الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

فولتير.. مدخل جديد لفهم أسطورة التنوير

فولتير
فولتير

- أصيب فولتير بذهول مصحوب بمزيج من الغيظ والخوف وبدأت تنتابه كوابيس فى المنام واليقظة تدور كلها حول قشر البرتقال

- هل نستطيع الحكم على الطين باعتباره «مدنسًا مطلقًا» أو «مقدسًا مطلقًا»؟

الآن، و«الهبد» يركب الأمواج فى ابتهاج، لماذا أنزل إلى سراديب التاريخ المخفية لأفتش عن حكمة ضائعة فى سيرة فولتير؟

ماذا يهم الصاخبين فى العظات الهادئة؟

وماذا يفيد الجياع إذا علموا أن فولتير كان يقشر البرتقال للملوك، أو أنه هو نفسه كان «برتقالة» يعصرها الملوك للتمتع بقلبها، ثم يلقون بالقشر فى النفايات؟

فى المقال السابق استدرجنى الحنين للحكى عن «إبراهيم أصلان»، فكثيرًا ما أسمع صوته فى رأسى.. تعليقاته القصيرة المباغتة.. ضحكاته التى تجمع بين الخجل والفخامة.. ملاحظاته التى تحيل الحاضر إلى موسوعة فنية وأدبية ذات دلالات، لا يفهمها إلا من قرأ: «فاكر نفسه شاجال»، «حافظ قاموس اللجاجة واللواعج واللجالج»، «كلام ع الشعرة زى شغل جياكوميتى»، «لابس نضارة تشيكوف»... إلخ.

لم يكن فولتير حيًا فى حديقة الذكريات بينى وبين أصلان، فما الذى فرضه لكى أتورط فى وعد بكتابة مقال عن رجل لا أحبه شخصًا ولا مثقفًا؟!

انشغالى طيلة الأسبوع بمعضلة فولتير، سحبتنى إلى الدوامة التى لا ينجو من شرها أحد.. 

الحياة

نعم.. الحياة هى الورطة التى يستحيل التخلص منها وأنت فيها، فقد سمعت وقرأت عن كثيرين نجوا من الموت، وما زلت أنتظر أن أسمع «أو أقرأ» عن شخص ما، نجا من الحياة!

مشكلة فولتير أنه توهم أنه سيكون أول الناجين من الحياة، وفى سبيل ذلك سلك المسالك التى سلكها قبله سيزيف، لعله ينجح بالحيلة فى التحايل على الملوك والآلهة، التى جربها بعده كثيرون تنوعوا بين الفرسان «على طريقة السيد كيخوتة» وبين عبيد القصور ومهرجى البلاط وأراجوزات الشوارع والمسارح.

وفى النهاية لا يبقى إلا «العرض»، بكل ما يثيره من ذكريات وضحكات وتصديق للخيال والأكاذيب، حتى إن «الحياة» نفسها تتأثر بتلك الخيالات والأكاذيب، وتنسى حقيقتها وتصدق ما يروجه البهلوانات طوال القامة من أصحاب السيقان الخشبية، الذين يستدرجون الزبائن إلى علبة السيرك، وفى الداخل» نعصرهم، ثم نلقى بالقشر إلى الخارج!

«فلسفة غامضة وثقيلة الدم.. أين الموضوع؟»

أسمع بوضوح صوت قارئ عملى يؤمن بمبدأ «الفعل الأقل» فلا يعجبه هذا المدخل التهويمى.. أنا أيضا لا يعجبنى المدخل، ولا يعجبنى ما دفعنى إليه، وربما أيضًا ما ينتج عن السير فيه، لكنها الحياة «التى لا ينجو منها أحد»، فكيف أنجو؟

إذن، لا بد أن أمضى، لا بد من الرحلة وإن لم تعجبنا.

لاحظت فى رحلتى مع الحياة أننى عشت عمرى كله كطفل لاه، تدهشنى المنجزات والمعجزات والفتارين المبهرة والعناوين المضيئة وضجة الاحتفال بثوب الإمبراطور الذى لم أره، وعشتها أيضًا ككهل حكيم علمته التجارب أن الحياة سلسلة عظيمة من الأخطاء والخلط فى الرؤيا وفى الأحكام وتعدد وجهات النظر والتفسيرات المتعددة للشىء الواحد..!

المدهش أكثر أن الطفل والكهل ظلا نصفين لكائن واحد هو أنا، وهو أنت، وهو فولتير، وهو يوسف إدريس ونجم وموسى وعيسى وأديب.. وهو الحياة نفسها..!

كان القاص الراحل سعيد الكفراوى ينتقد سلوكى المتعفف فى العمل وفى الحياة، فيقول للأصدقاء المشتركين: «جمال بوريتانى والمرحلة مش عاوزه كده».

كنت أكتب مع الكفراوى لما كان مسئولًا عن الرسالة الثقافية لصحيفة «الشرق الأوسط»، كان أصلان حاضرًا فاحتد فى النقاش على غير عادته، وقال قبل أن يقوم ويمشى: «عموما أنا أولى بجمال.. إحنا بوريتانيين زى بعض»، وتزاملنا فى العمل، وفى «الحياة».

كانت معرفتى الأولى بأصلان من خلال حوار أجراه معه أديب يوقع باسم مستعار «سارة» فى مجلة «الدوحة» الثقافية عندما كان رجاء النقاش رئيس تحريرها، وفى الحوار ذكر أصلان وصية قالها له الشاعر العراقى عبدالوهاب البياتى خوفًا عليه من خطر الحياة: «يا إبراهيم خلِّ مسافة بينك وبين الواقع حتى لا ينكسر قلبك».

سكنتنى الوصية كأنها لى، وكنت أخطئ كثيرًا وأنسبها لغالب هلسًا بدلًا من البياتى، ولما تعمقت صداقتى بأصلان، اتسعت دوائر الدهشة، خاصة عندما كنت أنزل معه إلى حوارى إمبابة وأشاهد تعامله مع الميكانيكى وناظر مدرسة شادى، وباعة الرصيف: كيف يجتمع هذا الرجل الشعبى البسيط، مع الرجل الذى كان يحدثنى منذ قليل فى مضمون كتاب «العبودية الطوعية» والفروق الدقيقة بين نظرة تشيكوف وجوركى للحياة! 

قادتنى مفارقة أصلان إلى ما أسميته فى البداية «نظرية الوحل»، ثم هذبت المصطلح إلى «عقيدة الطين»، والقصد أن هناك أشياء ننفر منها لأنها تؤدى إلى «الاتساخ»، لكن هذه الأشياء نفسها تؤدى إلى الخير والنماء وأمان الإنسان، فالطين يلوث، والطين هو البيئة التى تنبت لنا القمح والورود وتشيد لنا بيوتا نحتمى بها.

العبرة إذن ليست بالحكم على الأشياء، العبرة بطريقة استخدامها والغرض من هذا الاستخدام.. من هذه النظرية أستطيع الكتابة عن حالة فولتير وسلالته، من غير أن أتورط فى هجاء الطين، لأننا منه وإن نسينا.. وهكذا الحياة!

عندما كنا طلابًا حالمين نناضل فى الجامعة بداية الثمانينيات، كنا نختلف فى النقاش حول هيكل، وفى مقابل انبهار و«تقديس» زملاء ناصريين كثيرين بقيمة هيكل كرفيق لعبدالناصر، كنت أنظر إليه كـ«مثقف سلطة»، وأشير إلى تحالفه مع السادات لتمكين حكمه عن طريق الإطاحة برجال سلفه، وكان هيكل يجاهر بموقفه العقيدى الثابت بأنه «مع الشرعية»، أيا كان شخص الرئيس، فمصر لا تحتمل الخروج عن مسار الشرعية لأى أسباب، وتمسك هيكل برأيه عندما ظهرت ملامح انقلاب السادات على سياسات سلفه، لكن الموقف تغير رويدًا رويدًا، مع انقلاب السادات على هيكل نفسه وإقالته من «مقر سلطته المعنوية» فى مؤسسة الأهرام.

كان لدى تعبير متحفظ وغامض بعض الشىء نصه: «هيكل آخر الفلاتير العظام».

«الفلاتير» نسبة إلى «فولتير»، و«العظام» لكى أنبه إلى استمرار «النموذج الفولتيرى» فى تعامل المثقف مع السلطة، من خلال شخصيات أقل إبداعًا وتأثيرًا، ليبقى السؤال ممتدًا وباحثًا عن إجابات:

هل يستوى هيكل وأنيس منصور وسمير رجب ومصطفى الفقى ومصطفى بكرى؟

هل نستطيع الحكم على الطين باعتباره «مدنسًا مطلقًا» أو «مقدسًا مطلقًا»؟

العدل يقتضى أن نتعامل مع الشخص والرسالة معًا، مع الوسيلة والغاية معًا، ومن هنا تأتى أهمية استعادة حكاية فولتير.

لا يوجد شخص مولود على هذه الأرض اسمه «فولتير»، «فولتير» شخص اعتبارى، مهنة احترفها شاب فرنسى فى بدايات القرن الثامن عشر اسمه فرانس أورويه، أراد والده «كاتب المحكمة» أن يشجع ابنه على دراسة القانون والارتقاء فى هذا المجال الذى يهيئ الفرص للعاملين فيه للاقتراب من الطبقة الحاكمة وبيوت الارستقراطية، لكن الولد أصابته غواية الصحافة، وأدركته «حرفة الأدب»، فترك دراسته بدون علم والده، وبدأ يكتب أشعار الهجاء والمقاطع الساخرة، وزينت له حياته البوهيمية أن يتطاول فى شعره على «وصى العرش» ساخرًا فى قصيدة له من علاقة مشينة للأمير مع شقيقته، وزجت القصيدة بشاعرها فى السجن، حيث اخترع فرانسوا شخصية فولتير، وحمل الاسم الذى التصق به بقية العمر.

فى تلك الفترة الانتقالية الصاخبة والمزدحمة بالتناقضات، كان اختراع «جوتنبرج» للمطبعة فى قرن سابق قد نما وأثمر، وأدى إلى ثورة فى وسائل الاتصال مع الجماهير «لاحظ ثورة السوشيال ميديا الآن»، فقد انتعشت طباعة الكتب والمنشورات الإخبارية، وظهرت صناعة الصحف بكل ما تؤدى إليه هذه الأوراق من رغبة فى الربح والبحث عن قضايا وموضوعات وفضائح تثير شهية القراء على شراء المنتج الجديد وملء وقتهم بالتسلية وعقولهم بالأفكار والإيحاءات والتوجهات الجديدة، وفى القلب من هذه الأفكار كانت فكرة «شكل الحكم»، فالملوك فى غالبهم كانوا يشجعون سرًا «وأحيانًا علنًا» الهجوم على «سلطة الكنيسة» ووصمها بالتخلف والخرافة والاستبداد، وبالتالى وجد الصحفيون والكتاب وفنانو المسرح والقساوسة المتمردون والمنشقون، وأصحاب الاتجاهات الجديدة «سوقًا رائجة»، و«دعمًا متنوعًا» لتقديم خدماتهم فى هذه المعركة «حمالة الأوجه»، لذلك لما شعر فولتير بالحصار والمطاردة وانقطاع الرزق فى فرنسا، نزح إلى إنجلترا، ليقدم خدمات المديح للنظام الانجليزى باعتباره أكثر انفتاحًا وتقدمًا من النظام الفرنسى، وفى كل انقضاض وهجوم يشنه فولتير على سلطة مدنية أو دينية، كان يرتكب فى الوقت نفسه سلوكًا نقيضًا فى الانتماء إلى سلطة أخرى تحميه وتنفق على مشروعاته، بحيث عاش طول الوقت فى الخطر وفى المنافى، وكذلك فى الحماية والخدمة والشهرة والثراء العظيم.

فى تلك الأيام التى شاع تسميتها بعد ذلك بعصر الأنوار، أو فترة التنوير الأوروبى، سادت كل ملامح مراحل الانتقال.. سلطات تزول وسلطات تقوم، دول تتفكك ودول تنهض، جديد يكتسح القديم فى طريقه، أدوات حديثة انتجها العلم تغير معادلات القوة والتأثير، فالقوة لم تعد حكرًا على حاملى السيوف والصولجانات، باتت متاحة لحامل القلم والمشخصاتى ومالك الصحيفة، و«قارئها أحيانًا»، فقد ظهرت مهنة «قارئ الصحف» للأثرياء ومن يجهلون القراءة..

زخم هائل وتناقضات متفاعلة تشبه التفاعلات الحيوية الخصبة فى طين زاد عليه السبخ ودود الأرض، فأصبح بيئة عفنة كريهة الرائحة للإنسان العادى، وتربة خصبة يختبئ فى سرها الخير للزارع والعالم والباحث عن الخير.

فى تلك الأجواء الصاخبة شاع صيت ملك جديد عظيم فى دولة ناشئة تدعى بروسيا «جزء من ألمانيا الآن»، كان «فريدريك الثانى» محاربًا عظيمًا أسس جيشًا قويًا وانتصر فى معارك حربية أمنت له الاستقرار والثروة الضخمة، وأتاحت له حلم تأسيس إمبراطورية حضارية متقدمة، فقد كان على المستوى الشخصى يعزف الموسيقى ويكتب الشعر، ويشجع العلم والفكر الجديد، وشيد قصرًا فى ضواحى عاصمته ليكون صالونًا للنقاش المنفتح وملتقى يجمع فيه المتميزين من رجال العلم والأدب من كل أنحاء العالم، وأطلق فريدريك أعوانه لإغواء العلماء والأطباء والمخترعين والشعراء المتميزين بالإقامة والعمل فى بروسيا، وبدأت ماكينة فريدريك تعمل بكفاءة، ووصل العرض إلى فولتير: قصر للإقامة وراتب سنوى خيالى وتكريم كبير من الملك قلاء عمل بسيط يتمثل فى حضور صالون الملك وتصحيح اللغة الفرنسية التى يكتب بها الملك أشعاره ومؤلفاته العسكرية والتاريخية، وأتوقف هنا فى جملة اعتراضية سريعة لأعبر عن دهشتى من احتقار الملك للغة بلاده، وغرامه باللغة الفرنسية الذى تعلم فى مدارسها طفلًا، ما يلقى أمامنا بخطر تدريس اللغات وفرنجة عناوين المحال والشركات وأسماء المنتجات فى بلاد صار العرب ينظرون فيها إلى اللغة العربية، كما نظر الملك البروسى إلى اللغة الألمانية، لغة متخلفة جامدة عاجزة عن التعبير!

نقفز إلى لحظة قبول فولتير العمل فى بلاط فريدريك، والاستقبال الحافل الذى قوبل به من «الملك الفيلسوف» (حسب تعبير فولتير)، وكان البلاط وقصر الأحلام فى «بوتسدام» (عاصمة موازية تشبه عندنا الآن شرم الشيخ أو دبى أو نيوم) يعج بأسماء كبيرة من علماء وأطباء وشعراء وموسيقيى العالم خاصة من فرنسا تلتها إيطاليا فى العدد والتأثير.

وقيل ما قيل عن عظمة فولتير وتقدير الملك له، ومعاملته كأهم شخص فى البلاط بعد الملك، حتى إنه يسبق الأمراء وشقيقات الملك فى حفلات العشاء وسهرات الفكر، وبرغم كل ذلك فوجئ فولتير ذات مساء بمعلومة أذهلته أخبره بها الطبيب الفرنسى الشهير «جوليان دو لا ميترى»، وكان مقربًا من فولتير ويزوره كثيرًا فى جناح إقامته بالقصر، وأترك فولتير يحكى لكم القصة كما دونها بنفسه فى أكثر من مصدر:

«كان لا ميترى السمين والمهمل، حكيمًا فى مهنته كطبيب، لكنه أحمق قليلًا فى كل شىء آخر، ولم يكن سعيدًا كما يتعمد الظهور أمام الجميع، لأنه كان يشعر بالحنين إلى وطنه، كما هى حال الفرنسيين عندما يغتربون؛ خاصة أن لا ميترى نُفى بسبب اعتناقه للمادية والقول إن الإنسان مجرد آلة مثل كل الآلات، هذا الرجل المرح الذى يضحك على كل شىء، يبكى أحيانًا مثل طفل، لأنه مغترب، لكنه فى تلك الليلة فى الأسبوع الأخير من أغسطس ١٧٥١ أخبرنى «لا ميترى» بالمعلومة التى أذهلتنى وأدارت رأسى، كان لاميترى يعمل قارئًا ومحدثًا للملك، وبعد انتهاء الوقت المخصص للقراءة دار الحديث عنى وعن المكسب من وجودى، وكذلك عن مشاكل الغيرة التى تزداد بسبب تفضيلى على الآخرين، فقال الملك: «سأحتاج إليه لمدة عام آخر على الأكثر، نعصر البرتقالة ثم نرمى القشرة».

أصيب فولتير بذهول مصحوب بمزيج من الغيظ والخوف، وبدأت تنتابه كوابيس فى المنام واليقظة، تدور كلها حول قشر البرتقال.

وفى المقال المقبل، قد نكمل القصة لنتعرف على «طينة التنوير» وتنويعاتها وتناقضاتها، وقد نترك الخط المستقيم وندور فى الدائرة، وفى الحالين الخلاف ليس كبيرًا.