفوانهم، إلا أن الأمر بعد قليل بدا غير ذلك، بعد أن استرعانى ما حدث أكثر وبدأت فى مراقبة ما يجرى باهتمام أكبر.

انصبّ الاهتمام على الفلوكة التى التحمت معنا، وبدأ الراكبان فيها يشاغلان من فى المركب بالصفير والأصوات المختلفة، ليبدأ بعدها أحدهما فى رفع أشياء للأعلى قدر ما سمحت أذرعه، ثمّ تبينت أنّها أزياء فرعونية كالجلابيب والأغطية والشيلان، كالتى يُقدم على شرائها السياح عند التسوق فى الأقصر وأسوان، استجاب له بعض من فى المركب بإشارات فهمها، فقبض على الزى فى يده وكوّره جيّدًا ثم قذف به لأعلى كَسَهْم فى اتجاه الزبون، وبالفعل أصاب الزى هدفه فى يد المشترى، واستمر وابل من الأسهم فى الانطلاق تجاه المركب خلال الدقائق التى حاصرونا فيها فى الممر، وتمّت بيعات بالفعل، وكان الدفع عن طريق إلقاء النقود لأسفل بعد تدعيمها بشىء ثقيل حتى لا تطير فى الهواء، والمراكبى يلقف النقود السماوية بانتصار قبل أن يفكّ حباله المتصلة بالمركب ويتركها تمضى عند نهاية الهويس، ليعود ثانية ويتربص بسفينة أخرى. 

أما الأسهم التى طاشت وضلت طريقها، فقد كان مصيرها المياه، ربما هى لعنة الفراعنة الذين نقلّد أزياءهم، فالأزياء التى غرقت ربما كانت قرابين للنهر العظيم، فكرة حداثية لعرائس النيل التى كان القدامى يلقون بها كل عام، لكن الآن فالزى خالٍ من العروسة والقربان لا روح فيه، وما يلقى للماء مجرد أقمشة.

خُيّل لى أن الأسماك تتقافز داخل الجلباب الفرعونى وذلك بحثًا عن الطعام، بعد أن يسقط الجلباب ويستقر فى القاع متشبّعًا بالمياه، فإذا تدافعت الأسماك بتخبط فى هذا الفخ القماشى ثم تحرّكت مجتمعة، لصار الجلباب كزورق صغير أو مركب غارق من مراكب الشمس الفرعونية، وإن قام بعض السمك الفَطِن بتجميع القطع المتساقطة، سيشيد بازارًا سياحيًا للبيع تحت الماء، باسم «أزياء فرعونية لسمك النيل»، ولربما اصطاد أحد سمكة وبقر بطنها، فوجد قطعة حلى أو حجرًا من التى تُرصّع بها هذه الجلابيب الفرعونية، تمنّى الصائد أو الطاعم أن ما وجده ذو قيمة، كخاتم سليمان أو شىء مسحور مثلما يوجد فى الأساطير، ثم يكتشف أنها مُقلّدة ولا يعادل ثمنها ثمن كيلو من سمك البلطى.

هكذا رزقنا وهذه معيشتنا، ننزل إلى النيل ولا تغرينا الأسماك على كثرتها ولا نطلب الرزق من المياه، إننا صيادو السماء، ولكننا نصطاد بأيدينا لا ببنادق ولا نِبال، كلّما اشتد ساعدك اقترب رزقك منك، هكذا كان قد علّمنى أبى عندما كنت أجرب العمل معه فى هذه المهنة أول أيامى، كان تدريبى قبلها على البرّ، أن أمسك بالأحجار الصغيرة ثم الكبيرة بالتدريج، وألقى بها فى الخلاء إلى أبعد مدى، ثمّ المرحلة الثانية كانت لإسقاط البلح من فوق النخيل، وذلك لضمان دقة التصويب والاعتياد على استهداف الأعالى، وبعدها النزول إلى النيل مع أحد من المعلمين القدامى فى المهنة، ومساعدته فى عرض البضاعة وتبديلها إذا قبل الزبون وطلب مقاسًا مختلفًا أو لونًا معيّنًا. 

وقد أوصانى أبى أنه لا فرق بين عربى ولا أجنبى إلا بالعملة، وحذرنى من البحث عن القطع الضائعة التى تسقط فى المياه قبل أن تصل ليد زبون، فأثمان ما نبيع به قد تغطى تكاليف الخسارة إن وجدت، وحتى إن كانت الخسارة أكبر، فمن الحماقة أن تعود لتبحث عن أقمشة فى المياه، فمن سيغامر بحياته لينقذ جلبابًا غارقًا أو يستوقف شالًا قد يطفو حين يصل إلى القاهرة.

وقد اعتدنا أن تمر المراكب ونحن بالفلائك منتظرون، لا ندفع ضرائب للحكومة عن تجارتنا العائمة لكننا ندفع ضريبة الانتظار كل يوم، فالانتظار ضريبة الصيد، والصبر هو المكسب الذى يجنيه الواحد منّا؛ حتى يستطيع أن يُكمل طريقه ذهابًا وإيابًا من أول الهويس إلى آخره، كأن مسافة الممر القصيرة، مساحة للتفكير نقطعها جيئة وذهابًا للتفكير فى أمر لا ينتهى.

قال أحد السيّاح الأجانب عنّا قراصنة، وإن كنّا كذلك فإننا القراصنة الطيبون، الذين يسلّمون أنفسهم لمركب يمرّ ويدعوه يخطفهم مجازًا وهو يجرّهم خلفه، حتى يستطيع الواحد منّا أن يفوز ولو بمشترٍ واحد، ويتخفف من حمولته ولو بقطعة واحدة.

أتأمل الزبون وهو فى الأعلى كأنه مطر أنظره بعين الاستسقاء، نتبادل النظرات إن أعجبته الأزياء التى نفردها أمامهم بعد جذب الانتباه، وإذا صدرت منه بادرة للقبول، أمسك بالزى وأطلقه بتصميم كأنه طائر محبوس أو دعوة ملحة لرب العباد.

لا يحكم مهنتنا كبير ولا تميّز أحدنا مرتبة عن أحد، فالجميع سواء فى السعى والوصول، إلا من كان ساعداه أقوى فى التجديف وفى التصويب، فذلك فرصته فى الوصول والبيع أكبر، حيث الفلائك لا تعمل إلّا بالتجديف، فلو كانت بها محركات لكان الأمر أصبح هيّنًا، وصار الشغل الشاغل هو البيع بعد أن تنتفى فكرة ضياع فرصة اللحاق، لكن كثيرًا ما تتهاوى الأذرع أو تخون المجاديف، وقد تحمل المروءة أحدًا من الباعة- على ضيق الرزق- أن يتقهقر طواعية عند محاولة التشبيك مع مركب سياحى، ليسمح لرفيقه أن يصل ويعرض بضاعته، ويعود هو ليقرر مع رفيق آخر، من أحق بالتقدّم وأولى أن يرمى بشباكه فى بحر السماء.