الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

يوسف إدريس.. أديب ينبش جدار القبر حتى يواصل الكتابة

يوسف  إدريس
يوسف إدريس

- كان هو الوحيد على كوكب الأرض الذى يصلح لأمى ويفهم طموحها

- يوسف إدريس حين تمسك أصابعه بالقلم تنطلق الكلمة كالرصاص

نعيش هذه الأيام ذكرى رحيله الثالث والثلاثين، التى تنتصر على الحر المنهك، وتحوله إلى واحة رطبة، منعشة، تريح الأعصاب، نقطف من أشجارها، ما لذ وطاب، من ثمار الأدب الرفيع، والكلمات المتمردة على أبجدية اللغة، وآفاق الخيال العقيمة المحدودة. 

جاء إلى الوجود، ليجعله موجودًا، كما يحب، وكما يؤمن. لا يحب أن يمسك العصا من المنتصف، أو يوافق أهواء الحكام، أو يغازل رجال الدين، لكى يفوز بجائزة نوبل، أو جائزة أحد أمراء أو ملوك النفط.

كان متواضعًا، حينما قال: «أنا لا أقول كل الحقيقة، ولكن كل ما أقوله حقيقى». تواضع متفلسف، ورؤية عميقة، لا تدعى الانتصار على طول الخط، وكلمات تدعو إلى التأمل، والتفكير، والإعجاب، والحيرة. 

أحب أن أسميه «أديب النار»، يحرق بقصصه، ورواياته، الأشياء، ومن الرماد، تخرج النباتات والزهور، لواحد استثنائى من أنبياء الأدب، ورسل الكلمات.

هذه الأيام، تمر الذكرى الثالثة والثلاثون، لرحيله عن المتعة الوحيدة التى عاش، بأنفاسها، ومن أجلها، فارق الحياة.

مرت ثلاث وثلاثون سنة، وأصابعه تؤرقه فى مثواه الأخير، تريد أن تنبش جدار القبر، أن تزيح أكوام التراب، أن يخلع الكفن المبكر دون مبرر، ليرجع إلى أوراقه، وإلهاماته.

أنا متأكدة، أن كاتبًا مثل «يوسف إدريس»، من المستحيل أن يتوقف عن الكتابة، ولو بالموت. على يقين، أنه يكتب من تحت الأرض، بعد أن نضجت تجربته بخبرة الموت. ويتلقى كتاباته كل منْ لديه، ومنْ لديها، «رادار» داخلى، من طراز فاخر، ويترجم ما يمليه، إذا كان للموت لغة سرية، وقاموس ممتلئ بالأسرار.

«ما زلت أتذكر تلك الليلة، كنت فى زيارة للصديقة نوال السعداوى، وزوجها الدكتور شريف حتاتة، وهما فى غنى عن التعريف، فنوال كاتبة مفكرة ثائرة.. قصاصة.. كتلة ملتهبة من الشمس، انفصلت واستقرت على الأرض، ولا تزال شمسًا ملتهبة، لم تبرد بعد، ولا أعتقد أنها ستبرد، وشريف حتاتة، قضى نصف حياته مسجونًا سياسيًا، ودرس الطب بنبوغ، والآن أصبح من الروائيين الجدد المعدودين فى مصر.. عرّفانى بابنهما عاطف حتاتة، وابنة نوال، مُنى حلمى......... 

من أول لحظة، أحسست أن هذه الفتاة، التى لا تتكلم إلا نادرًا، فيها شىء خفى ما... 

ولهذا لم أفاجأ أبدًا، حين ذكرت لى نوال، أن منى، تكتب قصصًا... 

بيت من الُكتاب.. يا له من بيت.. قرأت لها قصة، وفى الحال أحسست أنها كاتبة وستكون، بل أيضًا أحسست نوع كتابتها.. إنها نساجة (كانافاه) من الأحاسيس الدقيقة التى تصدر عن نفس ناعمة جدًا، طبيعية تمامًا وغير طبيعية بالمرة، وإذا لم تكن هذه صفات أو بعض صفات الفنان، فماذا تكون؟....».

هذه بعض من كلمات يوسف إدريس، التى تضمنتها مقدمته، لكتابى الأول، مجموعة قصصية، صدرت عن دار مدبولى، القاهرة، بعنوان «أجمل يوم اختلفنا فيه». 

كيف أنساه؟. رجل، أديب، ثائر، وسيم، متجدد، جنونه مبدع، متوهج، وإبداعاته جنون. صديق قديم، حميم، لأسرتى، تحمس من تلقاء نفسه، لكى يقدمنى هو شخصيًا، لا أحد غيره، فى أجمل ثوب.. كاتبة، وأديبة، من نسج كلماته «اليوسفية الإدريسية».

اتصلت به، لأشكره، قال: «لا يمكن أن تكون ثمرة، نوال وأحمد حلمى، إلا أديبة، مثلك». 

يوسف إدريس، أديب نادر، تجرأ وجعل من القصة «القصيرة»، «أطول»، متعة للعقل، والعاطفة، وكرامة الوعى، وشموخ التمرد، الذى لا يخاف شيئًا، إلا لحظة فتور، أو تردد، أو تراجع، أو مهادنة.

صفات الفنان، فماذا تكون؟....».

يوسف إدريس، حين تمسك أصابعه بالقلم، تنطلق الكلمة كالرصاص، تخترق الدروع، التى نرتديها، فتسقط أقنعة الزيف، والقبح، والخواء. يكتب، تنهار الأسوار الحديدية، والقيم الأسمنتية، المشيدة آلاف السنوات، بين «الأسياد»، و«الفرافير».

كانت الكلمة، الصادمة، المشحونة بالصدق والصراحة، والبتر الموجع دون مخدر، هى الهواء الذى يتنفسه، يوسف إدريس. وحينما، لم يكتبها مات. حينما لم يكتبها، كتبته النهاية، «كلمة» لن يجف أبدًا، حبرها.

هو كاتب، بدرجة جرًاح. القلم فى يديه، كالمشرط. والجسد الملقى أمامه، ممتلئ بالعلل، والدمامل، والجروح، والحروق، والبؤر الصديدية. دون تردد، وبمهارة، وبراعة، وثقة، تمتد أصابعه، تطهر، وتقطع، وتنتزع، وتعالج، وتداوى.

عندما ظهرت مجموعتى القصصية الأولى، التى قدمها يوسف إدريس، كتب ناقد «كبير»: هذه قصص برجوازية، تحمل أولويات مرفهة، مستريحة. وتساءل: «أين القصص التى تتحدث عن أولويات الوطن؟ أين مشاكل النساء الفقيرات، المقهورات، الكادحات؟ أنصح الكاتبة المبتدئة، أن تفكر كثيرًا قبل أن تصدر كتابها الثانى». 

اتصلت بيوسف إدريس، وقرأت له النقد، بأكمله عبر الهاتف. صوته المفعم، باعتصار الحياة، فى رشفة واحدة، يقول، وبعد ضحكته المميزة، كأننى أسمعه الآن: «لا تسمعى كلام الأوصياء على الإبداع.. أسميهم «كهنة الأدب والقصة والشِعر»، أغلبهم جهلة، متغطرسون، كل واحد منهم كان يحلم بأن يكون كاتبًا وفشل، فاتجهوا إلى الوصاية على الكُتاب، تعويضًا عن فشلهم، ورغبة فى الانتقام ممنْ لديهم الموهبة، ونصبوا أنفسهم وسطاء بين الكاتب والناس، بالضبط مثل رجال الدين، الذين نصبوا أنفسهم، وسطاء بين الله وبين الناس. وهم أكثر قسوة مع كتابات النساء، اكتبى ما يحلو لكِ، وبأسلوبك أنتِ الذى ينبئنى بأنك ستتحولين، بعد القصة القصيرة إلى الشِعر. 

كونى نفسك، وأحذرك، لو استمعتِ إلى واحد من «كهنة النقد» هؤلاء، سينتهى أمرك. تعيشين مع نوال، وتعرفين كم من الحجارة تتلقاها، هى تدفع ضريبة الإبداع الجديد بكبرياء، وتكتب ما تؤمن به، وبطريقتها، كونى مثلها، فى أن المديح أو الذم، عندك سواء.. 

وتوقعى يا مُنى، أن بعض الحروب الشرسة المغرضة، قد تتحالف ضدك، لمجرد أنك ابنة نوال السعداوى، التى تؤرق مضاجع الجميع، فضحت بجسارة الخوف والكذب، وهشاشة أفكار القطيع، وداست على كل الخطوط الحمراء، لإرهاب الرجال والنساء.. 

هى هى، لم تتغير منذ أيام الزمالة فى الكلية، ولن تتغير، تقول للأعور أنت أعور فى عينه، ولو كان الملك، أو الرئيس، أو واحد من الأنبياء المرسلين». 

كانت هذه هى المرة الأولى، التى أسمع فيها، تعبير «كهنة النقد»، والذى أكدت لى الأيام، صحته، ودقته، ووظيفته، ودوافعه.

كانت أمى، نوال السعداوى، وأبى، أحمد حلمى، ويوسف إدريس، ثلاثة أصدقاء، منذ كلية الطب، «قصر العينى» فى منتصف خمسينيات القرن الماضى. يخرجون معًا، فى المظاهرات ضد الاحتلال الإنجليزى. ذهب أبى للحرب مع الفدائيين فى القنال. وعاد بعد فقدان صديقه الحميم، أحمد المنيسى. 

وكان أبى كاتبًا رفيعًا، وخطيبًا مبدعًا. وكانت الكتابة، والثورة ضد الاحتلال، وعشق الحرية، هى ما وطدت الصداقة، بين أبى أحمد حلمى، وأمى نوال السعداوى، ويوسف إدريس.

أصدر أبى، مجلة شعلة التحرير، ورأس تحريرها، وكانت أولى الصفحات، شهادة ميلاد، كاتب عظيم، الطالب يوسف إدريس. 

فى إحدى زياراته لنا، حدثنى يوسف إدريس، عن أبى، وعيناه تشردان فى الذكريات البعيدة، التى لن تعود. 

قال: «تعرفى يا مُنى أبوكى ده كان له قلم عظيم، رومانسى، وثائر، وممتع، هو أول منْ شجعنى على الكتابة، واكتشف موهبتى. أول قصة، كتبها فى مجلة شعلة التحرير، اسمها (كلب وغلام)، كانت حديث الكلية. كنا نغار منه، لقلمه الفريد، ووسامته، ولأنه أيضًا، استطاع بسهولة أن يستأثر بقلب، نوارة الكلية، وطالبتها المثالية، والأديبة الموهوبة، نوال. لكن حرب الفدائيين، وفساد السياسة، وموت واحد من أقرب أصدقائه بين ذراعيه، صدمته، وأحدثت جُرحًا عميقًا، لم يلتئم.. أصل أبوكى ده، مرهف، وحساس جدًا، مستغربتش لما عرفت إنه، بيعالج الفقرا فى عيادته مجانًا وعشان كده مات، ولم يترك إلا سيرته النبيلة فى قلب نوال، وابنة موهوبة فى الكتابة والشِعر والحرية». 

انفصلت أمى، نوال، عن أبى أحمد، باتفاق متحضر، بعد ميلادى بعدة أشهر. 

جمعت الصداقة الحميمة النادرة، بين يوسف إدريس، وأمى، وشريف حتاتة، ١٣ سبتمبر ١٩٢٣- ٢٢ مايو ٢٠١٧، أبى غير البيولوجى، الطبيب، والمناضل، والكاتب، نبيل المبادئ والطباع، عشت كل عمرى معه، ولم أحمل اسمه، والذى منحنى أروع الأبوة، وأكثرها حنانًا، ورقيًا، وجعلنى أكتشف أن رابطة الدم، ما هى إلا أكذوبة، من أكاذيب العالم الدموى، والأسرة الذكورية ذات النسب الأبوى الواحد الأحادى ربما فى وقت ما، سأغير اسمى، توخيًا للعدالة والأمانة، إلى «منى نوال حلمى شريف». 

كان هو الزوج الوحيد على كوكب الأرض، الذى يصلح لأمى، ويفهم طموحها، يدعم مواقفها وقضيتها، ويستطيع أن يستوعب كيف لامرأة، أن تنام وتصحو مع الكلمات، ولا تتردد فى الاستغناء عن أى شىء، يعطلها عن الكتابة، وتحقيق موهبتها إلى الذروة.

فى بيتنا بالجيزة، حيث كان يوسف إدريس يسكن قريبًا منه، كانت السهرات المنتظمة، تجمع بين، يوسف إدريس، ونوال، وشريف. وكنت أحرص على ألا تفوتنى سهرة، رغم صغر سنى حينئذ.

أجلس معهم، أسمعهم يتناقشون فى الفن والسياسة، والطب، والكتابة، والتغيير، وأحوال البلد، والعالم، عبودية الرجال، والنساء، وسجون القهر، ومتعة الحرية، ولذة التمرد، والإصرار على إيمانهم بأنفسهم، والتشبث بالمبدأ، رغم التحديات، والمعارك، كل بطريقته، وأسلوبه، وأولوياته. 

تصطدم بعض أفكارهم، لكن إنسانيتهم وصداقتهم الحميمة، لا تصطدمان أبدًا. يفور دمهم، ويتشاجرون، ويحتد بهم النقاش، ثم يضحكون، بعدها بلحظة واحدة، ويلقون النكات، كأن شيئًا لم يكن. وفعلًا، كنت أراهم ثلاثة من الأطفال الكبار، ومختلفين جدًا، إلى حد التشابه المدهش. 

فى إحدى السهرات، قالت نوال أمى، مخاطبة يوسف إدريس: «أنت مش محتاج ولا مطلوب منك، أن تصفق للنظام..». يسكت يوسف لحظات، ثم يقول: «إحنا دايمًا نختلف على الموضوع ده، وأنتى مش قادرة تفهمينى.. لازم يا نوال تعملى كبارى مع السلطة، والا هيعتموا على كتاباتك، عندهم خبرة طويلة فى تهميش وتشويه المعارضين.. بصراحة معنديش استعداد أديهم الفرصة دى». 

يرد شريف: «مش من حقى ألومك يا يوسف.. بس أنا شايف إنه لازم نخلق تيار يقدر يتواجد ويوصل صوته وكتاباته للناس، مستقل عن دعم النظام، وعنده ثقة أن الوقت فى صالحه». 

ترد نوال: «لو تنازلت مرة واحدة، هتتنازل على طول. أنت نجحت إنك تعمل كبارى مع السلطة، كويس... استمر. أنا بقى مهمتى أهدم الكبارى دى». 

يرد يوسف إدريس مخاطبًا شريف: «أنت عايش ازاى مع الست دى يا شريف؟». 

دى واحدة خطر، عاوزة تهدم، ولا يمكن تمشى غير اللى فى دماغها.. أنت مش خايف؟.

يرد شريف ضاحكًا، ممسكًا بيد نوال: «فعلًا حاجة تخوف». 

وينفجرون جميعهم فى الضحك. وأضحك معهم. وعلى غير توقع، يسألنى يوسف إدريس، 

«رأيك إيه يا منى.. اوعى تكونى زى نوال؟» كنت وقتها فى السنة الأخيرة، من الجامعة، ومن حسن الحظ، كنت أقرأ الليلة الماضية عن حياة الأديب الروسى دوستويفسكى. قلت: 

«دوستويفسكى بيقول، إن الكاتب لازم يستمر فى الطريق الصعب، حتى لو اضطر إنه يمشى لوحده». 

وهكذا، كان شعورى دائمًا، بيوسف إدريس، أنه واحد من أسرتى، التى أعتز، وأزهو بالانتماء إليها. وكم كنت محظوظة بهذه الأسرة. 

فى إحدى السهرات، قال شريف، مداعبًا يوسف إدريس: «أنت هاتخبى عليا.. كنت بتحب نوال من أيام الكلية، بس أحمد حلمى جه وخطفها منك». قال يوسف: «ومين يقدر ميحبش نوال؟؟... زمايلنا كلهم كانوا واقعين فيها، وهى ولا هى هنا.. مدخلش مخها غير أحمد». ترد أمى نوال ضاحكة: «أنا متخطفش يا يوسف، أنا اللى خطفت أحمد، مش هو اللى خطفنى». ويرد شريف ضاحكًا: «بالضبط زى مخطفتنى يا يوسف.. حد يقدر يخطف الست دى، مين ده، ولا الجن الأزرق». يضحكون، يتبادلون أحدث مؤلفاتهم، ويعلقون على ما يحدث فى البلد، وفى العالم.

«يوسف إدريس»، المعجون بالجنون اللذيذ، عاشق الكلمة. وردت الكلمة له، العشق بالعشق، وحجزت باسمه مكانًا، على مائدة الخلود، صعبة الإرضاء.

«يوسف إدريس»، أديب من طراز فاخر جدًا، وثائر من قماشة نادرة جدًا. ممتلئ بالشغف، والدهشة، والتناقضات اللذيذة الضرورية، لصناعة إنسان يتغير فى كل لحظة، وبدونها، لا يمكن لكاتب أن يبدع قصصًا مثل، خمس ساعات، قاع المدينة، أرخص ليال، بيت من لحم، جمهورية فرحات، البطل، لغة الأى آى، ليلة صيف، العتب على النظر، لا وقت للحب، على ورق سوليفان، العسكرى الأسود، رجال وثيران، العيب، اقتلها، الحرام، حادثة شرف، إلا إذا كان يتمتع بالجنون الضرورى، لتحطيم الأصنام الموروثة. 

يوم موت يوسف إدريس، كان يومًا صامتًا فى بيتنا. إنه الصمت الذى يلفنا، حين يصبح وجع وحزن الرحيل، أكبر من أبجدية الكلام. وحين بعد نسيان مؤقت، ندرك أننا جميعًا راحلون، مهما كانت مواهبنا ونبل مبادئنا. كلنا رغم النار التى أشعلناها، فى وجه القبح والقهر والزيف، يطفئنا التراب. 

كانت هذه بعض اللقطات المضيئة، المنحوتة داخلى، من ذكرياتى مع واحد من عباقرة الأدب، السهل الممتنع فى تشكيل الكلمات.. يوسف إدريس.

أكتب عنه، فى ذكرى رحيله الثالثة والثلاثين، بعد أن رحل أصدقاؤه الثلاثة، أحمد، وشريف، ونوال. 

وينهمر البكاء الدافئ، المقهور، عديم الحيلة، يبلل جفاف الأيام. فقد كانوا كل ما أملك.