أمى نوال السعداوى
3 سنوات من الغياب.. ولا أمنية إلا أن أحتضنها إلى الأبد تحت التراب
بعد أمى نوال لم يعد شىء فى العالم ولا أحد يهمنى فقد تحررت من كل الأمنيات والرغبات
رحلت أمى فى 21 مارس 2021 اليوم الذى وافقت الدولة على تغليظ عقوبة إجراء ختان الإناث
أمى «نوال».. وعيت على الدنيا، فلم أجد سواها، تحملنى معها أينما ذهبت، ولأننى طفلة بطبيعتى هادئة وحساسة، أدركت أننى يجب أن أساعد أمى، لم أكن أتشاقى وأعمل دوشة مثل الأطفال، أجلس فى مكانى حيثما تضعنى، وأتأملها فى الشغل صباحًا، ثم فى العيادة، والجلوس لتكتب مساء. لم أكن فى حاجة لأن أسألها: «أين أبى؟».
فهى بأمومتها الفياضة، سخية العطاء، المستجيبة لطلباتى المختلفة عن طلبات الأطفال، وتوفيرها طفولة حرة ليست فيها سلطة أو نصائح أو تعليمات أو أوامر ونواهٍ أو رقابة، أو أى نوع من الشكوك، وثقتها الكاملة فيما أنجبت أحشاؤها، كانت تغطى على وجود كل آباء العالم. كانت سمائى وأرضى.. تعتبرنى أجمل وأهم ابنة أنجبتها البشرية، تدللنى كأننى ملكة أجلس على عرش الكون.
تدللنى فى الصباح وفى المساء، كل وقت، وكل يوم فى وقت ما، كانت هى التى تصنع لى ملابسى، فهى تجيد الخياطة وتستمتع بها فى الحقيقة، كانت تجيد كل عمل يحتاج إلى يدين وأصابع، لذلك اشتغلت جراحة أمراض صدرية بعد تخرجها فى كلية طب قصر العينى، كانت أصابعها طويلة ونحيلة، تساعدها فى الإتقان والدقة.
لا تفعل أى شىء إلا باستغراق وشغف وتركيز واختلاف عن المعتاد والسائد والمألوف، لا تضيّع وقتها، فهو جريمة وخيانة وحماقة، ضحكتها ترن فى كل أرجاء الكون، تستيقظ فى الصباح وهى تغنى، بينما تعد الشاى والفطور، أسألها: بتغنى ليه يا ماما ده احنا لسه صاحيين، منعرفش إيه المستخبى النهارده ورا الشمس؟
تقول ضاحكة: أنا ابنة الشمس، أحدد إيه المستخبى.
دائمة المرح والتفاؤل، طيبة القلب بشكل كان يضايقنى، أقول لها: مش كل حد يا ماما تساعديه لما يطلب حاجة منك، لازم يكون شخص يستحق المساعدة.
وترد: لو أقدر أساعد ليه لأ.. ميهمنيش يستحق المساعدة ولا لأ.. يا منى اعملى الخير وارميه فى البحر.
وكنت دائمًا أخالفها الرأى: لأ يا ماما.. اللى يستحق بس.. وبعدين إزاى وليه أرمى الخير فى البحر؟.. البحر عشان السباحة مش عشان نرمى فيه الخير.
نضحك معًا، وكل واحدة تحتفظ برأيها. وعندما كانت تؤدى خدمة لأحد، ويتضح أنه أو أنها لم تكن تستحق، لأى سبب كان، لم تكن تندم.
ماذا أكتب عن أمى نوال، وهى لن تقرأ سطورى عنها، وإليها؟
منذ بدأت الكتابة، منذ سنوات طويلة، لم أكتب حرفًا واحدًا، إلا وكانت هى القارئة الأولى رغم انشغالها، وتعدد أنشطتها، كانت تخصص وقتًا لقراءة ما أكتبه، تقرأ بدقة، بدهشة، بزهو الأم، الكاتبة الأديبة، التى أنجبت طفلتها المحبة للكتابة والأدب منذ صغرها.
وامتزج هذا الزهو بالاطمئنان على مستقبلى. فأمى تتساءل دائمًا فى حيرة: كيف يعيش الناس الذين لا يكتبون؟
وعندما تيقنت أن الكتابة والشِعر والكلمات، أشجار وارفة مثمرة الأغصان، زرعتها، وسقيتها، وأجيد تسلقها، ارتاحت إلى مصيرى.
أورثتنى الكتابة عن قصد، وعمد، وخطة مسبقة. فأمى نوال ليست بالمرأة التى تأتيها الأشياء دون إرادتها. ليست أمى بالمرأة التى تنتظر فى قلق، احتمالات يمن القدر بها أو يبخل، وفى الحالتين تسجد شكرًا وامتنانًا، للغيب وحكمته الغامضة.
أرادت طفلة كاتبة، وابنة شاعرة، وكان لها ما أرادت.
عفوًا أمى نوال.. لو أننى عجزت عن التعبير بالقدر الكافى واللائق بكِ. فكيف لقطرات ماء أن تحيط بالبحر، وهل لجملة موسيقية واحدة مهما كان جمالها، وتفردها، أن تبوح بكل أسرار الموسيقى، وتفك سِحر الغِناء؟
ماذا أكتب عنها ولها، وتاريخ الزمان يطوى ثلاث سنوات بعد الرحيل؟ أحقًا عشت بعدها ثلاث سنوات، تنفست وأكلت وشربت وكتبت، واستمعت إلى الأغنيات، وشاهدت الأفلام، ورتبت غرفتها المواجهة لغرفتى، تؤنسنى صورها وكتبها وأقلامها وأوراقها، وخط يدها فى الأجندات، ورائحة ملابسها. نمت وأنا أحتضن خصلات من شعرها الفضى، تحرس منامى المؤرق، تغطينى بالبطانية القطيفة، تضع بجانبى الماء والدواء، تغلق الستائر، تحظر هجوم الكوابيس على عينى الباكيتين دمًا، لا يشتهى التوقف.. ثم تطفئ الأنوار، وتتلاشى فى الظلام؟
أحقًا، مرت ثلاث سنوات، وهى لا تسمعنى ضحكتها، ترقص لها الشمس، ولا أرى عينيها تطل منهما أسرار الكون، ولا أشتبك مع أحلامها المتمردة، المنقوشة على قميصها الوردى، لا نشرب معًا الشاى، ونأكل الجبن القريش، لا نشعل البخور المعطر بالياسمين، نسخر من حماقات العالم. نتبادل نظرات غامضة، نتحدث عن ذكريات منحوتة على جدران القلب، كما وجع الأمهات اللائى يعشن بعد فلذات أكبادهن، بسبب دمار حرب، أو غدر مرض، أو لعنة حادث.
وأن تختار الأم «زينب» اليوم ٢٢ من شهر أكتوبر، لتضع الطفلة الأولى للأسرة، هو فى حد ذاته، أمر غريب. اختارت اليوم الذى تتعامد فيه الشمس على وجه الملك رمسيس الثانى فى المعبد الكبير بأبوسمبل، فى أسوان، جنوب مصر، وهى الظاهرة الفرعونية الفلكية العجيبة التى حيرت العالم، والتى تتكرر مرتين فى السنة، مرة فى ٢٢ أكتوبر، ومرة فى ٢٢ فبراير.
ألهذا السبب، كانت الطفلة تشعر بعلاقة قوية محيرة، بينها وبين الشمس، تكبر، ويكبر معها هذا الشعور. كانت تجلس ساعات تحت أشعة الشمس، دون أن تتعب، أو تخاف أن تسمر بشرتها، السمراء بالفطرة، تنتظر الشروق كأنما تنتظر ولادة جديدة، أو سرًا خفيًا ينكشف، أو فكرة رواية تخترق زجاج النافذة مع أشعة الشمس، أو قرارًا مترددًا يطمئنها أنها على صواب؟
أمام الناس، اسمها نوال لكنها أسمت نفسها فى بطاقة شخصية من تأليفها، إبنة الشمس، وليس مستغربا، أن يكون أحد كتبها المفضلة لديها بعنوان «امرأة تحدق الشمس».
أمام الناس، كانت أمى وهذه كانت لعبتنا الصغيرة، أو خدعتنا النبيلة، أو الكذبة الصادقة عشناها قدر ما سمح الزمن، كان «تزويرًا رسميًا» على الملأ، فى وضح النهار، انطلى على الجميع، ولم يثر شكوك أبرع الخبراء.
ما الحقيقة، فهى أنها كانت «طفلتى» البكر، والوحيدة، أنجبتها دون رجل، لم تشعرنى بألم الولادة، وحتى عنى رحلت، أبقينا على الحبل السُرى، غير المرئى.
هى طفلتى، أزهو بها، أسميتها نانا، فى السجل المدنى لقلبى، أحملها معى فى كل مكان، ومنحتها كل أمومتى العزباء، رغم أننى من النساء المنشغلات جدًا بذواتهن، يعشقن الوحدة، والصمت، والاعتكاف، لا أريد التزامات، ولا مسئوليات، ولا مشاعر تسبب لى القلق، والأرق. وأكثر ما يزعجنى، وأعتبره من منغصات الوجود الكبرى، أن أحتمل العيش مع أطفال.
لكنها طفلة، تتمناها كل أم، طفلة تناسبنى، لا تحملنى أى أعباء، هادئة، تصحو وهى تغنى، متمايلة على إيقاعات حلم لا يفارق الوسادة، متأملة، لا تلعب بالعرائس، ولكن بالأسئلة الممنوعة عن الأطفال، المحرمة على الكبار.
طفلة مسئولة عن نفسها، عن أوقاتها، عن جسدها، عن تنظيف غرفتها، وترتيب أشيائها كما يحلو لها.
لا تريد إلا أقلامًا وأوراقًا وغرفة خاصة بها، لا يدخلها أحد، إلا مداعبات الشمس، وإيحاءات المطر، وأن أحتضنها مرتين فى اليوم. مرة عندما تفتح عينيها مع شروق الشمس، ومرة عندما تغلقهما مع غروبها. ومن حين لآخر، أشترى لها الجوافة، والبلح الزغلول، والتين البرشومى. وآخر كل أسبوع، أصنع لها فطيرة الذرة، تأكلها بشغف وهى شاردة، يمتزج فى عينيها حزن ومرارة. وحين أسألها تقول: ريحة فطيرة الذرة بتفكرنى بأمى.
بعد رحيل أمى، نوال، لم أعد أستطيع تحمل رائحة فطيرة الذرة، رغم أننى أحبها، وأشتهيها. ويزداد الأمر صعوبة، لأننى أحب جدتى، كما لو كنت عشت معها، زمنًا طويلًا. جدتى لأمى زينب، نزف آخر فى قلبى لن يتوقف. لكننى من أجلها، ومن أجل أمى، سأحتمل الألم، وأصنع فطيرة الذرة، لتكون هديتى لها، كل موعد، فى عيد الأم ٢١ مارس، تاريخ الرحيل.
وأمى كانت، التى اخترتها من بين ملايين النساء. كنت على وعى تكون مليارات السنين، أننى وبعد الانفجار العظيم، «موجودة» دائمًا فى مدارات لا نهائية.
موجودة، بشكل ما، فى الفضاء الكونى، لا أتوقف عن السفر والتجول، الدوران والبحث الدقيق، عن الجسد الذى أنفذ اليه، وأستقر داخله على كوكب الأرض. جسد يشبهنى، له فصيلة روحى، وحركة دمى، يمكنه حمل تمردى، واحتمال عصيانى، وترجمة وجودى إلى شكل بشرى، وعلى هيئة امرأة.
ورأيت تلك السمراء الفاتنة، بحرف النون الذى أعشقه، عينان غارقتان فى أشجان الليل وأفراحه وحيرته، رشيقة القوام، لا تضع الكحل وأحمر الشفاه، لا تلبس الكعب العالى، بسيطة المظهر، متفوقة فى دراستها، تقود المظاهرات ضد الإنجليز والقصر الملكى الفاسد، تلعب التنس، تناقش الأساتذة برقة وثقة، ليست فى حقيبتها مرآة أو مشط، هادئة الصوت، جادة الجوهر، لا تحب المياعة والهزار المعبق، بروائح الفساد والكذب والتهذيب المزيف، وازدواجية المعايير، أسموها فى طب قصر العينى «نوارة الكلية».. «زعيمة الكلية»، لم يعرفوا أنها منذ نعومة أظافرها، تكره الألقاب، والزعامة، والزعماء.
أتتبع خطواتها أينما ذهبت. بعد الكلية، تذهب إلى البيت، وفور وصولها، تستعد لتجهز الغداء مع أمها، لأسرتها المكونة من ١١ شخصًا، الأب «السيد السعداوى» الذى اعتقد أنها نبوءة، والأم زينب التى تقول دائمًا: نرمى نوال فى النار وترجع سليمة، وست بنات، وثلاثة أولاد.
أتجسس عليها، دون أن تدرى، أو تلاحظ. أليس من حقى التأكد من مصيرى، مليارات من السنوات الهائمات؟
بعد الغداء، لا تسمح لأمها أن تفعل شيئًا، إلا أن تستريح مع الأب، فى غرفتهما ذات الشرفة المطلة على نعناع، زرعته «زينب هانم» بيديها.
أقطف غصنًا من النعناع، وأقف أشاهد «أمى فى المستقبل»، وهى تغسل الصحون، وتنظف وتغسل وترتب، تتحدث قليلًا مع أخواتها وإخوتها، تطمئن أن كل شىء على ما ترضاه، وتخلد سعيدة إلى النوم، أصيح غير مصدقة: «وجدتها.. وجدتها».
لم أشعر بأننى بحاجة إلى التدخل فى تحديد أبى البيولوجى، فأنا واثقة من اختيارات نوال أمى، قلب من حرير، وعقل من حديد، وأعرف صفات الرجل التى تجذبها، تنسجم مع خيوط الحرير، وتلين بسلاسة صلابة الحديد. أى رجل، أى أب، يرضيها، دون شك، يرضينى.
ثلاث سنوات مرت، وأنا لا أعرف أين راحت، أين ذهبت، أى طريق مشت، عند أى محطة توقفت، فى أى بيت دخلت، على أى سرير نامت؟
عرفت السِر «النوالى» عندما استعدت إحدى مقولات «جبران خليل جبران»: المرأة التى يتحسن مزاجها من كتاب، قصيدة، أغنية، أو كوب قهوة، لن ينتصر عليها أحد، حتى الحياة تخسر أمامها».
الأمر الآخر المحير، أنها مستغنية عن كل الأشياء، المناصب والجوائز والفلوس والممتلكات والشهرة والجواهر والماكياج والأزياء الفاخرة، والمديح والذم لديها سواء، لا تريد من هذا العالم «المعوج»، إلا أن تُترك لتستغرق بالساعات، دون إزعاج لتكتب كيف «ينعدل؟».
كتبت أمى مقالًا عنوانه «جائزة الاستغناء عن الجوائز»، بعد أن طالب البعض بتكريمها فى وطنها مصر، بإهدائها «قلادة النيل»، أعلى وسام مصرى. وهو ما لم يحدث طوال تاريخها. بينما فى البلاد العربية، وعدد كبير من دول العالم، من أكبر الجامعات، وملتقيات الأدب والإبداع، والجمعيات النسائية والثقافية، ودعيت لإلقاء كلمة الافتتاح فى أهم المؤتمرات الفكرية والأدبية العالمية، وعدد من كتبها ورواياتها يُدرس فى مدارس وجامعات العالم، منها بلاد عربية مثل تونس. ومُنحت أعلى الأوسمة من رؤساء الدول، على سبيل المثال، وسام الجمهورية الفرنسية، وسام الجمهورية التونسية، وسام كتالونيا فى إسبانيا.
بينما فى مصر، تُكرم عضوات وأعضاء أحزاب الترقيع الفكرى والنفاق الدينى وكاتبات وكُتاب الدرجة العاشرة ومداهنة التيارات الإسلامية الأصولية الإخوانية الوهابية السلفية الذكورية.
قالوا عنها صادمة لجرأتها، وترد قائلة: لست جريئة.. العالم هو اللى جبان.
وقالوا متوحشة، وتقول: نعم.. لأننى أقول الحقيقة، والحقيقة متوحشة.
وصفوها بأنها تكره الرجال، ويأتى ردها: لا أكره الرجال.. أكره النظام الذى جعل من الرجال مطرقة حديدية تضرب النساء.
قالوا ضد الأنوثة، ردت: أنوثتى هى تمردى.. حريتى.. تفردى.
قالوا ضد الأمومة، قالت: الأمومة ليست نكران الذات وتضحية بالكرامة.
رحيل أمى، كابوس مرعب، يسبقنى كل ليلة إلى وسادتى وسريرى.
لم تكن أمى، ترضى أن تنام رقدتها الأخيرة، دون رضاها. اختارت حياتها، وكذلك اختارت الرحيل فى شهر مارس، شهر المرأة فى العالم «٨ مارس»، وفى مصر «يوم المرأة العالمى»، اختارت يوم ٢١، أول أيام موسم الربيع، عيد المرأة الأم، التى كانت تحلم بأن تمنح اسمها لأطفالها، شرفًا، ومجدًا، وأكبر دليل على حبها وتكريمها.
رحلت أمى فى ٢١ مارس ٢٠٢١، اليوم الذى وافقت الدولة على تغليظ عقوبة إجراء ختان الإناث، القضية التى هاجمتها وطالبت بإيقافها، لأول مرة فى خمسينيات القرن الماضى، واُضطهدت بسببها دينيًا، ومهنيًا، وثقافيًا، وأخلاقيًا، وبعد ذلك، هاجمت ختان الذكور أيضًا، وطالبت بإيقافه وتجريمه. سيأتى يوم قريب، ويتحقق ما أرادته.
يا للمفارقة، اليوم الذى ماتت فيه أمى، وتوارى فى التراب، جسدها المرصع بالنجوم، ومجد الاستغناء، كانوا يحتفلون بنساء هاجمن تجريم الختان، ثم أطلقوا عليهن «رائدات» تجريم الختان، وبالأمهات المثاليات، يبتسمون ويسلمون الجوائز، ولم أسمع كلمة واحدة عن أمى. وسوف يتكرر الأمر، هذا عن يقين، عشناه العمر كله.
هذا ليس بحثا عن كلمة تقال فى حق أمى. هى لا تحتاج شيئًا من أى أحد، لا تحتاج تكريمًا من أحد، ولا اعترافًا من أحد. لكننى أرصد ظاهرة فى مجتمعاتنا طاردتها فى حياتها، وصنعت جبهة تضامن من جميع الأهواء، والأطياف، والأيديولوجيات، أديبات، أدباء، نقاد، يمين، وسط، يسار، حكومة، مستقلين، أحزاب، معارضة، إعلام مرئى ومقروء ومسموع، جمعيات نسائية، فى مشهد تاريخى فريد فى نوعه، وامتداد زمانه، عبوره الأجيال على مدى سنوات، وفى طبيعته العدائية العنيفة.
أتذكر عندما كنت أشعر بالضيق أحيانًا من هذا الموقف، تبتسم أمى قائلة: لا تبالى بهم، هم يدافعون عن وجودهم، ولا يملكون إلا هذه الأسلحة.. أسلحة رخيصة متهالكة، لكنها هى بضاعتهم الوحيدة، ويومًا ما سوف تصوب إليهم.. وكلما زادوا شراسة، تيقنت أن سهامى قد أصابت الأفعى السامة فى رأسها.
أمى لم تمرض يومًا واحدًا فى عمرها، أخطأ الأطباء دون إقرار بالخطأ، فأعجزوها، وهى الرياضية، دينامو الطاقة والحيوية.
حجبت آلامها لأنام الليل فى سكون، وهدوء، كنت لديها أجمل وأهم ابنة فى الكون، وعاطف حتاتة أخى، كان لها أجمل كتاب، غزلته يداها.
كانت لى ولعاطف، زهرة عمرنا، ونبض قلوبنا.
بعد أمى نوال، لم يعد شىء فى العالم، ولا أحد يهمنى، تحررت من كل الأمنيات والرغبات، إلا أمنية، ورغبة السفر اليها لاحتضنها إلى الأبد، تحت التراب.
كانت فاتحتى وهى خاتمتى، فى حياة مُرة المذاق، لم تعد فيها.
أمى نوال.. أول السطر، لكنه بلا نهاية.
أمى، هى القصيدة التى لن أستطيع كتابتها، وإن استطعت أعجز عن تكملتها.
بعد رحيل أمى نوال، ما زلت أكتب، وأعتنى بصحتى، ليس رغبة فى الاستمرار، ولكننى وعدت أمى، وأنا لا أخلف لها وعدًا، أننى سأظل أقاوم حتى النفس الأخير، وألا أنهزم، وألا أفشل، وألا أضيع أمومتها هدرًا.
اعتزازًا وفخرًا بأمى نوال، غيرت الاسم الأدبى، لمؤلفاتى ومقالاتى وقصائدى، إلى منى نوال حلمى.