المخرجة الفلسطينية مى المصرى: أؤيد المقاومة بكل الوسائل.. والتطبيع الفنى جريمة
- يسرى نصر الله وعاطف الطيب بين أفضل المخرجين تعبيرًا عن القضية الفلسطينية
- أكتب فيلمًا عما يحدث فى غزة الآن.. وأركز فيه على التفاصيل الإنسانية
- أبطال أعمالى من أطفال المخيمات أصبحوا أطباء ودكاترة هندسة وسينمائيين
عُرفت بأفلامها ذات النزعة الإنسانية، التى توثّق لذاكرة الإنسان والمكان، وكانت معنية بشكل كبير بتوثيق معاناة ونضال نساء فلسطين، وأطفال المخيمات، باعتبارهما خط الدفاع الأول ضد الاحتلال الإسرائيلى، فى معركة وجود وقضية تحرر وطنى فى المقام الأول. إنها المخرجة الفلسطينية الكبيرة مى المصرى، صاحبة الـ75 عامًا، والتى قضت الجزء الأكبر من عمرها فى توثيق أوجاع الفلسطينيين، من خلال أفلام تسجيلية ووثائقية وروائية، جابت العالم وحققت نجاحًا مبهرًا. من العاصمة اللبنانية بيروت، تحاور «حرف» المخرجة الفلسطينية الكبيرة، التى تعد رائدة السينما الفلسطينية التسجيلية، وقدمت من خلال كاميرتها وإبداعها الفنى المميز الكثير للقضية الإنسانية الأولى للعالم الحر.
■ تابع العالم أجمع «طوفان الأقصى» وما تبعها من حرب إسرائيلية على غزة.. هل المشهد ما زال كما نقلتِه فى أفلامك على مدار نصف قرن؟
- تغير المشهد إلى الأسوأ بسبب ما يحدث فى غزة، حيث تُرتكب حرب إبادة ضد الفلسطينين. الأمر يزداد سوءًا والإبادة مستمرة. ولا تقتصر الحرب على غزة فحسب، بل تشمل الضفة وعرب ٤٨ وخان يونس وجنين، كل فلسطين.
رغم كل هذا ما زلت أرى أن هناك أملًا كبيرًا، أملًا فى أن تتحرر فلسطين بعد ٧٥ سنة من الاحتلال، ففلسطين قضية إنسانية ووجدانية وتحرر وطنى، وأصبحت قضية العالم كله الآن.
والأفلام التى صنعتها، بما فيها الأفلام التى قدمتها من ٢٠ عامًا، كلها يحاكى الواقع الموجود فى غزة وفلسطين الآن، وهذه فائدة السينما التسجيلية، فهى سينما الحقيقة والإنسان بالدرجة الأولى.
■ هل يمكن اعتبار أن القضية الفلسطينية هى التى أسهمت فى تكوين شخصية مى المصرى، أو بعبارة أدق هى التى دفعتها لدراسة السينما فى الولايات المتحدة؟
- أنا تربيت فى لبنان خلال فترة السبعينيات، وهى فترة تميزت بصعود حركات التحرر فى العالم، كنت وقتها أكبر وأستوعب، ولبنان بلد ثقافى به حركة ثقافية وحراك سياسى دائم وحرية تعبير. هذه الأجواء التى عشت فيها، لذا شاركت وأنا طالبة فى النضال من أجل فلسطين، وأول وعى تشكل لدى كان وعيًا سياسيًا بالقضية الفلسطينية.
عندما بدأت الحرب فى لبنان، وكنت وقتها ١٦ سنة، بدأت التفكير بما سأفعله فى حياتى، فذهبت إلى الولايات المتحدة لزيارة أخى، الذى كان يدرس فى الجامعة بسان فرانسيسكو، ودخلت إلى قسم السينما هناك، فوقعت فى حالة حب وغرام لهذا المجال، غرام السينما من أول لحظة.
■ كان لكِ جولة لعرض أفلامك فى الولايات المتحدة مؤخرًا، حتى من قبل «طوفان الأقصى»... كيف كان الجمهور الأمريكى يتلقى هذه الأفلام؟
- أفلامى وجولاتى فى دول ومدن عديدة وليست فى الولايات المتحدة فقط، خاصة أننى من المخرجين الأوائل والرواد فى السينما الفلسطينية، علاوة على كونى مخرجة، وعاصرت بدايات السينما الفلسطينية، ومع الوقت صار هناك جمهور لأفلامى واهتمام بها، وصارت لى جولات بهذه الأفلام فى أوروبا وأمريكا. كما أن أفلامى تُدرس فى «كورسات» بالجامعات وتُعرض على الطلبة.
■ ألم ينتابك أى خوف من جولتك الأخيرة فى الولايات المتحدة بعد «طوفان الأقصى»؟
- نعم ترددت بعض الشىء، قبل أن أفاجأ بكم التعاطف من الناس مع فلسطين، خاصة من القطاعات الشبابية والطلابية، حتى شعرت بأن هناك رأى عام شعبيًا مع القضية الفلسطينية، رأى عام مناصرًا لغزة.
لذا أعتبر أن ما حدث مع فلسطين وقضيتها إيجابى جدًا، لأن التعاطف يزداد يومًا بعد يوم. إذا أردنا أن نقول إن هناك جانبًا مشرقًا لما حدث فهو سقوط الأقنعة عن دولة الكيان الصهيونى، وأن القضية الفلسطينية أصبحت محط اهتمام الغرب والعالم بأسره.
■ فى رأيك.. ما السر وراء الإقبال الكبير على أفلامك، فى نيويورك وجامعتى «كولومبيا» و«نيو سكول»؟
- الناس كانت مهتمة جدًا بالجانب الإنسانى فيما يحدث، لأن الأخبار لا تركز على الناس وحكاياتهم، و«أنسنة» القضية الفلسطينية أمر مهم جدًا، فمن الضرورى أن يعيش الجمهور الواقع، من خلال الأفلام الوثائقية أو الروائية.
لذا كل يوم يزداد التضامن مع فلسطين بصورة أكبر، أصبح هناك تعاطف كبير معنا، حتى من اليهود الأمريكيين، الذين تحركوا فى مظاهرات داعمة لفلسطين ضد الكيان الصهيونى.
أصبح هناك تغيير فى الرأى العام الأمريكى، خاصة بين الشباب، حتى أن جزءًا كبيرًا من الشباب اليهودى غير رأيه، بعدما شاهد جريمة كبيرة تُرتكب باسمه، فخرجوا فى مظاهرات، ورفعوا لافتات مكتوبًا عليها «Not In Our Name» أو «لا تفعلوها باسمنا».
وفى إحدى المظاهرات بمدينة بوستن، رفع أحد المتظاهرين «أفيش» فيلمى «أطفال شاتيلا»، فى لفتة رائعة، خاصة أنهم أخذوا مقاطع من داخل الفيلم وكبروها، ثم رفعوا إياها فى المظاهرة، إلى جانب «الأفيش».
■ هل صحيح أن أحد الآباء الذين ظهروا معك فى «أطفال شاتيلا» يعمل فى السينما معك الآن؟
- نعم، هذا صحيح. أكثر من شخصية فى أفلامى تحول إلى مخرج، مثل «تمارا» من فيلم «أحلام فى المنفى»، و«شريف» من فيلم «٣٣ يوم».
■ بما إننا على مقربة من مخيم «شاتيلا»، قدمتِ فيلم «أطفال شاتيلا» عن المجزرة التى ارتكبها الاحتلال الإسرائيلى فيه، وتركتِ فيه بمنتهى الأريحية الكاميرا فى أيدى أطفال شاتيلا.. كيف جاءت لك فكرة الفيلم وتنفيذها بهذه الصورة؟
- فكرة هذا الفيلم كانت جديدة ومبتكرة. نعم تركت الكاميرا فى أيدى طفلين، صبى وفتاة، وتركت لهما المجال وحرية الحركة، وأن يجريا بأنفسهما وعلى سجيتهما حوارات مع الجيل القديم فى المخيم من آباء وأجداد.
أردت أن يستمع الجيل الجديد من الأطفال لرواية الأجداد وشهود العيان، أن يعرفوا التاريخ وقصة فلسطين وكل ما حدث قبل ولادتهم، وكيف خرج الجيل القديم من فلسطين، وما ارتكبه الاحتلال من جرائم.
«أطفال شاتيلا» ثانى عمل ضمن ٣ أفلام قدمتها عن الأطفال والذاكرة الفلسطينية، التى تنتقل من جيل لجيل، خاصة أن الأطفال فى المخيمات لا يعرفون فلسطين، فرغبت فى أن يعرفوها ويقتربوا منها بأحلامهم وعبر مخيلتهم من خلال السينما.
فعلت هذا أيضًا فى فيلم «أحلام من المنفى»، الذى حصل على ١٨ جائزة دولية، منها ٣ جوائز مصرية، من مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة، وجمعية نقاد السينما المصريين، وجمعية التسجيليين المصريين.
■ هل لك أن تحدثينا أكثر عن هذا الفيلم الاستثنائى «أحلام من المنفى»؟
- أنجزت هذا الفيلم بعد سنتين من فيلم «أطفال شاتيلا»، بعد تحرير جنوب لبنان، التى كانت بالفعل لحظة تاريخية، لذا استعنت بالطفلتين» «منار» وهى فلسطينية من بيت لحم، و«منى» من مخيم «شاتيلا»، وقررت تقديم فكرة قائمة على أن الطفلتين تتراسلان عبر الإنترنت.
وقتها رأيت هجومًا من المخيمات الفلسطينية إلى جنوب لبنان، لرؤية أهلهم وأقاربهم فى فلسطين لأول مرة، فقررت تخليد وتسجيل هذه اللحظة، وأخذت أطفال «شاتيلا» ومجموعة أخرى من الأطفال، وقلت لأصدقائى: «هاتولى أطفال من فلسطين أيضًا»، كى نشهد ونوثق هذه اللحظة الاستثنائية.
كانت لحظة تاريخية إنسانية لا تنسى، ومؤثرة جدًا بالنسبة لى ولكل من شهدها، فعلى الحدود كان ما زال هناك الشريط الشائك، وتجمع الناس من الجهتين، ثم تلاقوا وتلامسوا وقبلوا أيدى بعضهم البعض.
كان الإحساس والمشاعر جارفين، تمامًا كما شاهدتموهما فى الفيلم، لحظة مفعمة بالأمل الحقيقى، الأمل فى إمكانية لم شمل من فرقتهم الحرب، الأمل فى إمكانية عودة فلسطين ورجوع أهلها من الشتات.
مر على هذا الفيلم أكثر من ٢٠ سنة، والأطفال كبروا وتزودوا ودرسوا، وهذا كان شرطًا وتحديًا عندى، وهو أن أطفال فلسطين والمخيمات يكملون دراستهم، واستطعت من خلال أفلامى تدشين صندوق للتبرع، ومن خلاله حصل أطفال المخيمات على منح دراسية.
«منى» الآن صارت طبيبة أطفال، و«منار» معها دكتوراه فى العلوم الاجتماعية، و«فرح» من «أطفال شاتيلا» أصبحت دكتورة فى الهندسة بأستراليا، و«تمارا» اشتغلت فى السينما.
■ ذهبت إلى مدينتك نابلس لأول مرة فى ١٩٩٠، لتصوير فيلم جديد عن أطفال فلسطين بعنوان «أطفال جبل النار».. ما تفاصيل هذه التجربة؟
- تجربة مفصلية بالنسبة لى، لأنه كانت أول مرة أرجع فيها إلى فلسطين، أول مرة أكتشف فلسطين ومدينتى المميزة نابلس، وأنا أحمل كاميرا، وذلك بالتزامن مع «الانتفاضة الأولى»، وسط ظروف صعبة جدًا.
كانت هنالك صعوبة بالغة فى دخول نابلس، لأنها كانت محاصرة وأقرب إلى منطقة عسكرية مغلقة، والكيان الصهيونى لا يدخر جهدًا فى الحصار والقتل وارتكاب المجازر، ومع ذلك دخلت إلى نابلس سرًا بصعوبة كبيرة، وكان معى فريق صغير، فقط مصور ومهندس صوت.
لم يكن مسموحًا بوجود أى نوع من الكاميرات، كان كل شىء ممنوعًا، حتى الصور الفوتوغرافية، تعتيم كامل لعدم إظهار الحقيقة للعالم. رغم ذلك صورنا سرًا، وتعلمت وقتها كيف يمكن أن أصنع فيلمًا وسط ظروف صعبة للغاية، تعلمت أن أتأقلم مع الواقع.
استفدت من هذا الوضع فى الفيلم، الذى صار فيلمًا عن يوميات الحصار، من خلال عيون الأطفال. كما كنت أنا جزءًا منه، لأننى كنت محاصرة معهم فى نفس المبنى، وكان معنا شهيدان من القيادات الشبابية. وبصفة عامة، لدى يقين بأن أطفال فلسطين هم من سيحررونها.. الجيل الجديد سيفعلها، ونحن معهم بالتأكيد.
■ مثل الأطفال تمامًا، كان للمرأة نصيب الأسد من أفلامك، وكنتِ فى هذا الإطار «دويتو» رائعًا فى السينما والحياة مع المخرج اللبنانى الكبير الراحل جان شمعون.. هل لكِ أن تحكى لنا عن هذه التجربة؟
- رجعت من أمريكا إلى لبنان فى عام ١٩٨٢، وتعرفت على جان شمعون، الذى كان يعمل متطوعًا فى السينما الفلسطينية، وقيل لى آنذاك إنه لا بد لى من التعرف عليه، باعتباره مخرجًا لبنانيًا مهمًا ومهتمًا بالقضية الفلسطينية، لذا يكون لدى شغف كبير لأعرفه.
تعرفت عليه واقتربت منه، واكتشفت أن هناك رابطًا كبيرًا بيننا، يتمثل فى الهم المشترك بفلسطين والسينما، حتى بدأنا أول تجربة مشتركة فى عام ١٩٨٢، وصولًا إلى زواجنا عام ١٩٨٦ وقت اجتياح وحصار بيروت، الذى كان تجربة صعبة على الصعيدين الإنسانى والسينمائى.
تعلمت صنع الأفلام فى أجواء الحرب والحصار، وفى كل تجربة تعلمت شيئًا. لكن أقسى تجربة لى كانت فى فيلم «تحت الأنقاض»، الذى صور فى لبنان بعد الاجتياح والحصار. بعده قدمنا فيلمًا اسمه «زهرة القندول» عن الأسيرة خديجة حرس من جنوب لبنان، وهو أول فيلم جعلنى اهتم بموضوع الأسيرات.
تبعنا ذلك بفيلم «بيروت جيل الحرب»، ثم أنجزنا فيلم «أحلام معلقة»، عن المخطوفين فى لبنان، من خلال قصة وداد حلوانى، التى أسست حركة لأهالى المخطوفين من قبل إسرائيل فى لبنان خلال الثمانينيات.
■ وماذا عن تجربة «٣٠٠٠ ليلة»، أول فيلم روائى لكِ؟
- «٣٠٠٠ ليلة» كان نقلة نوعية، وأعتبره امتدادًا لتجربتى التسجيلية الطويلة. صورت الفيلم فى سجن حقيقى بالأردن، وأول عرض له كان للأسيرات الفلسطينيات فى رام الله ونابلس، إلى جانب مخيم «شاتيلا»، فى ساحة كبيرة هناك، حيث الجمهور يشاهد من داخل الشرفات والبيوت، وهم فى غاية السعادة.
ودائمًا ما كنت حريصة على عرض أفلامى فى مخيمات اللاجئين، سواء فى فلسطين أو لبنان، لأن أهلها هم المعنيون فى أفلامى وجمهورى الأهم والأول، ومن أجلهم ومن أجل فلسطين والحق الفلسطينى صنعت هذه الأفلام.
وعلى المستوى الروائى أيضًا قدمت فيلم «٣٣ يوم» عام ٢٠٠٦، الذى يعتبر نتاج عمل لسنوات طويلة، ورصدت فيه كيف استطاع المخرج الفلسطينى أن يعبر عن قضيته، سواء داخل فلسطين أو خارجها وبالمنفى.
■ كنتِ من أوائل النساء الفلسطينيات المشتغلات فى الإخراج السينمائى، والآن هناك جيل نسائى جديد يعمل فى السينما الفلسطينية.. كيف ترين ذلك؟
- عندما بدأت مشوارى فى السينما ومع الإخراج لم تكن هنالك حتى مصورة امرأة، أما الآن فهناك عدد كبير من المخرجات، حتى أن نصف المخرجين الفلسطينيين حاليًا من النساء، وعددهن فى ازدياد، وأفلامهن مميزة جدًا، وهذا شىء نفخر به.
■ مَن أكثر مَن عبر عن القضية الفلسطينية باقتدار فى أفلامه؟
- هناك أفلام عربية رائعة تحدثت عن القضية الفلسطينية، مثل فيلم «المخدعون» للراحل الكبير توفيق صالح من مصر، الذى كان من أوائل الأفلام التى تناولت القضية الفلسطينية ومن أميزها أيضًا، خاصة أنه كان بالأبيض والأسود فى الستينيات، إلى جانب «كفر قاسم» لبرهان علوية، و«باب الشمس» ليسرى نصر الله، و«ناجى العلى» لعاطف الطيب. أما المخرجون الفلسطينيون فهناك «عرس الجليل» لميشيل خليفى، إلى جانب رشيد مشهراوى وهانى أبوأسعد وإيليا سليمان، وآن مارى جاسر وشيرين عديبس ومها الحاج.
■ هل يمكن أن يكون «التطبيع الفنى» مع إسرائيل مقبولًا؟
- مرفوض تمامًا بالطبع، ومن المستحيل فى أفلامى أن يكون هناك «تطبيع»، أو حتى أعمل مع «ممثلين مطبعين». لذا فى فيلمى عن سجون الاحتلال، استعنت بممثلين فلسطينيين لتجسيد شخصيات إسرائيلية.
■ وما رأيك فى الأصوات التى تدين المقاومة؟
- المقاومة حركة تحرر وطنى، والمحتل وحده هو المدان، وأفلامنا مقاومة، وأنا مع أى شعب يقاوم المحتل، وأرى أن له حقًا مطلقًا فى المقاومة بكل الوسائل الممكنة.
■ أخيرًا ما جديد مى المصرى خلال الفترة المقبلة؟
- أكتب حاليًا فيلمًا مستوحى مما يعيشه أهل فلسطين وغزة الآن، مع التركيز على إظهار التفاصيل الإنسانية والحياتية فيه.