جدل الرواية.. بعيدًا عن الجزر المنعزلة
إن من تبعات الانشغال بفكرة الأجيال تحويل تاريخنا الأدبى إلى جزر منعزلة لا ترابط بينها. ويدفع إلى التركيز على كل جزيرة، والتغافل عن استكشاف الجزر الأخرى. على العكس من ذلك فإن التفكير من خلال تيارات أدبية، تبعدنا عن التقسيم الزمنى الصارم، والبحث المضنى أحيانًا عن تحديد الجيل الذى ينتسب إليه الكاتب. إن التيار بطبيعته يضم مبدعين قد تفصل بينهم فترات زمنية طويلة، فالمهم ما يجمعهم من سمات فنية تجعلهم رغم التباعد الزمنى كأنهم يخوضون حوارًا فيما بينهم، حوارًا تتشابك فيه الأطراف بالتشابه والاختلاف. إن أى مبدع لا يبدأ الكتابة من فراغ، بل- سواء وعى هذا أم لا- يخوض حوارًا مع نصوص أعجبته، ووجد نفسه فى رحابها، وتدفعه إلى إعادة النظر فى ما حققته، واستكشاف إمكانات أخرى مضمرة فيها، ويحاول الإضافة إليها وجعل الحوار معها خلاقًا. وتتبين أهمية التيار حينما يشمل أعمالًا أدبية بعينها ولا يقتصر على ذكر أسماء المبدعين، فليس شرطًا أن تندرج كل أعمال الكاتب فى تيار واحد، لذلك فإن دراسة تيار الرواية التاريخية لا تتوقف عند من اشتهروا بكتابتها بل تتسع الدراسة لتتناول على سبيل المثال: العائش فى الحقيقة لنجيب محفوظ، وواحة الغروب لبهاء طاهر، وكتيبة سوداء للمنسى قنديل، ودنقلا لإدريس على. يبعدنا هذا عن البحث عن جيل إلى دراسة ورؤية ما طرأ على الرواية التاريخية من تغيرات، وتفهّم العلاقات والاختلافات بين هذه الروايات، كما تساعدنا فكرة التيار على تقييم العمل الأدبى لأننا سنراه ليس فى نطاق جيله فقط بل من خلال ما تحقق جماليًا فى أعمال سبقته، ويمكننا بذلك تحديد إن كان مجرد اجترار لها أم إضافة تغنى هذا التيار.
وإذا كانت فكرة التيارات من صميم عمل النقاد فإن المبدعين يشاركون فى إظهارها، من خلال كشف كل مبدع عن رؤيته للأعمال الإبداعية التى ما زال مشغولًا بالحوار معها، وبإعادة قراءتها بغض النظر عن قدمها أو حداثتها. ومن المهم هنا تذكر رؤية يحيى حقى فى مقاله «لمن يكتب الكاتب» فـقد كتب «أسمى ما يصبو إليه الكاتب هو أن يتصور له جمهورًا جامعًا لطائفتين، الطائفة الأولى: كل من سبقه أو عاصره من كبار الكتّاب. الطائفة الثانية: قومه الذين فيهم مولده ومماته». إن مبدعى الطائفة الأولى يصعب إرضاؤهم إلا بأعمال فى مستوى ما حققوه من قيم فنية. ويظل الكاتب طول حياته فى حوار معهم من خلال أعمالهم الإبداعية، ويزداد أعضاء النادى كلما اتسع نطاق قراءة الكاتب لكنه فى النهاية يستخلص كما يرى حقى «صديقًا أو اثنين أو ثلاثة، فازداد محبة لهم ويزداد الاتصال بهم». هؤلاء الأصدقاء الذين اختارهم الكاتب يمثلون التيار الذى ينتمى إليه، وقد يضم مبدعين تفصلهم عن بعضهم البعض أزمنة متباعدة لكنهم حاضرون دائمًا داخله. كما يمكن تذكر ميلان كونديرا والكيفية التى كان يرى بها علاقات بين روايات تفصل بينها حقب زمنية: دون كيخوته، جاك القدرى، مدام بوفارى، المحاكمة والقلعة لكافكا، ويكشف لنا عما يجمع بينها ويميز كل منها فى الوقت نفسه، ومدى مساهمة كل منها فى إظهار ملامح فن الرواية. كونديرا أشبه بمن يرسم خرائط تمتد زمانيًا ومكانيًا وتتجاوز الحدود الراسخة المتعارف عليها.
فكرة التيار توسع العالم من حولنا ولا تحبس نقاشاتنا وتقييماتنا فى جزر الأجيال المنعزلة.