الأحد 24 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

خالد منتصر خلف خطوط الذاكرة

خلف خطوط الذاكرة
خلف خطوط الذاكرة

آفة حارتنا النسيان!! لعل هذه العبارة لنجيب محفوظ مرت فى ذهن «د. خالد منتصر» عندما فكر فى أن يغادر حارة النسيان ليسير منفردًا جريئًا فى شارع الذاكرة مترامى الأطراف، شارع الوجود الفردى الذى عبر عنه ذات يوم «الأبنودى» «وحدى ما يخبر عليا غير غبار الخطوة، غير صوت العبور، زى ما فى ريح الدروب ريحة الكافور هربانة من سحر الكافور، يا سلااااااام لو يتوه منى مكانى كل ما أخرج منه للتانى يتوه الأولانى».

أن تولد مصريًا ليس أمرًا عاديًا! لأنك فى مطاردة مستمرة ومتبادلة بين وجودك المعاصر وذاكرتك التاريخية إذ يحاول هذا الوجود أن ينسى وجه ذاكرة مترعة بآمال وأحلام يراوغها ويفر منها التحقق، لكن الذاكرة تلاحقه قبل ولوج حارة النسيان بسوط من عذاب. يترك «خالد منتصر» لذاكرته حرية التجوال كى تتعقب طرائدها كما شاءت، إنها ليست مجرد سيرة ذاتية ترتب أحداثها تاريخيًا بالمعنى المتعارف عليه، بل تصطاد أحداثًا ومواقف دالة على فكرة أساسية لدى الراوى وهى مقاومة النسيان والكذب على النفس بشأن مشاهد فارقة فى حياة مصرى معاصر.

فى مطلع ستينيات القرن العشرين حيث تمثل الطبقة الوسطى بطاقة تعريف بالهوية المصرية على مختلف مستوياتها، إنه المصرى الذى يقود مشروعًا قوميًا عربيًا فى مرحلة ما بعد الاستعمار، ويبدو كل شىء موحيًا بالثقة والكرامة والطموح، ومن بين ثنايا هذا الشعور يخرج إلى الحياة طفل ينتمى إلى هذه الطبقة ليحكى لنا لاحقًا مغامرته المصرية المشحونة بالحلم والانكسار والأمل المؤجل.

ويأتى أول الحكى بعد سنتين من هزيمة ٦٧ لتتكرر هزيمة من نوع آخر، رحيل الأم لتكتمل مرارة العام والخاص على هذا الطفل الذى لم يصل بعد إلى سن العاشرة.

تصمت الحياة بعد غياب الأم لكن يحمل صمتها الفتى برفق إلى صمت أوراق الكتب، والقراءة وتواسيه بمحاولات أولية للكتابة لكنها بمثابة إقصاء له عن معترك حياة تهبه لاحقًا درسًا فى الكتابة من لحم ودم. ويكتشف الفتى عند انتقاله إلى القرية أن وراء سحر وطزاجة الريف وألوانه الجميلة أكوامًا عفنة من جهل وخرافة وتغييب للوعى، ما زالت فاعلة حتى اليوم، ومعوقة لحرية المجتمع فى بحثه الطبيعى عن التغير والتقدم.

يمارس الشاب الصغير لعبة الثانوية العامة المصرية المتفردة والتى تضعك أمام خيارين لا ثالث لهما أقر بمشروعيتهما المجتمع، الأول: خيار رغبتك الذاتية، الثانى: رغبة المجتمع من حولك أو أنت فى مواجهة مجموع الثانوية، ويقف الشاب حائرًا ما بين كلية الطب أم الإعلام، ولأن الشاب الذى عركته الحياة بأحداثها منذ كان صغيرًا منحته مكرًا خاصًا وجميلًا، وضع قدمًا فى كلية الطب وعينًا على الكتابة والحضور الإعلامى، وهذا ما تحقق لاحقًا. وفى كلية الطب مع أواخر السبعينيات من القرن العشرين كانت مصر تجتر ما شربته من لهيب الانفتاح والانغلاق معًا، انفتاح اقتصادى يكرس مقوله «السداح مداح» بتعبير أحمد بهاء الدين، وانغلاق فكرى تتزعمه جماعات دينية تستهدف السلطة والوصاية. وجاء رصد الشاب لمواقف وأحداث ما زالت توابعها تؤثر على ملامح الشخصية المصرية حتى اليوم.

وسط الأحداث الثقال على قلب مصر عاش الشاب سنواته الجامعية الأولى ليرصد انقلابًا فى مسيرة الوطن على المستوى الثقافى والاقتصادى والسياسى والاجتماعى، وصارت مصر التى تتحدث عن نفسها بصوت «أم كلثوم» تغنى فى يوم... فى شهر.... فى سنة... بصوت «حليم». 

يقول «أوسكار وايلد»: «أن تكتب يعنى أن تدين نفسك فى جلسة محاكمة علنية». وما كتبه «خالد منتصر» لا يمثل إدانة للكاتب نفسه وفقًا لنقد يطوله بقدر ما يعنى إدانة لمجتمع عايش أحداثًا جسامًا، ومع ذلك يحتفظ بذاكرة خيط دخان عابر ليعاود الكرة ثانية مع الأخطاء نفسها وذاكرتها الدخانية! إن ما سجله «خالد منتصر» «فى خلف خطوط الذاكرة» يضعنا فى مقاربة نفسية مع عمل «سترافنسكى» الرائع: «عصفور النار» أو تلك الأسطورة لعصفور يحوم حول الشجرة السحرية ليقطف ثمارها الذهنية.